مجلة وفاء wafaamagazine
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، قداس الاحد في المطرانية في بيروت في حضور عدد من المؤمنين.
وبعد الانجيل المقدس، ألقى عودة عظة عايد في مستهلها “المعيدين اليوم بالفصح المقدس”، سائلا الرب إلهنا أن “يحفظهم ويحفظ لبنان وجميع أبنائه”.
وقال: “ها قد وصلنا إلى منتصف الطريق الصيامي، مع الأحد الثالث المخصص للسجود للصليب الكريم المحيي. الإنسان، في عبوره طريقا طويلا، يتعب وتخور قواه، ويشعر برغبة في التراجع والعودة من حيث أتى، مع أنه يكون قد جاز شوطا كبيرا. هكذا يحدث في الصوم الكبير، إذ يضعف الإنسان جسديا بسبب الأكل القليل، وبسبب الجهاد في قمع الأهواء واللذات، فيفكر بالتراجع والعودة إلى الحياة العادية المادية العالمية. لذا، وضعت كنيستنا المقدسة أحد السجود للصليب الكريم المحيي في وسط الصوم، لكي يتشدد من بدأ يتراخى، ويتذكر أن بعد كل ألم قيامة”.
أضاف: “يقول القديس أفرام السرياني: “المجد لك يا من أقمت صليبك جسرا فوق الموت تعبر عليه النفوس من مسكن الموت إلى مسكن الحياة”. نحن لا نقف عند ألم الصليب، لأن الألم يكمل بالقيامة البهية، فيكون خلاصنا كاملا. المسيح تجسد وتألم ومات وقام لكي يعيدنا من الضلالة التي انحرفنا إليها، وينقذنا من خطايانا التي تسبب لنا الآلام والموت، ويقيمنا معه مكللين بإكليل الظفر، هو الذي كلل بإكليل الشوك من أجلنا. يقول القديس يوحنا كرونشتادت: “حينما ترفع نظرك إلى خشبة الصليب المعلقة فوق الهيكل، أذكر مقدار الحب الذي أحبنا به الله، حتى بذل إبنه الحبيب لكي لا يهلك كل من يؤمن به”. الصليب هو علامة المحبة الكاملة. لا أحد يمكنه أن يقول إنه يحب الآخر إن لم يحتمل الآلام معه أو من أجله. هذا ما يفعله الأهل من أجل أبنائهم، وما يجب أن يفعله كل مسؤول من أجل من تسلم مسؤولية قيادتهم. يقول القديس يوحنا أيضا: “أينما وجد الصليب وجدت المحبة، لأنه هو علامة الحب الذي غلب الموت، وقهر الهاوية، واستهان بالخزي والعار والألم. فإذا رأيت الكنيسة مزدانة بصلبان كثيرة، فهذه علامة على امتلائها بالحب الكثير نحو جميع أولادها”.
وتابع عودة: “سمعنا في رسالة اليوم: “إذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات، يسوع ابن الله، فلنتمسك بالإعتراف”. يشرح القديس نيقوديموس الآثوسي هذا القول قائلا: “الرب يسوع المسيح هو الكاهن الأعظم، بمعنى أنه هو أقام الذبيحة الحقيقية بنفسه، وقدم جسده ودمه فداء عن كل واحد منا، يسوع جمع السماء مع الأرض بتجسده، ورئيس الكهنة يسوع، بهذا التجسد، عاش ككل إنسان التجربة، وتغلب عليها. هكذا نحن، باتحادنا به، نتغلب على الخطيئة والتجارب، نحن لنا كل الثقة بالرب، فهو قد غلب العالم والموت بموته”. برفعنا الصليب الكريم المحيي، وسجودنا له، نتمسك بالإعتراف بأن المصلوب عليه خلصنا من خطايانا بدمه المسفوك، ونتعهد بالتوبة وعدم العودة إلى الخطايا السالفة، وبالجهاد في سبيل الوصول إلى القيامة البهية”.
وسأل: “كيف نتعهد بكل ذلك؟ يعطينا الرب يسوع، في إنجيل اليوم، الخطى العملية لذلك: من أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه، ويحمل صليبه ويتبعني، لأن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن أهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلصها. كثيرون يفضلون الراحة على حمل الصليب. يطالبون الرب أن يريحهم من آلامهم والصعوبات التي يمرون بها، وينسون الصلاة التي علمنا إياها الرب يسوع، والتي طبقها بنفسه ليعلمنا أن تطبيقها ليس مستحيلا: “لتكن مشيئتك”. الصليب والألم في حياة المسيحي هما بركة، كما يعلمنا الآباء القديسون. يسمح الرب بأن نمر في الآلام الوقتية لكي نتنقى مثل الذهب الذي يمرر في النار لانتزاع الشوائب منه. يقول الرسول بولس: “مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه من أجلي” (غل 2: 20). فإذا آمنت أن ما أمر به من خيرات أو ضيقات، إنما هي بسماح من الرب لخيري، عندئذ أتقبل الألم بفرح مساو للفرح بالأمور الحسنة. يقول الرسول بولس أيضا: “الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غل 5: 20). المطلوب منا، كمسيحيين، أن نتخلى عن كل أمر يعرقل وصولنا إلى الملكوت، مهما بدا هذا الأمر مؤلما. المتعلق بالمال عليه أن يساعد المحتاجين، فإن خسارته هنا تربحه الملكوت الآتي. والمتعلق بالسلطة عليه أن يتنازل عن أناه، ويعمل من أجل الخير العام، وإلا فليسلم السلطة إلى آخرين، ربما يكونون أفضل منه في القيادة والعطاء والتضحية. الكبرياء تجعل الإنسان يظن أنه المنقذ الوحيد، فيتألم إذا رأى آخرين قادرين على حمل صليب المسؤولية بفرح أكبر وعطاء أكثر. لذلك على المتسلط المتمسك بعرشه أن يراجع ذاته، ويصلب هوى السلطة لديه، حتى يصل، مع من تولى مسؤوليتهم، إلى القيامة البهية”.
وشدد على أن “المسؤولية صليب إن كان حاملها ذا ضمير حي، وحمل الصليب ليس سهلا، لكن من نذر نفسه للخدمة لا يتوقف أمام المصاعب، بل يحاول جاهدا تذليلها والتخفيف عن كاهل المواطن. مشكلتنا في لبنان أن المسؤولين يتذمرون من الوضع أكثر من المواطنين، وكأن على المواطن إيجاد الحلول. اللبناني دفع من حياته ولقمة عيشه وكرامته، ودفع في انفجار 4 آب أولاده وممتلكاته، وما زال بعد سبعة أشهر يطالب بحقه في معرفة سبب ما حصل، ومعرفة مصيره، والبلد في مهب الريح.
قيل قديما صاحب الحق سلطان. في هذا البلد الحق لا ينفع الإنسان، لأن شعب هذا البلد، الذي هو صاحب الحق في العيش بسلام وأمان وكرامة، مهضوم الحق والكرامة. عندنا حق محو الآخر سلطان، حق التشفي والإنتقام سلطان، حق ملء الجيب سلطان، حق القرابة سلطان، أما الشعب الموجوع فعليه التزلف والتزلم للوصول إلى حقه، أو الموت بؤسا أو يأسا”.
واعتبر أن “السياسة في هذا البلد مصلحة ومنصب شرف، فيما يجب أن تكون عملا دؤوبا وتضحية قصوى من أجل الخير العام. المسؤول، أي الرئيس والنائب والوزير، قيمته ليست في لقبه بل في ما يعمل وينتج، وسوف يذكر التاريخ مآثره وإنجازاته لا لقبه. لذلك ترك لنا التاريخ أسماء كبار، ونبذ أسماء كثيرة لم يعد أحد يتذكرها. فما نفع الألقاب إن لم يترك صاحبها ما يخلد ذكراه؟ ما نفع الصلاحيات التي يطالب بها البعض إذا انهار البلد؟ ما نفع الحصص التي يتمسك بها البعض إذا فقدنا البلد؟ هل تبنون أمجادكم على أنقاض الدولة؟ وهل يتحمل المعرقلون تبعة انهيار البلد أو زواله؟ ألا تعلمون أن كل لبناني نقي في إنتمائه مؤتمن على كل حجر وشجر ومياه والوطن. الإنسان المحب لوطنه، ينمو ويدخل التاريخ كأرزة عنيدة في حبها لأرضها، تغوص جذوعها في أعماق الأرض لا تنفصل عنها بل تبقى متشبثة بها”.
وأضاف: “إن المرحلة الحاضرة قاتمة، غامضة، ومعقدة إن لم نقل خطرة، والشجاعة تكمن في ابتداع الحلول الإنقاذية. أما البطولة ففي ابتداعها على حساب الأنا، كالأم التي تعطي من ذاتها لتحيا عائلتها. فعوض التلهي بالحصص والمكاسب، على المسؤولين أن يفتشوا عن حلول تنقذ الوطن والمواطن المهدد بالجوع، وقد تراجعت قدرته الشرائية، وأصبح عاطلا عن العمل، وانهارت ليرته، وتلاشت إمكانية عيشه في بلد تنتهك حقوقه وتسرق ثروته النفطية من القريب والعدو، وتبدد ثروات أبنائه بالفساد والتهريب، وهو بلا سلطة تنفيذية فاعلة تتربص بكل ما يهدده، وتتحمل المسؤولية، وهو مهدد بالعتمة ولم يتوصل المسؤولون فيه بعد إلى حل لمشكلة الكهرباء وسائر مشاكله”.
وأشار الى أن “هوة سحيقة تفصل في ما بين المسؤولين، وتفصلهم عن شعبهم، وحتى الآن لم نلمس نية جدية لإمكانية التلاقي في ما بينهم، والبناء على ما يجمعهم، والعمل على معالجة ما يفرقهم. التحذيرات الدولية والإتهامات المتكررة تتوالى لكن الآذان صماء، كما صمت عن أنين الشعب. إذا صفت النيات واجتمعوا، إذا وضعوا مصلحة لبنان فوق كل المصالح، وأبعدوه عن كل المشاكل الخارجية والمصالح الخاصة، سوف يتوصلون إلى حل يرضي ضمائرهم وشعبهم، وسوف يكون لهم أجر عند الله لأنهم ساهموا في إنقاذ وطن يتهاوى”.
وختم عودة: “في هذه الأيام المباركة، أملنا أن يعود المسؤولون إلى ذواتهم ويتأملوا في ما وصل إليه الوضع، وفي ما فعل كل واحد منهم لإذكاء الصراع وتعقيد الأزمات عوض منع الإنهيار. وليكن ذلك حافزا لهم على العمل الدؤوب من أجل التلاقي وتأليف حكومة تضطلع بدور إنقاذي أصبح أكثر من ضروري، قبل فوات الأوان.
رجاؤنا بمحبة الله وعدله كبير، لذلك نقبل بفرح كل ما يسمح به، لأن الصليب الذي يسمح بأن نحمله لن يفوق قدرتنا على التحمل. فلنثق بالرب الذي صلب من أجلنا، ليخلصنا من الآلام والموت، ولنحمل بركة الصليب في حياتنا هاتفين: لصليبك يا سيدنا نسجد، ولقيامتك المقدسة نمجد”.