مجلة وفاء wafaamagazine
يحيى دبوق
تنتظر تل أبيب ردّاً على اعتدائها الأخير الذي طاول سفينة إمداد إيرانية قبالة سواحل إريتريا قبل أسبوعين. انتظارٌ يُصاحبه قلقٌ في شأن مستوى الردّ وحجمه ومدى أذيّته، والذي سيكشف الحدّ الذي تريد طهران أن تصل إليه، في مواجهة تُولّد تجاذُباً إسرائيلياً داخلياً، وتحذيرات من محدودية قدرات إسرائيل مقابل قدرات إيران على الإيذاء في المعركة البحرية، التي تَحوّلت، في الحدّ الأدنى، من فرصة إلى تهديد، يُمثّل “اللايقين” الذي يحيطها جزءاً لا يتجزّأ منه.
أرادت إسرائيل للمواجهة البحرية التي بدأتها ضدّ إيران، أن تكون جزءاً من “المعركة بين الحروب” عبر توسيع رقعة هذه الأخيرة، بهدف وضع حدّ لتطوُّر قدرات أعدائها، في موازاة إشغالهم بتموضُع دفاعي سلبي يردعهم عن أيّ محاولة في هذا الاتجاه. وشَجّعت إسرائيلَ على تحريك اعتداءاتها من ساحة إلى أخرى، جملةُ عوامل، منها الذاتي ومنها الخارجي المرتبط بردّة فعل الأعداء التي جاءت متواضعة قياساً إلى الاعتداءات نفسها، التي لم تستطع، مع ذلك، إيقاف مسار تعاظُم الإمكانات لدى المحور المقابِل.
يعود قرار “اللاردّ” لدى أعداء إسرائيل ــــ بمعنى الردّ المتناسب مع الاعتداءات والرادع لها ــــ إلى عدّة مسبّبات مرتبطة بمجملها بساحة الاعتداء نفسها التي تفرض تغليب مصلحة على أخرى. إلا أن هذا القرار أسهم، في الموازاة، في أن تُفرِط إسرائيل في تقديرها لذاتها، وتَعتقد أن بإمكانها نقل المعركة وتحريكها كيفما شاءت وبأيّ مستوى وضمن أيّ ساحة يمكن أن تطالها بقدراتها الذاتية، أو عبر وكلاء يتخادمون معها عبر الاعتداء على المحور المقاوم. في هذا السياق، جاءت المواجهة البحرية التي أريد لها أن تستهدف، أوّلاً، إرساليات سلاح من إيران إلى حلفائها، ثمّ تطوَّرت إلى استهداف سفن إمدادات مدنية، وفي المقدّمة إرساليات المواد النفطية ومشتقّاتها إلى سوريا وغيرها من الساحات. هكذا، انتقلت المعركة إلى المياه الدولية، حيث عوامل الكبح المرتبطة بساحات المقاومة نفسها غير موجودة، ولا تمنع الردّ الإيراني، المتناسب أو غير المتناسب، وفقاً لقرار طهران الذاتي، الذي لا يشاركها فيه، منعاً أو كبحاً أو حتى كذلك دفعاً، أيٌّ من شركائها في الإقليم.
عاموس يادلين: في الحرب البحريّة مع إيران، وَضعت إسرائيل نفسها في مكان هي فيه أضعف
جاء القرار الإيراني، على ما يبدو، بالردّ المتناسِب، كمّاً ونوعاً ومستوى، على أيّ اعتداء بحري إسرائيلي، وهو ما تجلّى في تنفيذ ردَّين ــــ على الأقلّ ــــ معلنَين. كان بمقدور إسرائيل، بعد الردّ الأول وكذلك الثاني، أن تفرمل اندفاعتها البحرية، لكنها قرّرت، وهنا المفارقة، الاستمرار في المعركة عبر استهداف السفينة الإيرانية في البحر الأحمر، على رغم إدراكها أن الردّ الإيراني آتٍ، وفي صورة ربّما تتسبّب في توسيع الردود وانفلاشها لاحقاً، بما يضرّ بمصالح تل أبيب في أكثر من اتجاه. ويبدو أن هذا القرار استند إلى تقديرات لم تنظر إلى المواجهة البحرية نفسها فقط، بل إلى المواجهة الأشمل التي تُمثّل البحار واحدة من ساحاتها. كما بُني على معطيات ترتبط بتوقيت ومسار حسّاسَين جدّاً، من شأنهما الإضرار بموقف إسرائيل المعارِض لأيّ تسويات في المنطقة، أو تحوُّلات في الموقف الأميركي من إيران بعد ثبوت فشل “الضغوط القصوى” على الأخيرة. وهو ما يوجب على تل أبيب التشدُّد في المواقف، والامتناع عن أيّ تراجُع يمكنه الإضرار بتموضعها الذي تريد أن يكون ثابتاً في صورة المتوثّب للخيارات المتطرّفة، إن لم يأخذ مشروع التسوية مع إيران بالشروط الإسرائيلية. وعليه، فإن ذلك التوثُّب ليس مُوجَّهاً إلى إيران فقط، إنما أيضاً إلى الإدارة الأميركية، كي تدرك أنها قد تخاطر بعدم رضى إسرائيلي في ما يمكن أن تذهب إليه نووياً، مع الأخذ في الاعتبار أن أي تورُّط عسكري إسرائيلي في مواجهة إيران هو تورُّط أميركي في نهاية المطاف.
في الوقت نفسه، يمكن تفسير قرار إسرائيل الاستمرار في المواجهة البحرية، بكونه مرتبطاً كذلك بـ”المعركة بين الحروب” نفسها التي تقودها تل أبيب منذ سنوات ضدّ أعدائها في أكثر من ساحة، وتحديداً في سوريا ومنها باتجاه لبنان وفلسطين. إذ إن أيّ تراجُع في الأولى من شأنه الإضرار بالثانية، التي هي الأشمل والأوسع، والمبنيّة بشكل أساسي على أن أيّ ردّ على أيّ اعتداء يجب أن يكون شكلياً، أو بمستوى يمكن أن يتحمّله الكيان العبري ضمن معادلة “الفائدة الأقصى مقابل الثمن الأدنى”. إلا أن سهولة الوقوع في خطأ التقديرات التي تؤدي إلى أفعال عدائية، كما هي الحال في المواجهة البحرية، لا تعني بالضرورة سهولة التراجُع عنها. على المدى المنظور، النتيجة النهائية لتلك المواجهة سلبية جدّاً لإسرائيل، والخسارة واضحة فيها، وكلّما تأخَّر التراجُع عنها كانت الخسارة أكبر. لكن، هل بمقدور تل أبيب أن تسارع إلى التراجع؟ تبدو الإجابة إشكالية قياساً إلى جملة عوامل، لا تقتصر على المواجهة البحرية نفسها.
الواضح أن إسرائيل تولي النتيجة المباشرة أولوية على النتيجة اللاحقة، وإن كانت سلبيةُ الأخيرة أكبر. والظاهر أن الرهان، هنا، هو على مُتغيّر ما يقلب التقديرات المرجّحة الآن، أو على توجُّه إيراني إلى أن تبقى المواجهة على مستواها الحالي (الذي لا ينطوي على درجة إيذاء كبيرة)، أو على “اللايقين” النسبي نفسه. في الوقت نفسه، ثمّة محلّ لعامل التقدير المفرط للذات وإنكار الواقع، بما يمكن تعريفه بالعامل “التسلُّطي” على مجريات الأحداث والانتصار فيها، وهو عامل مهمّ جدّاً لإسرائيل ويُصعّب عليها أن تساهم، هي، في التشويش عليه لدى وعي أعدائها، في حال قرّرت التراجُع في أيّ ساحة مواجهة أو أيّ معركة تخوضها ضدّهم، حتى مع إدراكها، من الآن، أن اضطرارها إلى التراجُع وارد بقوة في المستقبل، مع تعرُّضها لخسائر أوسع وأشمل، من شأنها مضاعفة الضرر الذي قد يلحق بصورتها لدى أعدائها.
على هذه الخلفية، تبرز، في سياق التجاذُب الحاصل في إسرائيل، جملة تقارير ومواقف لكبار الخبراء الأمنيين في تل أبيب، يُحذّرون فيها من المواجهة البحرية وسلبياتها، مع إقرار بـ”دونية” الكيان العبري فيها. ووفقاً لرئيس “شعبة الاستخبارات العسكرية” السابق، والرئيس الحالي لـ”معهد أبحاث الأمن القومي” اللواء عاموس يدلين، فإن “التسريب عن استهداف السفن الإيرانية جاء من إسرائيل، وهو خطأ. في مثل هذه الحرب، من المناسب عدم تحمُّل المسؤولية، لأن ذلك يمنح العدو أحقيّة التصعيد. في الحرب البحرية مع إيران، وَضعت إسرائيل نفسها في مكان، هي فيه أضعف”.
الاخبار