مجلة وفاء wafaamagazine
بعد أكثر من عام على إهمال قانون الكابيتال كونترول، صارت السلطة مهتمة بإقراره. الخسارة التي تكبدها المجتمع والاقتصاد جرّاء هذا التأخير وصلت إلى 13 مليار دولار، تمكنت السلطة السياسية والمالية من تهريبها. هل سيمر القانون هذه المرة أم سيكون مصيره «الجارور» للمرة الرابعة؟ وهل صار لزوم ما لا يلزم بعد تبديد الأموال، أم أنه ضروري لإيقاف التحويلات الاستنسابية المستمرة؟ ثم، هل صحيح أنه يشكل بديلاً للسلطة عن توقف الدعم، بما يسمح باستمرار مزاريب تهريب الأموال إلى الخارج؟
عاد قانون الكابيتال كونترول إلى الواجهة مجدداً. مرّ أكثر من عام على طرحه للمرة الأولى. عام كان كفيلاً بتهريب مليارات الدولارات. هكذا ببساطة، بين الخفّة والتآمر خسر الاقتصاد اللبناني نحو 7 مليار دولار، هو المبلغ التقديري الذي اختفى من حسابات مصرف لبنان (من خارج الأموال التي دفعها مقابل دعم السلع الأساسية). وهذا مبلغ يضاف إلى نحو 6 مليارات دولار هرّبها نافذون إلى الخارج ما بعد 17 تشرين الأول. باختصار، عدم إقرار قانون تقييد السحوبات النقدية والتحويلات إلى الخارج كان قراراً شرّع الاستنسابية، فاستفاد منها المحظيّون والسياسيون لتهريب أموالهم، فيما حرمت المصارف المودعين الصغار من هذه «النعمة».
كثر يعتبرون أن لا قيمة لإقرار القانون اليوم، بعد أن تبخّرت الأموال التي كان يُفترض بالقانون أن يحافظ عليها، حماية للاقتصاد والنقد، إلا إذا ترافق مع بدء تنفيذ برنامج صندوق النقد. في الأساس، «الكابيتال كونترول» هو شرط حتمي للصندوق، في حال الاتفاق معه، يضمن من خلاله عدم تهريب القروض والمساعدات والاستفادة منها في عملية التصحيح. لكن في المقابل، ثمة من يؤكد أن القانون لا بد منه حالياً لأن عمليات التحويل لا تزال تحصل بحسب ما تظهره الأرقام، أضف أن القانون يُحضّر بما يتناسب مع مطالب صندوق، وبالتالي هو سيكون جزءاً من عملية التأسيس لفترة الاتفاق مع الصندوق.
لا بد بداية من التذكير أن مسألة الكابيتال كونترول كانت قد طُرحت بعد إغلاق المصارف عقب انتفاضة 17 تشرين 2019 لمدة أسبوعين. حينها كانت التوقعات أن الذعر الذي خلّفه هذا الإغلاق سيؤدي حكماً إلى تهافت المودعين على سحب أموالهم أو تحويلها إلى الخارج. لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، وسط رفض مطلق من قِبل السلطة، وفي مقدّمها الرئيس نبيه بري، على اعتبار أن الدستور يضمن الحريات الاقتصادية، ومنها حرية نقل الأموال.
طُوي الملف في ذلك الحين، ليعود ويُفتح مجدداً في شباط 2020، من خلال الزيارة المشتركة التي قام بها وزير المالية غازي وزني ورئيس لجنة المال النيابية ابراهيم كنعان لرئيس المجلس النيابي. في نهاية الاجتماع، وافق بري على أن يرفع وزني مشروعاً إلى الحكومة، متعهداً السير به، بعد أن جرى النقاش في الخطوط العريضة له. وبالفعل، عمد وزني وفريق وزارة المالية إلى التواصل مع صندوق النقد الدولي، عارضاً عليه نصاً وُصف بأنه غير جدي، ما أدى لاحقاً إلى توقّف التنسيق مع الصندوق، الذي اعتبر ممثلوه أنه لا جدوى من استمرار التواصل بشأن الكابيتال كونترول إذا لم تقدم وزارة المالية نصاً جدياً يمكن البناء عليه.
لجنة المال لا تملك نصاً لاقتراح قانون الكابيتال كونترول
في آذار 2020، انتقل المشروع ليبحث في إطار لجنة وزارية عمدت على مدى جلسات عديدة إلى وضع ملاحظاتها وتعديلاتها على المشروع. جمعية المصارف كان لها اليد الطولى في التعديلات أيضاً، من خلال حضور مباشر لممثليها في اجتماعات السراي الحكومية. رئيس الجمعية كان من الذين دافعوا عن الصيغة الأولى للمشروع، والتي تعطي صلاحيات استثنائية لحاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف والمصارف، خاصة لجهة تحديد سقف السحوبات المسموحة للمودعين بالعملات الأجنبية. لكن هذه النقطة تحديداً عُدّلت عبر اقتراح من الرئيس حسان دياب حصر فيه صلاحية تحديد سقف السحوبات بالعملات الأجنبية بمجلس الوزراء.
بالنتيجة وصل الاقتراح إلى مجلس الوزراء «بلا حصانة». لا المصارف استطاعت أن تفرض كل أجندتها، بالرغم من أن المشروع صار مفصلاً على قياس حماية مصالح السلطة المالية والسياسية، مقابل تحميل المودعين مسؤولية «التفليسة». ولا الأطراف السياسية كانت راضية عن النص المقدم. وللتذكير، فإن النسخة الأخيرة من المشروع (16 آذار 2020) ووجهت باقتراح أغلب الوزراء تعديلات جوهرية عليها. نهاية المشروع، كانت بسحبه من قِبل وزير المالية «بطلب من بري»، على ما يقول وزير الاقتصاد راوول نعمة، وعلى ما تؤكد مصادر مطلعة اعتبرت أن السبب يعود إلى التغيير الجوهري الذي طرأ على المشروع الأساسي الذي سبق أن وافق عليه بري.
عندما أُغلقت الطريق الحكومية، أُقفل الملف لنحو شهر، قبل أن يعود إلى الواجهة من بوابة شهر العسل الذي جمع حينها بري وجبران باسيل، والذي كان من بين تجلياته الاتفاق على تقديم اقتراح مشترك لتقييد حركة رؤوس الأموال («كابيتال كونترول»). وبالفعل، قدّم النواب ألان عون وسيمون أبي رميا وياسين جابر، في 20 أيار 2020، اقتراحاً ينطلق من النص الذي نوقش مع بري في الاجتماع الذي جمعه بكنعان ووزني في شباط.
ذلك أوحى أن الاقتراح في طريقه إلى الإقرار، بالرغم من عشرات الملاحظات عليه، والتي جعلت منه مجرد اقتراح شكلي يشرّع الاستثناءات لصالح من يملكون نشاطات خارج لبنان أكثر مما يشرّع القيود على التحويلات.
في جلسة 28 أيار 2020، وخلافاً للتوقعات، أعلن بري تحويل الاقتراح إلى لجنة المال، بعد ورود ملاحظات من قبل صندوق النقد الدولي ومصرف لبنان. ليكون بذلك قد سقط القانون للمرة الثالثة، بعد تشرين الثاني 2019، وبعد آذار 2020 (في مجلس الوزراء). وفي كل الحالات كان السبب عدم الاتفاق على تفاصيل تنفيذه، عدد من النواب اعتبر في الجلسة حينها أن الاقتراح فلكلوري ولا يحقق الغاية منه، فيما رأى آخرون أنه يشرّع التحويلات لا يقيّدها. لكن مرة أخرى، لم يكن بالإمكان استبعاد دور جمعية المصارف في تطييره. وقد نُقل عنها حينها أن الأرقام الكبيرة من العملات الأجنبية التي سيُسمح بتحويلها إلى الخارج كفيلة بإسقاط بعض المصارف التي لا تحمل في صناديقها الحد الأدنى المطلوب من العملات الصعبة إن بقي السقف الذي أشار إليه المشروع عند حدود الـ50 ألف دولار سنوياً لمن يستفيد منه من دون أي ضوابط محددة تحول دون إمكان خروج المليارات المتبقية في خزائنها الداخلية إلى الخارج.
المصارف بالمرصاد لأيّ استثناءات لا تمويل لها
أما ملاحظات صندوق النقد، فكانت واضحة في الإشارة إلى أن أي «كابيتال كونترول» لا ينبعي أن يكون إلا جزءاً من خطة إصلاحية متكاملة تتناول الملفات الاقتصادية والنقدية والمالية والقضائية دون إهمال الجانب الإداري المتمثّل بسلة الإصلاحات المطلوبة. في 8 صفحات، قدم الصندوق ملاحظاته، ومنها على سبيل المثال ضرورة توحيد سعر الصرف، إضافة إلى اعتباره أنه ينبغي أن يأتي المشروع من الحكومة، لأنها هي التي ستشرف على تنفيذه. كما يجب أن ينال القانون موافقة المعنيين بتطبيقه كالمصارف، التي لا يمكن التثبّت من قدرتها على التنفيذ، في ظل ما تعلنه عن فراغ خزناتها.
أسابيع قليلة عمدت خلالها لجنة المال إلى بحث ملاحظات الصندوق، قبل أن ينام المشروع مجدداً. هذه المرة كانت الأسباب قاهرة، فانفجار المرفأ ثم إجراءات الإقفال العام، أدت إلى إقفال مجلس النواب لأشهر. لكن المدة طالت، وحتى اليوم لا نص واضحاً يُطرح على اللجنة. مع ذلك، يؤكد رئيس اللجنة ابراهيم كنعان أن الموضوع على نار حامية وهو يبحث بعيداً عن الإعلام، حيث تتواصل مجموعة من النواب الذين يمثلون كل الكتل النيابية بشكل دوري للتباحث في تفاصيل القانون، تمهيداً لإعادة صياغته بناء على ملاحظات صندوق النقد الدولي، على أن لا يتأخر هؤلاء قبل أن يقدموا تصورهم إلى لجنة المال. يضيف كنعان: «خيارات عدة تبحث، وإقرارها برسم اللجنة، ويجب أن تبحث بجدية وضمير، وليس بعملية نفض اليدين، وإعلان عدم القدرة على فعل شيء والتسليم بالأمر الواقع. هذا كلام يقود إلى أن اللجنة ستكون أمام صراع مستجد على وجهة القانون، ودائماً بحجة حماية المودعين». رئيس المجلس ناقش الأمر مع النائب نقولا نحاس، فتبين له وجود «تقدم على صعيد الشق المتعلق باقتراح الأموال المحولة إلى الخارج، غير أنه لم يتضمن أي نص يتعلق بحقوق المودعين»، متمنياً على لجنة المال «سد هذا النقص في الاقتراح تمهيداً لإقراره».
لكن هل حقاً صار بالإمكان إقرار القانون؟ يؤكد مصدر عمل على إعداد المسودة الأولى له أنه بعد أن هرّب الكل أموالهم لم يعد لديهم مشكلة في إقرار القانون. مصدر آخر يعتبر أن هؤلاء صاروا متحمّسين لإقرار الكابيتال كونترول، لأنهم يدركون أن دعم المواد الأساسية يكاد ينتهي. ولمّا كانوا أنفسهم إما يستفيدون من الدعم بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال ملكيتهم أو شراكتهم أو حمايتهم لشركات النفط ومحتكري استيراد الأدوية والمواد الغذائية، فإنهم سيعمدون إلى إقرار قانون كابيتال كونترول باستثناءات تخدم مصالحهم بشكل خاص، وتضمن استمرارهم في تحويل الأموال إلى الخارج.
الاخبار