مجلة وفاء wafaamagazine
عادت لجنة المال النيابية لمناقشة تعديل قانون السرية المصرفية من دون اتفاق على توجهه. لكن بحسب المداولات، يبدو أن حزب المصرف لا يزال قادراً على فرض إيقاعه. ولذلك، هو يضغط باتجاه حصر صلاحية القضاء برفع السرية المصرفية، عبر المرور الحكمي بهيئة التحقيق الخاصة، التي تأتمر بأوامر رياض سلامة
«التشريع ليس مسألة سكوبات وليس على الطلب» قال رئيس لجنة المال ابراهيم كنعان، بعد اجتماع اللجنة أمس. وهو محقّ في قوله. لكن أن يبرر التأخير بمناقشة التعديل المقترح على قانون تعديل السرية المصرفية باعتبار أن بعض المواضيع «تتطلب بحثاً ونقاشاً، خصوصاً في ضوء ممانعة قوى سياسية في بعض الأحيان، أو فرض الظروف نفسها»، فهذا قد يكون صحيحاً لفترة، لكن التعديل المطلوب من قِبل رئيس الجمهورية، والذي ردّ على أساسه القانون الذي أُقرّ في أيار 2020، مرّ عليه عام، من دون البتّ به. علماً أن ذلك التعديل محصور بمادة وحيدة. كل ما يطلبه رئيس الجمهورية هو إضافة القضاء للجهات التي يحق لها رفع السرية المصرفية، أي هيئة التحقيق الخاصة وهيئة مكافحة الفساد (لم تُنشأ بعد). وما على المجلس النيابي إلى أن يبتّ بالطلب إمّا إيجاباً أو سلباً، طالما يبدو جلياً أن أي تطوير للقانون بما يسقط السرية المصرفية تلقائياً عن كل عامل في الشأن العام، والذي طالب به عدد من النواب، لم يعد مطروحاً. لكن مع ذلك، فإن النقاش لا يزال في مكانه. فريق يتمسك برفض إعطاء صلاحية للقضاء في رفع السرية المصرفية، وآخر لا يمانع ذلك، شرط أن لا يكون ذلك مباشراً، إنما عبر تقديم طلب إلى هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، وهو ما كان متّبعاً حتى تاريخ إقرار القانون.
منذ عام، عندما ثارت ثائرة بعض النواب على القضاء «المسيس» لحرمانه من حق رفع السرية. نجحوا في مسعاهم هذا، لكنهم من حيث يدرون أو لا يدرون، ألغوا أي دور للقضاء في كل ما يتعلق برفع السرية، بما في ذلك الدور الذي كان مضطلعاً به سابقاً.
مشكلة أخرى نشأت تتعلق بتعارض القانون المطروح مع القانون رقم 44 الصادر بتاريخ 24/11/2015 (مكافحة تبييض الأموال) الذي منح هذه الهيئة صلاحيات واسعة للتحقيق في كل ما يندرج تحت عنوان «الأموال غير المشروعة». وتحدد المادة الأولى من القانون الجرائم المالية، بدءاً بزراعة أو تصنيع أو الإتجار غير المشروع بالمخدرات مروراً بتمويل الإرهاب، وصولاً إلى الفساد، بما في ذلك «الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة والإثراء غير المشروع والسرقة وإساءة الائتمان والاختلاس والاحتيال، بما فيها جرائم الإفلاس الاحتيالي». ولمواجهة هذا التعارض، اقترح النائب جورج عقيص في الصياغة القانونية التي قدمها في اللجنة، أمس، أن يكون القضاء معنياً بالقضايا التي تخرج عن صلاحيات الهيئة المحددة في القانون المذكور. لكن هذا الاقتراح لم يلقَ تجاوباً بين زملائه، من دون أن يعني ذلك إعطاء الحق للقضاء لرفع السرية. من أجواء اللجنة يتضح أن كثراً وإن كانوا لا يمانعون إعطاء القضاء صلاحية رفع السرية، إلا أن بعضهم يشترط أن لا تكون هذه الصلاحية مباشرة، بل أن تتم من خلال هيئة التحقيق الخاصة.
هيئة التحقيق الخاصة تبتلع كل صلاحيات رفع السرية المصرفية
المشكلة، على ما اتضح أمس تعود إلى الصلاحيات الواسعة التي أُعطيت للهيئة في عام 2015، حين أقر القانون، بضغط أميركي، في فترة تصريف الأعمال. فالتجربة مع اللجنة لا تشجع. وهي سبق أن أغلقت أكثر من باب يسمح للمحاسبة أو لتتبع أموال. وللتذكير، سبق أن رفضت الهيئة طلب المدعي العام التمييزي تزويده بأسماء الأشخاص الذين أجروا تحويلات من حساباتهم في المصارف اللبنانية إلى الخارج، ما بين 17 تشرين الأول 2019 و31 كانون الأول 2019. كما لم تتجاوب مع طلب «نادي القضاة» التجميد الاحترازي لحسابات كل السياسيين والموظفين الكبار والقضاة وكل من يتعاطى الشأن العام وشركائهم والمتعهدين. كذلك، سبق للمدعي العام المالي أن طلب رفع السرية المصرفية عن حساب الهبات التي صرفتها الدولة، فرفض حاكم مصرف لبنان دعوة الهيئة لرفع السرية، لأن هذه الأموال وُضعت في حساب خاص في مصرف لبنان.
المشكلة الأساس أن رئيس الهيئة هو نفسه حاكم مصرف لبنان، لما يشكله ذلك من تضارب في المصالح، ينزع عنها صفة الاستقلالية. وقد ظهر ذلك بشكل جلي مع ملاحقة رياض سلامة في قضايا فساد. وهو ما يؤكد وجوب عدم التأخير في بت الاقتراح المقدم من كتلة الوفاء للمقاومة لتعديل المادة السادسة من قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والذي ينزع رئاسة الهيئة من يد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أو أي حاكم سيليه. ويستبدله بـ«أحد القضاة من بين رؤساء غرف التمييز الحاليين أو السابقين»، الذي يعيّن بمرسوم بناءً على اقتراح مجلس القضاء الأعلى.
هذا حلّ على أهميته، لا يلغي حقيقة أن السرية المصرفية باقية من دون تعديل جدي، حتى لو أخذ باقتراح رئيس الجمهورية. وفي ذلك يصر المجلس النيابي على التغاضي عن حقيقة أن الجرائم المالية تنشط في الدول التي لها قانون صارم وحازم بشأن سرية المعاملات المصرفية، والعكس صحيح. وعلى الرغم من التحليل القانوني الذي يعتبر أن السرية المصرفية تشكل عقبة في وجه مكافحة بعض الجرائم المالية وعمليات تبييض الأموال، فإن لبنان ما زال يتشبث بالمحافظة على هذه السرية، بما يضمن استمرار حماية الجرائم المالية!
الاخبار