مجلة وفاء wafaamagazine
لم تكن قمة الأنصار والنجمة مجرد مباراة كرة قدم، ولا حتى مجرد مباراة لتتويج بطلٍ للدوري اللبناني، بل إن أهميتها تخطت الجانب الرياضي، فكانت لها أبعاد اجتماعية واسعة تخطت معقل القطبين، أي العاصمة بيروت لتمتد إلى الأراضي اللبنانيةكافة
عندما شارفت الشمس على المغيب يوم السبت الماضي، كان الشبان يتقاطرون الى ساحة ملعب بيروت البلدي ويتجمعون هناك بانتظار وصول حافلة فريق الأنصار حاملةً كأس الدوري التي انتظرها الأنصاريون لمدة 14 عاماً.
مشهدٌ كان ليعتبر طبيعياً لو لم نكن في شهر رمضان المبارك، لكن هؤلاء الشبان تركوا عائلاتهم في تلك الأمسية، وأرادوا تعويض ما فاتهم في فترة بعد الظهر من خلال عدم تمكنهم من التواجد على مدرجات ملعب مجمع الرئيس فؤاد شهاب الرياضي في جونية، أو الوقوف لمتابعة لحظات الفرحة الأنصارية من أي مكانٍ مطلّ على الملعب بسبب الإجراءات الأمنية المشدّدة التي اتخذتها القوى الأمنية يومذاك لتأمين المباراة.
هم اعتبروا أن التحلية بعد الافطار آتية لا محالة وتتمثّل بالكأس الغالية وطعم الانتصار الأكثر لذّة بالنسبة اليهم، والذي يُختصر بعدم السماح للغريم التقليدي بالاحتفال بلقبه التاسع. لكن قبل التحليّة هناك الافطار، فكان أحدهم يؤمّن العصائر من أحد المحال القريبة من المقرّين القديم والجديد لنادي الأنصار، بينما شرع آخرون في فتح علب الطعام، فكان الرصيف الذي افترشه هؤلاء هو المائدة في ليلةٍ انتظروها طويلاً.
عموماً هذا المشهد في منطقة الطريق الجديدة لم يكن الوحيد المرتبط بتلك القمة الختامية الحاسمة للدوري اللبناني، إذ إن مواجهة الأنصار والنجمة على لقب الدوري خلقت حالةً رياضيّة اجتماعيّة غير عادية طوال الاسبوع الماضي، فأعادت عقارب الساعة الى الوراء بعض الشيء، وذلك لأيام أو لساعات قليلة، لتفرز جزءاً منسياً من الحياة الطبيعية للبنانيين الذين افتقدوا الى الكثير من جوانبها وفرحها.
فعلاً، في كل يومٍ اقتربت فيه القمّة المنتظرة كانت الهالة حول كرة القدم تكبُر أكثر من أي وقتٍ مضى، أقلّه في الأعوام القريبة الماضية عندما أدار كثيرون ظهرهم للعبة الشعبيّة الأولى، والتي أثبتت جماهريتها على الارض من خلال «الأخضر» و«النبيذي»، اللذين حوّلا السؤال حول الصحة والاوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الشارع اللبناني الى سؤالٍ واحد ومشترك: «إنتَ مع النجمة أم مع الأنصار؟».
أعطى جمهور الكرة أملاً لبيروت بأن تعود شوارعها مركزاً للأفراح لا لصرخات الألم والقهر والجوع
الواقع أنه بفعل الاضاءة الاعلامية المكثّفة على هذه القمّة والتركيز عليها في وسائل الاعلام المختلفة، والحديث عنها بحماسة، حوّل الانظار اليها، وجلب جمهوراً جديداً الى كرة القدم، وهي مسألة تدلّ عليها الارقام ونسب المشاهدة المرتفعة عبر شاشة التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي.
كل هذا ترافق مع عدم تقصير من الجمهورين الكبيرين للفريقين اللذين التقيا مع مشهد عودة الحياة الطبيعية ولو جزئياً، فملأ الانصاريون والنجماويون الساحات والطرقات قبل المباراة، وبعدها طبعاً، احتفالاً بالنسبة الى الفائز، وهو مشهدٌ أعطى جرعة امل لبيروت الجريحة بأن تعود شوارعها مركزاً للاحتفالات ومحوراً للتجمعات التي تهدف حصراً الى الفرح، وذلك بعدما عاشت أشهراً طويلة على وقع صرخات الاعتراضات والألم والجوع التي فُرضت عليها من قبل من وصفهم الناس بالمجرمين والفاسدين.
بيروت التي لم تنم عشية الموقعة، نسيت بأنصارييها الصعوبات الاقتصادية والمالية لبضع ساعات، ونسي هؤلاء مخاطر «كورونا» حتى، فخرجت غالبيتهم بلا كمامات (هذا الأمر الأخير كان يجب التنبه إليه).
مشهدٌ عام، ربما يعبّر عن شوق اللبنانيين للتحرّر من كل القيود، وما أكثرها في المصاريف والحياة المعيشية التي لم تعد تسمح لهم بشراء كل ما يرغبون به. قيودٌ قاهرة في زمنٍ رديء، يعيدنا بمشهده الاحتفالي لذاك اليوم الطويل، الى أُسس كرة القدم، ونهجها ورسالتها الهادفة الى زرع ونشر الفرح في كل مكان، وحيث الناس المقهورون، وأولئك الذين يعانون ويتمسكون بقشّة ليعوموا، فيما هم يغرقون كل يوم في المستنقع الكبير والبحر الهائج الذي ابتلع كل شيء يملكونه.
من الطريق الجديدة الى جونية كان مشوار الانصار للعودة الى ساحة ملعب بيروت البلدي بالانتصار والكأس الـ14، لكن الانتصار الحقيقي كان للعبة عامةً، والتي تخطت كل مصاعب البلاد، لتصبح حديث كل الناس وتعطي مؤشراً واضحاً بأن أبناء هذه البلاد لا يريدون أن يعلنوا الحداد على وطنٍ مقتول غدراً، بل هم كما يبحثون يومياً عن موارد جديدة تؤمّن لهم حياة رغيدة وسبلٍ أفضل للعيش. يفتشون أيضاً عن مصدرٍ فرح وبهجة وعن شيء يدفعهم الى الاحتفال وينسيهم ولو لمدة ساعتين لا أكثر همومهم التي يبدو أنها لا تحصى ولا تعد.
الاخبار