الرئيسية / آخر الأخبار / كي لا يتحوّل الإحتياط الإلزامي إلى “رصاصة رحمة”!

كي لا يتحوّل الإحتياط الإلزامي إلى “رصاصة رحمة”!

مجلة وفاء wafaamagazine

النائب ألان عون – النهار

في خضم الإنهيار المستمرّ للوضع المالي في لبنان المعطوف على عقم سياسي يزيده سرعة وحتمية، وفي ظلّ ندرة العملات الصعبة الي تلهب سعر الصرف صعوداً، وفي غمر موازنات في إدارات الدولة، شحّت حتى من الليرة البنانية، كل العيون شاخصة إلى الغنيمة الأخيرة المتبقيّة في هذه الصحراء المالية، وهي الإحتياط الإلزامي من الدولارات في المصرف المركزي. فتستعر الشهوات التجارية والنزوات السياسية للإنقضاض عليها، البعض لتحقيق مزيد من الكسب على حساب أموال الناس، والبعض الآخر لتمديد بقائهم في السلطة من دون المجازفة بإغضاب الناس.

في المقلب الآخر، يقف المودعون وقلبهم يعتصر على ما تبقّى من ودائعهم بالعملات الصعبة فعلياً، فيما القسم الآخر منها يبقى نظرياً ومرتبطاً بخطة إنقاذ مالية – اقتصادية صالحة وعادلة وقابلة للتنفيذ، مطلوبة من الحكومة المقبلة، التي لا يزال تعثر تشكيلها نتيجة لتجاذبات سياسية، من دون أفق في ظلّ نظام يقوم على التوافق ولا يُعطي قدرة حسم لأي فريق على الآخر.

رُبّ قائل إن القيّمين على لبنان على مرّ الأعوام، حفروا قبره بأياديهم فلم يحفظوا له قرشاً أبيضَ ليومهِ الأسودَ، فإذا لبنان بشعبه يجد نفسه مُحاصراً من الاتجاهات كلها، بين سندان رفع الدعم وانعكاساته على سعر صرف الليرة وإرتفاع الأسعار، وبين مطرقة استخدام الإحتياط الإلزامي وهو رصيد ما تبقى من أموال المودعين حتى الساعة.

وإذا كانت أوجاع الناس مفهومة ومشروعة خشية المزيد من الإفقار اللاحق بهم، أكان عبر تآكل قدرتهم الشرائية، أو من خلال تبخّر تدريجي لودائعهم بالتناسب مع تضاؤل الإحتياط في المصرف المركزي، فإن ما ينادي به بعض السياسيين أو بعض المروّجين العقائديين هو من أكثر السلوك خطورة لا بل خبثاً واحتيالاً، لأنهم يُصوّرونه نابعاً من حرصهم على الناس وحالهم الإجتماعية.

أخطر ما يقوم به هؤلاء هو التمديد للسياسة نفسها التي كانت السبب الأول في حدوث الفجوة المالية التي بدّدت أموال الناس بسبب خِيارات دعم عشوائي وتثبيت سعر صرف الليرة، اتخذتها السلطات المتعاقبة من دون أن تمتلك ليرة واحدةً من ذاتها. فلو كان لبنان بلداً ينعم بفائض في موازناته، من جرّاء اقتصاد مزدهر أو إستغلال لثروات طبيعية، لكان يمكن تفهّم خيار دولة تغدق خيراتها على مواطنيها، وحتى على المقيمين فيها، إذ أن الدعم العشوائي لم يُميّز بين لبناني وأجنبي. ولكن الخيار الذي اعتمد بمعرفة أو بغير معرفة، بإجماع أو بتحفظ، عن كفاية أو عن عدم كفاية، ارتكز على سياسة تفريط وهدر وسخاء على حساب الناس وليس مِنّة من الدولة. والمفارقة اليوم هي في سلوك النعامة الذي يعتمده هؤلاء وبخبث، فيخبؤون رؤوسهم في الأرض لتلافي مواجهة انفصامهم، بين إدانتهم للسياسات التي أتُّبعت وأوصلت الى الفجوة المالية، وبين مطالبتهم بالاستمرار في السياسات ذاتها، أي استنزاف الاحتياطي الإلزامي حتى أخر دولار.

الأسوأ هو أن الدولة التي اتخذت تلك الخيارات السخيّة لم تقم بأي جهد لترشيد الإنفاق، إنما أفرطت في تبديد المال العام في العقود الثلاثة الفائتة. فهي دعمت سعر تعرفة الكهرباء فيما عجزت عن ضبط كاف للهدر غير التقني في شبكاتها أو في تحقيق جباية كاملة، وهي دعمت فيول مولدات الكهرباء فيما أجهضت إنشاء معامل إنتاج كهرباء جديدة، وهي دعمت فيول معامل الكهرباء من دون أن تتمكّن من إستبداله بالغاز الأقل كلفة لإنتاج الطاقة، وهي دعمت البنزين بينما فشلت في تأمين النقل العام للناس، كما دعمت الأدوية من دون أن تميّز بين الضروري منها والكماليات، ودعمت تثبيت سعر صرف الليرة من دون أن توفّر الدولارات الموازية للإستهلاك الذي نتج عنها، ودعمت جميع السكان من دون أن تميّز بين ميسور ومحتاج أو بين مواطن ومقيم، وهي دعمت تلك السلع كلّها من دون أن تتمكّن من السيطرة على التهريب الى أسواق وبلدان أخرى، فيما أبقت على سياسة إستدانة مفرطة من دون أن تُسيطر على عجز موازناتها…

في بحر من القصور والتقصير وإنعدام المسؤولية والفشل الذريع، يسعى البعض إلى استكمال إستنزاف ما تبقّى من احتياط إلزامي من دون حدّ أدنى من الخجل أو الندم الذي كان ممكن أن يُظهره فيما لو أعطى إشارة جدّية واحدة في كل الإصلاحات المذكورة أعلاه، علّه يُقنع اللبنانيين بأن تضحياتهم الإضافية التي يريد فرضها عليهم قسراً لن تذهب سدى هذه المرّة. ولكن كيف يمكن لمصير الإحتياط الإلزامي أن يكون غير الهلاك كما سابقاته من الإحتياطات طالما الشلل والعجز السياسي لا يزالان مُستفحِلَين في كل أروقة الدولة؟ وهل من مُنظّر واحد للإنقضاض على الإحتياط الإلزامي يمكنه أن يقول للبنانيين ماذا ينتظرهم بعد استنفاده في الأشهر المقبلة؟

كل المقاربات “الشعبوية” هي تعميق لحفر “قبر لبنان” مع الأسف، وإضاعة فرص النهوض به، بينما وحده تشكيل حكومة سريعاً وشروعها بإيجاد قنوات إعتمادات لتمويل حاجات لبنان الاستيرادية، أكان عبر صناديق دولية أو دول صديقة، إضافة الى إعتماد خطة تعافي مالية وإقتصادية فاعلة، هوالسبيل المتبقي الذي يمكنه إنقاذ ليس فقط الإحتياط الإلزامي، بل أيضاً آخر فرصة جِدّية للبَدء بإعادة تكوين تدريجي للفجوة المالية.

كان يمكن لاحتياط مصرف لبنان أن يدوم أطول لو تمّ ترشيد الدعم منذ زمن، وضبط الهدر والإنفاق والفساد في الدولة، وتغيير السياسيات المالية والنقدية المفرطة، ووقف العجز في الموازنات الذي يتطلّب حاجة دائمة للإستدانة والتي تتطلّب بدورها إعتماد سياسة إستقطاب للأموال بكلفة عالية، لكنه شهد مساراً غير مسؤول فإذا به يصل الى طاقته القصوى من دون بدائل جاهزة عنه. ولكن كي لا يتحوّل ما تبقّى من إحتياط إلزامي الى “رصاصة رحمة” تقضي نهائياً على أي فرصة أو أمل مُتَبَقِيَّيْن، فالحري بنا التفكير والتركيز على سبل إستعمال هذه الطلقة الأخيرة من المليارات وإستثمارها في ما يحقّق مردوداً اقتصاديا ومالياً إيجابياً يعيد بثّ الحياة في جسم المريض، بدل تركها تتناقص حتى الإضمحلال جرّاء نزيف إستهلاكي غير منتج.