مجلة وفاء wafaamagazine
أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس، وألقى خطبة الجمعة، استهلها بالقول: “قال الله تعالى في كتابه الكريم (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين)، وهذه الآية المباركة تناولت الحديث عن الاكل والشرب وعن حدود الحلال والحرام فيهما، فالاكل والشرب من الامور التي أباحها الله تعالى وأحلها ما لم يتجاوز الانسان حد الاعتدال، فيصل الى حد تعريض النفس الى الهلاك، فيكون محرما او يبلغ حد الاسراف وهو تجاوز حد الاعتدال في الصرف والاستخدام. وهذه الثقافة ثقافة الاعتدال لم يقتصر الاسلام في التركيز عليها واشاعتها في المجتمع في هذا المجال فقط، اي في بيان الحدود التي يجب التزامها في الاكل والشرب، وانما هي سمة عامة للثقافة الاسلامية في التوجيه الاجتماعي والتربوي، فكما حرم الاسراف حرم التبذير، وهو تبديد المال وصرفه في غير حاجة ولا نفع، وفي مقابل ذلك نبه على ان يتعامل مع هذه الامور باعتبارها اولا انها نعم من الله سبحانه وتعالى يجب تقديرها وشكر الله تعالى عليها، فلا يضيعها فيسرف في استخدامها وانفاقها، وثانيا انها وسيلة لسد الحاجة فلا يبالغ في السعي للحصول عليها وجمعها وتقديرها الى حد العبادة، ويتحول الى حارس كما هو حال الكثيرين الذين يسعون الى جمع المال وخزنه، ولا ينفقونه في سبيل الخير وهو ما يصطلح عليه بسبيل الله تعالى. فالمال ليس الا وسيلة للقيام بشؤون المجتمع الصحية والتعليمية والتربوية وخدمة أبنائه بقضاء حوائجهم ودفع الفقر عنهم، وقد توعد الله تعالى أولئك الذين يجمعون الاموال ويكنزونها ارضاء لحاجة نفسية، فقال تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فنكوى بها جباههم وجنوبهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون)، وانما استحقوا هذا الوعيد ردعا لهم عن ارتكاب هذه الموبقه لما لها من آثار اجتماعية مدمرة، التي منها حصر الثروة بيد قلة من الناس تتحكم باقتصاد البلاد وبمصير العباد، وقد نهى سبحانه لذلك عن جعل المال دولة بين الاغنياء وامر في آية الفيء بتوزيعه على اكبر شريحة ممكنة من الناس، قال تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من اهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم)، فيكون مثارا لخلق خلل في الاجتماع الانساني وسببا لايجاد عامل طبقي وخلق صراعات داخلية تذهب بأهداف الامة الرسالية بالقضاء على القيم الجاهلية، وتبديلها بالقيم الالهية الاخلاقية (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
أضاف: “لقد فرق الاسلام بين وجوه استخدام المال، ففي الصرف على النفس وفي انفاقه وجوه أحل تعالى ذلك ما لم يبلغ حد الاسراف، ولكن مع ذلك أحب للمؤمن أن يقتصر في الانفاق على نفسه بالقليل ولم يسم ذلك بخلا. جاء عن امير المؤمنين عليه السلام في رسالته الى ابن حنيف حينما بلغه اجابته الى ولي الى ابن حنيف، حينما بلغه اجابته الى وليمة دعي اليها فكتب اليه: أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى من عفصة مقرة. ثم يبين لنا سبب هذا العزوف فيقول: “وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق، إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل: وحسبك داء أن تبيت ببطنة * وحولك أكباد تحن إلى القد”.
وتابع: “فهو يتحدث عن نفسه وانه كان قادرا على ان يحصل لنفسه ما شاء من المال والاراضي والثياب والحصول على أطايب الطعام، ولكنه امتنع عن كل ذلك لماذا؟ يقول في ذلك وانما هي نفسي أروضها بالتقوى، ولكن هيهات ان يغلبني هواي ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة، أو كما قال: والله لن اكون كالبهيمة المربوطة همها علفها وتلهو عما يراد بها، فهو يأبى سلام الله عليه ان يكون عبدا لاهوائه واطماعه وان يكون مقودا لها، وان عليه ان يكون سيدها الذي يمتلك زمامها قيودها وتقييدها. وهو فيما يمتنع عن الاستجابة لها حتى لما كان حلالا منها، انما ليروض نفسه على ذلك، فهو أرفع شأنا وأعظم قدرا من ان يكون شأنه شأن البهيمة المربوطة همها علفها، فهو يرى ان على الانسان ان يكون همه في الحياة اعظم من ان يكون على هذا القدر من الانحطاط والتسافل، بان يتساوق مع هم البهائم وهو المخلوق الذي كرمه الله تعالى وسخر له ما في السموات والارض، بل بلغ به الغاية في التكريم عندما جعله خليفة له، مما جعله محل الغبطة من الملائكة والحسد من ابليس، على ان عليا سيرى نفسه مسؤولا غدا أمام الله تعالى، فان من لا يردعن نفسه من الحلال، لن يكون في مأمن من الوقوع في شراك الاهواء والاطماع فيما تدعوه لارتكاب ما لا يحل له. فالغاية هي التحرر من عبودية الشهوات والاطماع والاهواء ولذلك قال ليس الزهد الا تملك شيئا ولكن الزهد الا يملكك شيء، ان الصراع في حقيقته صراع بين القيم، ففيما تنازع الانسان نفسه الاهواء فتسف به الى الحضيض وعالم الحيوانية والبهيميه يرقى به عقله الى عالم القيم الالهية والاخلاقية”.
ودعا “ونحن نمر بهذه المرحلة الحساسة من تاريخنا، إلى أن نعالج مشاكلنا بهذه الروحية ومن هذه الخلفية الاخلاقية وبهذه القيم التي نستلهمها من سيرة وتعاليم امير المؤمنين النموذج الصالح والقدوة الحسنة للخروج من هذا الواقع السيء الذي تسببت به السياسات اللامسؤولة والمستمرة، وسوء الادارة وحال الفساد المستشري الذي سهل وقوع البلاد تحت الضغط الاقتصادي واستغلاله من القوى الخارجية لفرض شروط سياسية ونزع سلاح المقاومة لمصلحة العدو الاسرائيلي وفرض التطبيع”.
وقال: “لقد وقف أهلنا الذين تحملوا بصبر وثبات في وجه هذه الضغوط المتعددة الاوجه والاشكال، ولم يستسلموا لها رغم قساوتها مستندين الى قيمهم وتاريخهم وتجاربهم التي اكسبتهم الوعي اللازم والقدرة على تحمل الصعاب والمواجهة مهما كلفهم ذلك من تضحيات، وبالوحدة والتماسك وعدم الانخداع بالوعود البراقة او بالتضليل الاعلامي للتخلي عن مكتسباتهم المادية والمعنوية، التي تحققت بفضل هذا الوعي وهذه التضحيات، مؤمنين بان النصر سيكون حليفهم في نهاية المطاف، وأن ما يعانيه لبنان ليس وليد مشكلة داخلية بحتة، وانما هي مرتبطة ايضا بما يرسم للمنطقة العربية من مشاريع خطيرة، وبما يدور فيها من احداث، فيما يتلهى بعض القوى في الداخل بمعارك وهمية وصراعات تاخذ طابعا طائفيا ضيقا، تنطلق من أفق ضيق، وهنا ننصح هؤلاء بالمسارعة الى الانخراط في اخراج البلد من أزمته السياسية والتعجيل بتأليف حكومة نأمل ان تفضي اليها مداولات المجلس النيابي هذا اليوم”.
أضاف: “لقد بدا واضحا ان ما تشهده المنطقة اليوم من تحولات استراتيجية وانقلاب في موازيين القوى هي في صالح شعوبنا. ان المعركة التي خاضتها بالامس قوى المقاومة الى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة الصلف الصهيوني وحلفائه ومن يقف خلفه، ومن تآمروا سقط في فخ التطبيع معه واستطاعت رغم كل ذلك ان تفرض ارادتها وان توقف العدوان بشروطها، يفرض بالوقائع صحة هذه الرؤية ويدل بما لاشك فيه على ان التماسك الداخلي وخاصة في الساحة الحاضنة للمقاومة وعدم الاستسلام للرهانات الخاسرة هي السبيل الاقصر للخلاص”.
وحيا للمناسبة، “هذه الروحية التي يمتلكها الشعب الفلسطيني وهذه الارادة والاصرار بالصبر على مواجهة الاحتلال والانتصار مهما كلف من تضحيات، ونبارك له ولقوى المقاومة ولشعوبنا الداعمة له والواقفة الى جانبه هذا الانتصار الذي قرب الانتصار النهائي أشواطا كبيرة ان شاء الله”.
ورأى أن “ما يجري اليوم في سوريا من التهيؤ لانجاز استحقاق دستوري للمرة الثانية بعد المؤامرة التي تعرضت لها، يعزز هذه القناعة بعودة الاستقرار الى ربوعها على طريق الخلاص، الامر الذي ازعج بعض القوى التي انخرطت في المشروع التآمري وارادت التشويش على المشهد المعبر عن ارادة الاخوة السوريين المتوجهين للمشاركة بالانتخابات الرئاسية لبلدهم، كما ارادت التشويش على الصورة الرائعة لمشهد الانتصار الفلسطيني. ان هذا التصرف أساء للبنان قبل ان يسيء لسوريا، ونحن نعبر عن اسفنا واستنكارنا لهذا الاعتداء السافر الذي طال فئات شعبية نازحة هربا من الحرب الارهابية التي تعرض لها بلدهم”.