مجلة وفاء wafaamagazine
معظم المصارف التجارية اللبنانية تُعاني وضعاً مالياً صعباً. الخسائر فاقت أموالها الخاصة (من ضمنها الرساميل)، وضربت نسبة الملاءة لديها. الوضع يفرض إحالة المصارف للتحقيق معها ومحاسبتها، وصولاً ربّما إلى شطبها. ولكنّ المصارف قرّرت «الاستفادة» من الخسائر، في محاولةٍ منها للتنصّل من تحمّل أي كلفة في معركة توزيع الخسائر. مرّة جديدة، تُريد تحميل عموم الناس مسؤولية موبقاتها
استباقاً لأيّ تغيير في سعر الصرف، ووضع خطة إصلاح مالي أو قانونٍ ما يُجبرها على تحمّل مسؤوليتها عن الأزمة وردّ أموال مالكيها والمُساهمين وكبار المودعين المُحوّلة إلى الخارج ودفع أموال المودعين، «تفاخرت» المصارف التجارية اللبنانية بخساراتها وفقدانها لأموالها الخاصة (تتضمن الرساميل)، ظنّاً منها أنّها بذلك تحمي نفسها، على قاعدة «لا أملك المال لأدفعه». ورغم أنّ الخسائر كبيرة، إلا أنّ ذلك لا يُشكّل سوى جزءٍ منها، لأنّ الأرقام تُظهر الخسائر المُسجلة ولا تكشف ما أخفته المصارف من حقائق، ولا توضح ما إذا كانت الخسائر مُقسطة على سنوات عدّة.
تُشير حسابات مصرف لبنان، إلى أنّ خسائر القطاع المصرفي لسنة 2020 بلغت نحو 3.3 مليارات دولار، وحسابات الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021 أظهرت خسائر بـ 3.4 مليارات دولار كخسائر («الأخبار»، عدد 29 أيار. الأرقام المُسجلة في الدفاتر ضخمة جدّاً لفترة زمنية لا تتخطّى الـ 3 أشهر، وهي تفوق ما سُجّل طوال العام السابق. واحدٌ من الأسباب أنّ المصارف بدأت هذه السنة تكوين المؤونات (الأموال التي تُجمع لتغطية خسائر متوقعة في سنة مالية، وتُحسم من حساب الربح أو الخسارة) على التوظيفات لدى مصرف لبنان (حدّ أدنى 1.89%)، وسندات الدين بالعملات الأجنبية، «اليوروبوندز» (حدّ أدنى 45%)، كما ورد في التعميم 143 الصادر عن مصرف لبنان، وسمح بتقسيط المؤونات على خمس سنوات، مُتخطياً القواعد المحاسبية بأنّ المؤونات يجب أن تعكس نتيجة سنة مالية مُحددة.
أثناء إعداد حسابات سنة 2019، اختلفت المصارف مع شركات التدقيق المالي حول التقارير، لاعتبار الأخيرة أنّ بيانات المصارف المالية لا تعكس الواقع، والأرقام الحقيقية أسوأ من تلك المُعترف بها، لأنّ المؤونات المُكوّنة غير كافية («الأخبار»، عدد 9 تشرين الثاني 2020. إلا أنّه في الـ 2021، رفعت بعض المصارف نسبة المؤونات إلى 70% على «اليوروبوندز»، و12% على التوظيفات لدى مصرف لبنان. لماذا هذا التبديل في السياسة المُعتمدة؟ القصة ليست عبثية وتتعدّى اعتراف المصارف بالخسارة والعمل على معالجتها. وتَظهر الحقيقة مع عدم إخفاء رؤساء مجالس إدارة مصارف ومديرين تنفيذيين عملهم لتكوين مؤونات تعكس نسب الخسائر الفعلية، وتنظيف ميزانياتهم، قبل حصول أي تغيير في سعر الصرف الرسمي. يستفيدون من الفارق بين الـ 1507.5 ليرة لكلّ دولار، وسعر صرف لامس الـ 13 ألف ليرة، قبل تعديل السعر وتكبيدهم أموالاً أكثر.
ما تقوم به المصارف، هو «مصلحتها في إطار تخفيف الأعباء»، يقول وزير الاقتصاد السابق، منصور بطيش. تكوين مؤونات على «اليوروبوندز» والتوظيفات لدى مصرف لبنان والقروض المشكوك بتحصيلها، «يسمح للمصارف بأن تواجه وتمتص تداعيات أي خطة للتعافي المالي والنقدي، تتضمن إعادة هيكلة الدين العام وتحرير سعر الصرف».
عدم احتساب الخسائر سمح للمساهمين بتوزيع الأرباح وتهريبها
أواخر عام 2019 وبداية 2020، بدأت المصارف تخفيف مصاريفها إلى الحدود الدنيا، مع طرد موظفين وإغلاق فروع ورفض فتح حسابات جديدة بالليرة وتخفيض الفائدة التي تُدفع على الودائع. هذا «التقشّف» في الإنفاق يُقدّر بحدود الـ 6 مليارات دولار، وقد قابله نقص في الإيرادات بقيمة مليار دولار فقط، نتيجة توقّف الدولة عن دفع الفوائد على «اليوروبوندز». إلا أنّ مدخول المصارف مؤمّن من الفوائد التي يدفعها مصرف لبنان على شهادات الإيداع والتوظيفات لديه، وفوائد الدين بالليرة. ما تقدّم يعني أنّ المصارف، وبعدما بدّدت أموال المودعين، حرمتهم من الفوائد، في مقابل الاستمرار في قبض فوائد على حسابهم ومن ودائعهم التي وظّفتها لدى مصرف لبنان. وقد باعها الأخير دولارات المودعين على أساس سعر صرف 1507.5 لتكوين مؤونات على «اليوروبوندز»، مُحتفظاً لنفسه بحقّ شرائها من جديد على أساس سعر صرف المنصّة! إذاً «من يتحمّل كلفة تكوين الخسائر هي حسابات المودعين، نتيجة الفروقات بين ما توقّفت المصارف عن دفعه وما تقبضه من مصرف لبنان»، يقول بطيش.
المقامرة التي تلعبها المصارف يُفترض أن تودي بها إلى الهيئة المصرفية العليا، ويُحقّق معها بخسارتها لأموالها الخاصة، وضرب نسبة الملاءة (ما يضمن قدرة أيّ مؤسسة على الإيفاء بالتزاماتها)، ويُجبر المساهمين على ضخّ الأموال في المصرف لإعادة تكوين الخسائر. ولكن ثمة من فتح لها البوابة لتتسلّل وتهرب بفعلتها دون حساب، وهو مصرف لبنان بعدم استخدامه القانون لمعاقبة المخالفين. يُخبر النقيب السابق لخبراء المحاسبة المُجازين، أمين صالح أنّه كان يُفترض «احتساب المؤونات سنوياً على الدين العام وبقية القروض المشكوك بتحصيلها، وخصمها من حساب الأرباح». عوض ذلك، كان الهمّ «تظهير أنّ الوضع المالي سليم، وعدم كشف الحقائق، ليتمكّن المساهمون في المصارف من توزيع الأرباح وترحيلها إلى الخارج». يُضيف صالح أنّه حين لم يعد مُمكناً الاستمرار في تسويق كذبة «الوضع بخير»، وبعد الاستفادة لسنوات طويلة، «تسعى المصارف إلى تظهير خسائرها، موجّهةً رسالة أنّها على شفير الإفلاس أو مُفلسة، ولا يُطالبها أحد بإعادة الأرباح المُحققة، ودفع ودائع الناس».
يُريد المساهمون في المصارف أن تكون الخسائر وسيلتهم لتخليص ذاتهم وتدفيع الناس كلفة أخطائهم. يعتبر بطيش أنّ الأساس حالياً يجب أن يكون «إقرار خطّة للتعافي المالي والنقدي والمصرفي، تتوزّع فيها الخسائر بعدالة. مَن استفاد أكثر، عليه أن يتحمّل أكثر».
الاخبار