مجلة وفاء wafaamagazine
باستثناء الصور التذكارية، لم تخرج القمّة التي جمعت الرئيسَين التركي رجب طيب إردوغان، والأميركي جو بايدن، بأيّ نتيجة من شأنها أن تحقِّق انفراجةً في العلاقات الآخذة في التراجع بين البلدين، بفعل تراكم الملفّات الخلافية، وعلى رأسها مسألة “إس-400″، والتي رُحِّل البحث فيها إلى اجتماعات وزارية لاحقة. ولعلّ “الاختراق” الوحيد الذي تعوّل أنقرة عليه لاسترضاء شركائها الغربيين، بعد قمّة باهتة، هو استعادة دورها الأمني الذي اضطلعت فيه إبّان الحرب الباردة، عبر إبداء استعدادها لتسلُّم بعض مهمّات القوات المنسحِبة من أفغانستان، من مثل “حماية” مطار كابول، وتدريب القوات الأفغانية، بهدف دفع بعض الضغوط عنها
تحقَّق اللقاء الأوّل بين الرئيسَين التركي رجب طيب إردوغان، والأميركي جو بايدن، مع نهاية اجتماعات قمّة “حلف شمال الأطلسي” في بروكسل، أوّل من أمس. واستمرّ الاجتماع المنفرد مع المترجمين 45 دقيقة، تلاه آخر للمدّة نفسها بمشاركة وفدَي البلدين. وجاءت الإشارة الأولى المباشرة عن الاجتماع، على لسان بايدن الذي وصفه بـ”الممتاز جدّاً”، فيما وصف برهان الدين دوران، المقرّب من إردوغان، “الصورة” التي جمعت الزعيمين بأنها “إيجابية”. لكنّ التصريحات التالية للرجلَين، أعطت انطباعات مغايرة؛ فهُما حملا معهما إلى بروكسل ملفّات متعدّدة العناوين: صواريخ “إس-400” الروسية، عدم تسليم تركيا طائرات “إف-35″، الدعم الأميركي للقوات الكردية في سوريا، مسائل شرق المتوسط بما فيها ليبيا، العلاقات الاقتصادية، الموقف الأميركي من الإبادة الأرمينية، والوضع في القوقاز، فضلاً عن وجود فتح الله غولن في الولايات المتحدة، وأخيراً الكلام المستجدّ عن احتمال تولّي تركيا أمن مطار كابول وتدريب القوات الأفغانية.
في المواقف المعلَنة، لم يحدث أيّ تقدُّم في الملفّ الأكثر صعوبة والذي دارت حوله كلّ النقاشات في الأشهر الأخيرة، أي مسألة صواريخ “إس-400” الروسية؛ إذ أكد إردوغان أنه عرض الموقف عينه من الموضوع في اللقاء مع بايدن، من دون أن يفنّد ردّ فعل الأخير (والأمر نفسه ينطبق على طائرات “إف-35”). وعلى ما يظهر، فإن هذين الملفَّيْن قد تمّ ترحيلهما إلى اجتماعات وزارية لاحقة. وسعياً منه إلى التخفيف من وطأة عدم الاتفاق، قال الرئيس التركي إنه “ما من مشكلة ليس لها حلّ”. لكنّ الكاتب كمال جان تساءل: “كيف يمكن لهذا الكمّ من الخلافات أن يوجَز في 45 دقيقة؟”، معتبراً أن هدف إردوغان الرئيس هو أن لا يتعرّض لخسائر من وراء القمّة، وأن يراوح الوضع – على الأقلّ – مكانه، ليَعتبر أنه حقَّق انتصاراً له! وهو ما تجلّيه إجابات من مِثل: “الحمد لله، لم يتمّ التطرُّق لهذه المسألة”، ردّاً على سؤال عن الإبادة الأرمينية.
تعكس وسائل الإعلام التركية جانباً من رغبة أنقرة في تحسين العلاقات مع واشنطن و”حلف شمال الأطلسي”. ويتبيّن ذلك من خلال إبداء إردوغان رغبة في “حماية” مطار كابول وتدريب القوات الأفغانية، بتمويل من “الناتو”. وهذا يجدِّد التذكير بالدور التقليدي لتركيا خلال الحرب الباردة، أي الدور الأمني. وفي حين تخرج القوات الأميركية والأطلسية من مستنقع الموت في أفغانستان، تأتي تركيا لتوافق على البقاء والقيام بمثل ذلك الدور وتعريض حياة جنودها للقتل في مواجهة عناصر حركة “طالبان”. وهو، لربّما، الثمن الذي يريد إردوغان دفعه لتخفيف الضغوط عليه من جانب الغرب. وباقتراحه تولّي الأمن في كابول، يكون الرئيس التركي قد أكد دور بلاده على أنها “جندي الناتو”، على ما يقول الكاتب فهمي طاشتكين. وفي الاتجاه نفسه، أعرب عضو لجنة الشؤون الخارجية عن “حزب الشعب الجمهوري”، أوتكو تشاكرأوزير، عن اعتقاده بأن بقاء تركيا في أفغانستان هدفه إرضاء الولايات المتحدة، مشيراً إلى أن هذه الخطوة تُعرّض حياة الأتراك في أفغانستان للخطر، مذكّراً بأن “طالبان” لا تريد أيّ جندي أطلسي هناك، فيما الحكومة الأفغانية تعلن استعدادها للحرب ضدّ الحركة، أي أن الأمور سائرة بقوّة نحو حرب أهلية طاحنة. ولفت طاشتكين إلى أن الجانب الأميركي لم يدلِ بمواقف مفصّلة، معتبراً أن كل همّ إردوغان، في هذه المرحلة، أن يَظهر في الصورة مع بايدن، ليبعد أيّ انطباع بأنه مأزوم، بينما لم تُحلّ أي من المسائل العالقة، ولا سيما “إس-400″، والأكراد في سوريا، إذ أكد إردوغان أن بايدن لا يزال يحتفظ بمفهومه عن وجود “إرهابي جيد وآخر سيّئ”. كذلك، لم يَجد الرئيس التركي وسيلة لاستدراج عطف الغرب سوى بشنّ هجوم على الرئيس السوري بشار الأسد، واتهامه بقصف المدنيين والمستشفيات في إدلب. وهو ما يشير إلى أن سياسة العصا والجزرة ستتواصل في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة.
باقتراحه تولّي الأمن في كابول، يكون الرئيس التركي قد أكد دور بلاده على أنها “جندي الناتو”
من جهته، رأى الكاتب إيلهان أوزغيل أن إردوغان “ذهب إلى القمّة مثقلاً بالمشكلات والعجز. ويكفي ضعف موقفه من اعتراف أميركا بالإبادة الأرمينية”. وقال إنه باستثناء عهد كنعان إيفرين، في مطلع الثمانينيات، لم تكن يد أميركا قوية تجاه تركيا إلى هذا الحدّ، أي إلى القدر الذي تتبرّع فيه تركيا بحماية مطار كابول بعد الانسحاب الأميركي من هناك. وهذا يعني أن إردوغان يستعدّ لـ”الرضوخ” في المرحلة المقبلة لإملاءات الولايات المتحدة في المناطق التي تتحرّك فيها تركيا من شرق المتوسط إلى البحر السود، ومن أفغانستان إلى أفريقيا. ويرسم الكاتب في صحيفة “غازيتيه دوار”، موسى اوزأوغورلو، بدوره، علامة “صفر كبيرة” على نتائج قمة إردوغان – بايدن، ذاهباً إلى أن “أولاد الأتراك يستعدّون، كما حصل في الحرب الكورية، للموت دفاعاً عن الآخرين، مُذكّراً بأن القطار الكردي في سوريا يواصل سيره، بينما لا تعير واشنطن اهتماماً للشكاوى التركية.
أمّا صحيفة “قرار” المعارضة، فوصفت العلاقات التركية – الأميركية بكونها بداية مرحلة جديدة من”التحاضن”، على رغم عدم وجود نتائج عملية. وقالت إنه بمجرّد عرض إردوغان الموقف التركي نفسه من صواريخ “إس-400” والأكراد، وعدم ظهور أيّ موقف أميركي، فهذا يعني أن الأمور لا تزال على حالها، بل إن إردوغان تحدَّث عن مكافحة تركيا للإرهاب، معبّراً عن خيبة أمل كبيرة بقوله: “في كلّ المعارك التي خضناها ضدّ الإرهاب، لم نرَ، للأسف، إلى جانبنا الدعم والتضامن اللذين كنّا ننتظرهما من حلفائنا وشركائنا”. ونظراً إلى أنه لا نتائج إيجابية من اللقاء، فإن الصحيفة أبرزت أن سعر صرف الليرة التركية قد تراجع من 8.30 إلى 8.47 ليرة، في مقابل الدولار الواحد. وكتب مراد يتكين، في تقريره اليومي، أن أحد توقّعات إردوغان من اللقاء، أن يكون هو المخاطَب أمام الرأي العام الدولي، وقد تحقَّق له ما أراد. لكنه، مع ذلك، لم يستطع كسر صورة “السلطان” المنغرسة لدى الرأي العام الغربي عنه.
ومن بروكسل، انتقل إردوغان مباشرة إلى باكو، عاصمة أذربيجان، في زيارة هي الثانية له إلى هذا البلد بعد الاحتفال بالنصر على الأرمن في تشرين الثاني الماضي. ومثّلت هذه الزيارة نوعاً من “التعويض” بعد خيبته في بروكسل، على اعتبار أن المحطّة الأهمّ فيها ذات بعد قومي، حيث قام هو ونظيره الأذربيجاني، إلهام علييف، بزيارة مدينة شوشة الأرمينية في قره باغ، والتي سيطرت عليها القوات الأذربيجانية وهجّرت سكّانها. وفي تحدٍّ واضح للأرمن في قره باغ وفي القوقاز، أصدر إردوغان وعلييف “إعلان شوشة” للتعاون بين البلدين، فيما أعلن الرئيس التركي عزمه فتح قنصلية لبلاده في المدينة، آملاً أن تتحوّل أذربيجان إلى مركز للتصنيع العسكري. ويخطّط الأتراك والأذربيجانيون لإقامة جامع كبير على الطراز الحديث في شوشة، علماً بأن المدينة الصغيرة تمتاز بكاتدرائية غازينشيتسوتس العريقة والقديمة، وبجوامع أثرية قامت إيران بترميمها. وليس أدلّ على الطابع “الثأري” للزيارة من قول برهان الدين دوران إنه “كما منعت القوات التركية طرابلس الغرب من السقوط بيد الأعداء، فإن هذه القوات كان لها دور مركزي في تحرير شوشه من الأرمن”.
الاخبار