مجلة وفاء wafaamagazine
نجح سعيّد في تحويل معركته ضدّ «النهضة» من معركة صلاحيات إلى مستوى أعلى مرتبط بالسياسة الاستراتيجية
على هامش المشهد الجديد الذي يخطّه الرئيس التونس قيس سعيّد في بلاده، يرتسم العديد من علامات التغيير المرتبطة بالخارج، متأثّرةً بتداعيات الحراك الداخلي التونسي. في الجزائر الجارة، وفي تركيا البعيدة جغرافياً القريبة سياسياً واقتصادياً، وما بينهما من مشاريع تطبيع ونفط وغاز تمتدّ من المغرب العربي وشمال أفريقيا حتى شرق البحر المتوسّط، يبدو أن ثمّة تحوّلات استراتيجية سيولّدها الحدث التونسي، خصوصاً بعد اكتمال نضوجهلا تتوقّف القراءات المتعلّقة بالحدث التونسي على التداعيات الداخلية لإقدام الرئيس قيس سعيّد على ما يصفه خصومه بـ«خطوات تفرّد بالحكم» عبر جمْع الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية إضافة إلى الإعلامية، بيده وحده، من أجل ما يصفه أنصاره بـ«مهمّة إنقاذ البلاد» من المنحدر الخطير الذي تنزلق إليه. إذ تتعدّاها إلى موقع تونس الجيوسياسي، حيث نجح سعيّد في تحويل معركته ضدّ «حركة النهضة» من معركة صلاحيات إلى مستوى أعلى مرتبط بالسياسة الاستراتيجية للبلاد، وموقعها في الصراع العربي – الإسرائيلي.
في مرحلة ما بعد «الربيع العربي»، تحوّلت تونس إلى ساحة صراع حول النفوذ والتأثير بين محورَين، بما يمثّلان من مصالح وتطلّعات وارتباطات: الأول يضمّ تركيا وقطر بالتحالف مع «الإخوان المسلمين» ممثّلين في «النهضة»، فيما يضمّ الثاني فرنسا ومصر والإمارات والسعودية بدرجة أقلّ.
شكّلت هذه الدولة أرضية خصبة للطموح التركي، الذي يسمّيه البعض – استنكاراً – «توسّعاً». وبإزاحة زعيم «النهضة» راشد الغنوشي من المشهد المؤسّساتي بفعل «التدابير الاستثنائية» التي اتّخذها سعيّد، تكون خسارة تركيا هي الأكبر من بين الدول المصطفّة في المحورَين المذكورَين، لما يمثّله الرجل من تأثير بالنسبة إلى موقعها في تلك المنطقة. تقول مصادر سياسية تونسية متابعة إنه في عهد «النهضة»، تحوّلت تونس إلى قاعدة إمداد لجبهة الحرب في ليبيا، إسناداً للدور العسكري التركي في الأخيرة. وعليه، فإنّ خسارة الرافد التونسي تعني إضعافاً لدور أنقرة، ليس في المغرب العربي وشمال أفريقيا فحسب، بل وفي منطقة شرق البحر المتوسّط التي تخوض فيها صراعاً مع الغرب عامة وفرنسا بصورة خاصة، للسيطرة على الخزّانات الجوفية لحقول الغاز والنفط. أيضاً، خسرت تركيا سوقاً اقتصادية مهمّة وواعدة فتحها البرلمان التونسي أمام رجال الأعمال الأتراك، عبر قوانين واتفاقات كان آخرها اتفاقية «التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمار في تونس وتركيا»، ما سمح لهؤلاء بالتملّك في أصول الدولة.
وفي حين تضاعفت صادرات تركيا، فإن تونس لا تصدّر إليها أكثر من 4% من مجمل الميزان التجاري بين الدولتين، مع عدم إغفال حقيقة أن تركيا ضخّت في السنوات الأخيرة أموالاً طائلة في البُنى التحتية التونسية، على شكل ديون سيادية مترتّبة على الشعب التونسي. كلّ ذلك تُرجم، في السياسة، زيادةً في التأثير التركي سياسياً وإدارياً في تونس من بوّابة الاقتصاد، خصوصاً في ظلّ ما عانته البلاد من أزمات متلاحقة، بدءاً بضرب القطاع السياحي وليس انتهاءً بأزمة «كورونا».
في المقابل، بدت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها ما يُسمّى «المجتمع الدولي»، متقبّلَين للتغييرات التي أحدثها سعيّد، وهو ما من شأنه بعْث الارتياح لدى الرجل، وأيضاً لدى الدول العربية المُرحّبة بقراراته، وعلى رأسها بالطبع مصر والسعودية والإمارات. وبحسب المصادر، فإن تلك الدول، بخلاف اتهامات «حركة النهضة»، تحاول الاستثمار في الوضع التونسي الجديد، لكنها لم تكن هي صاحبة القرار والإرادة في تحقيقه. وتضيف أن سعيّد يحاول تنفيذ أجندة تونسية داخلية صرفة، بعيدة عن سياسة المحاور، وإنْ لاقت خطواته استحسان المحور المعادي لـ«الإخوان» في المنطقة العربية، والذي بدأ في محاولات فتح قنوات تواصل وتنسيق مع تونس. على المقلب الجزائري، يبدو أن ثمّة ارتياحاً لجانب ممّا شهده الجار التونسي، وإن ظلّ الحذر قائماً في جوانب أخرى.
فالجزائر واقعة بين المغرب (من الغرب) التي يدير حكومتها الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية» (إخوان) سعد الدين العثماني (من الغرب)، وبين تونس (من الشرق) التي تسيطر على مؤسّساتها «حركة النهضة»، فضلاً عن الوجود الفاعل والمؤثّر لتركيا و«الإخوان» في ليبيا. هذه المشهدية تعني، بالنسبة إلى المصادر نفسها، استكمال تطويق المغرب العربي وشمال أفريقيا بالكامل، وبالتالي إضعاف الجزائر بشكل خاص، بالحصار تارة، وأخرى بإثارة الملفّات الخلافية مع دول الجوار. وهو ما تضعه المصادر في سياق تعزيز الأتراك نفوذهم وسيطرتهم، حيث كانت تلك الدول «درّة تاج» السلطنة العثمانية في القرنَين السابع عشر والثامن عشر الميلادي.
توازياً مع ذلك، لا تنفصل زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد إلى الرباط، الأولى من نوعها إلى المغرب منذ عام 2003، بعد تبنّي حكومة العثماني العام الماضي قراراً يقضي باستئناف العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، عن وقوف «النهضة» في تونس ضدّ مشروع قانون تجريم التطبيع في البرلمان، واتّهامها من قِبَل أحزاب وتيّارات شعبية تونسية بأنها تعدّ العدّة للانقلاب على مسار العداوة لإسرائيل وإعادة النظر في مقاطعتها، وبالتالي إلحاق تونس بركب الدول المطبّعة. المسار «التطبيعي» المناقض للخطوات الجزائرية، التي كان آخرها مصادقة البرلمان الجزائري بداية العام الجاري على مشروع قانون يجرّم التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، ترى المصادر أنه أحد «الأسباب الموجبة الإضافية» للعمل الممنهج لضرب الجزائر. وتَعتبر أن الموقف المتوازن الذي أبداه الرئيس عبد المجيد تبون، حيال التطوّرات الأخيرة في تونس، قد يشهد تعديلاً أكبر لصالح الرئيس مقابل «النهضة»، وذلك في إطار «تحرّك جزائري» قد تحتّمه التطوّرات لملاقاة النموذج/ التجربة التونسية التي يخوضها سعيّد الآن، بعد اكتمال نضوجها.
الأخبار