مجلة وفاء wafaamagazine
تحديد المسؤول عن إدخال النيترات ومن كان يسرقها يدحض كلّ ما تم تلفيقه من روايات لتوريط “حزب الله”، وهذا بكلّ بساطة ممنوع.
الكاتب غسان سعود
حين عين القاضي طارق بيطار محققاً عدلياً في جريمة انفجار مرفأ بيروت، افترض كثيرون أنه سيسارع إلى تصحيح أخطاء سلفه، فينطلق أولاً من تحديد الخلفية الحقيقية لإنزال النيترات على أرض المرفأ بإشارة قضائية، مروراً ثانياً بتحديد من فعل كلّ ما يلزم قضائياً وأمنياً لإبقائها في المرفأ، وصولاً ثالثاً إلى تحديد السارق، باعتباره المستفيد الوحيد من إنزالها وإبقائها في المرفأ، وإذا به يضع كلّ هذا السياق القانوني القضائي المنطقي جانباً، ليكمل بكل بساطة ما بدأه سلفه، رغم كلّ العيوب التي أحاطت بعمل القاضي فادي صوان، وأدت في نهاية المطاف إلى كفّ يده وتنحيته، مع العلم أنَّ الأخير اتُهم بأنه يدور تاريخياً وعائلياً في فلك حزب “الكتائب” اللبنانية، فيما اتُهم البيطار بداية بدورانه تاريخياً وعائلياً في فلك الحزب السوري القومي الاجتماعي.
وإذا كان ما سبق هو المفاجأة السلبيّة الأولى، فإنَّ المفاجأة السلبية الثانية تمثّلت بتحول البيطار من قاضٍ متواضع، قدماه على الأرض، ورأسه فوق كتفيه، إلى سياسيّ ينظر إلى نفسه كالمُخَلِّص العظيم المنتظر للشعب اللبنانيّ، يبدأ مساره السياسي (لا القضائي أو القانوني) من حيث انتهى الأمين العام السابق لقوى 14 آذار فارس سعيد، وهو يبدو لمن قابله، بعد إبر “الكورتيزون” الأميركية والفرنسية، أشبه بمن لا يرى انعكاسه بشكل طبيعيّ في المرآة، إنما يتراءى له شخص أو شيء آخر، وهو لن يكون الأول بالمناسبة ولا الأخير، إذ سبق للخارجية الأميركية أن وزّعت الكثير من إبر “الكورتيزون” هذه والمرايا لعدد كبير من الضباط والقضاة والسياسيين.
التحقيق في انفجار 4 آب/أغسطس سبقه، منذ أن دوى الانفجار، إقحام لـ”حزب الله” عبر وسائل الإعلام المعادية له، لكنَّ أجهزة الاستخبارات العالمية التي هرعت إلى بيروت لتبحث عن طرف خيط يربط النيترات بـ”حزب الله” اكتشفت بسرعة أنَّ “تلفيق” الاتهام مستحيل هذه المرة.
ومع ذلك، إنّ حجز صور الأقمار الاصطناعيّة، وعدم إعطاء الدولة اللبنانية أو أيّ طرف ثالث نسخاً عنها، وإخفاء نتائج تحقيقات الـFBI والاستخبارات الفرنسية والألمانية، كما سياق عمل المحقّقين العدليين، كانت تهدف كلها إلى عدم تقديم أية رواية ثانية غير تلك التي تقدّمها قناة “العربية” وأتباعها من القنوات اللبنانية، بحيث تبقى الرواية الوحيدة. وما دامت الرواية الوحيدة، فإنها ستكون بالنسبة إلى الرأي العام الرواية الصّحيحة، بغضّ النظر عن قلّة المنطق وانعدام العقلانية وعدم وجود أيّ دليل.
وإذا كان السّؤال عما دفع البيطار إلى عدم البدء بعمله من حيث يجب منطقياً جداً، لجهة تحديد المسؤول عن إدخال النيترات ومن كان يسرقها، فإنَّ الجواب المنطقيّ الوحيد هو أنَّ تحديد هاتين الجهتين يدحض كلّ ما تم تلفيقه من روايات لتوريط “حزب الله” بالموضوع، وهذا بكلّ بساطة ممنوع.
كذلك، إن بعض المستميتين في الدفاع عن مهنية بيطار (وهو غير مهني) كانوا يؤكّدون غداة استدعاءاته الأولى أن ما على المشكّكين سوى انتظار الدفعة الثانية من المطلوبين قبل نهاية الأسبوع، وإذا بالأسبوع ينتهي، ويتبعه أسبوع آخر، ثم شهر، ثم 6 أشهر، من دون أن يُستدعى رئيس حكومة إدخال النيترات تمام سلام، ورئيس حكومة النوم فوق النيترات سعد الحريري، ومعهما وزراء الأشغال وقادة الأجهزة الأمنية الموالية لتيار “المستقبل”، إذ إنَّ استدعاء هؤلاء يمكن أن يدحض الرواية العالقة في رأس الجمهور.
والواضح في هذا السّياق أنه يمكن استدعاء كلّ من يمكن ربطهم بـ”حزب الله” حصراً (ولو كان وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق الذي ارتبط اسمه حين كان وزيراً للداخلية بالاجتماعات مع مسؤول وحدة الارتباط في “حزب الله” وفيق صفا)، فالمطلوب من البيطار هو مذكّرات توقيف يتبعها بسرعة قياسية قرار ظنّي قبيل الانتخابات النيابية، تكرس في عقول الناخبين كلّ ما زرعته الفضائيات وشاشات التلفزة والمغردين.
وسط هذا كلّه، صادف البيطار 3 حوادث إضافيّة كان تعامله معها فضائحياً جداً، مظهراً خفّة ما بعدها خفة، أفقدته فتات الاحترام الذي أحاط باسمه حتى الأمس القريب.
أولاً، في ذكرى انفجار المرفأ، قدّم تلفزيون المر (MTV) على الهواء مباشرة عرضاً لشاهد زور، يلقّنه مقدم البرنامج على الهواء مباشرةً ما يفترض به قوله، لتضليل الرأي العام وحماية المسؤولين الحقيقيين عن الجريمة. وقد حصل ذلك كلّه بمشاركة علنية أيضاً من نقيب المحامين ملحم خلف. ومع ذلك، إنَّ القاضي الذي اختارته السماء لـ”تخليص” الشعب اللبناني لم يجد أيّ مبرر لتوقيف صاحب المحطة ومقدم البرنامج وشاهد الزور ونقيب المحامين، حتى تتبيّن دوافعهم الحقيقية من وراء تضليل الرأي العام والتحقيق مع فضح الجهة التي تموّلهم.
ثانياً، بعيد توقيف شاحنة النيترات في البقاع، كان يمكن أن يظهر تطابق كامل مع نيترات المرفأ. وقد ظهر أنَّ النوعية نفسها من حيث القدرة التفجيرية. ومع ذلك، إنّ المحقّق العدليّ لم يسارع إلى وضع يده على الملفّ، كأنَّ إيجاد تاجر نيترات يتكبّد عناء تهريب هذه المواد بأصعب الطرق، فيما يمكنه سرقتها بكل بساطة من مرفأ بيروت، لا يعني البيطار أبداً. لا يعنيه التحقيق مع إبراهيم الصقر لمعرفة من كان يطلب النيترات المتفجّرة منه، وإلى أين كانت تهرب أو كيف تستخدم. وهنا، ظهر بوضوح أنّ المحقّق العدلي غير معني أبداً بالإجابة عن السؤالين الملحّين عن كيفية إنزال النيترات في مرفأ بيروت ومن كان يسرقها ولماذا.
ثالثاً، خرجت الصّحافية في قناة “أل بي سي” لارا الهاشم لتقول إنَّ المسؤول في “حزب الله” وفيق صفا حملها تهديداً للبيطار، وهو ما كان يستدعي من الأخير التقدّم بشكوى سريعة وفتح تحقيق قضائي في الموضوع، لكن التحقيق كان يمكن أن يبرئ ذمّة صفا، فما كان من البيطار سوى الاستمتاع من بعيد لبعيد بتداعيات انتشار الخبر بكلّ ما يمثله من “خدمة” كبيرة لمشروع زجّ “حزب الله” في قضية المرفأ، قبل أن ينتقل إلى منصّة الكلام الكبير عن نيته تسطير مذكّرتي توقيف لرئيس المجلس النيابي نبيه بري والأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، إذا لزم الأمر، من دون أن يصدر أيّ توضيح يحفظ ماء وجهه القانوني والقضائي من هذا الهذيان السياسيّ.
أما لماذا لم يوقف صاحب قناة المرّ ومقدم البرنامج وشاهد الزور ونقيب المحامين، فالسبب واضح: ممنوع الإقدام على أية خطوة قانونية وقضائية من شأنها تعكير اتهام “حزب الله” في رأس الرأي العام قبل الانتخابات، تماماً كما يمنع ضمّ ملفّ نيترات البقاع إلى نيترات المرفأ لمعرفة دوافع السارقين المحتملة، لأنَّ من شأن ذلك تحويل الأنظار عن “حزب الله” باتجاه “القوات اللبنانية”، تماماً كما يمنع البدء بالتحقيق من حيث يجب، لجهة تحديد المسؤولين الفعليين عن إنزال النيترات في المرفأ وسرقتها.
المحكمة الدولية التي أُنشئت لاتهام “حزب الله” في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري كانت محكومة، رغم كلّ تسييسها، ببعض القانون وبعض الشفافية وبعض المصداقية، وكان هناك بين قضاتها من يحترم نفسه ومسيرته ومستقبله. أما محكمة طارق البيطار، فمن الواضح أنَّها لا تقيم أيّ اعتبار لهذا كلّه. واللافت هنا أنَّ البيطار قطع بنفسه “خطّ الرجعة”، إذ سيظهر أيّ تعديل في سلوكه القضائي أو القانوني أو السياسي اليوم بمثابة رضوخ لملاحظات “حزب الله”، وهو ما يزيد الطين بلّة.
والمؤكد في هذا السياق في النهاية أنَّ المحكمة التي لن تجيب عن كيفية دخول النيترات ومن كان يسرقها، وعلاقة المرجعية السياسية لإدارة المرفأ والمرجعية الأمنية فيه بالسفارة الأميركية من جهة، والمجموعات التكفيرية التي كانت تحتل جرود عرسال من جهة أخرى، هي محكمة لا يُعوّل عليها من قريب أو بعيد لمعرفة الحقيقة. أما طارق البيطار، فلا يمكن سوى تهنئته بالإنجاز الكبير المتمثل بانضمامه إلى فرقة فارس سعيد ونديم قطيش وسمير جعجع للزجل، لا أكثر.
الميادين