مجلة وفاء wafaamagazine
يعيش العراق لحظات مفصلية مع تصاعد النزاع على نتائج الانتخابات المبكرة التي أُجريت قبل أيام، وأفرزت تغييراً في أحجام القوى السياسية الرئيسة، وعمّقت الانقسامات داخل الطائفة الواحدة والقومية الواحدة. والظاهر، وفق ما تنبئ به ديناميات المشهد الحالي، أن القوى المتصدّرة والمتراجعة على السواء، خصوصاً داخل «البيت الشيعي»، تحاول تعزيز أوراقها من خلال الاستثمار في الشوارع المتضادّة، قبل الدخول في أيّ مفاوضات تستهدف التفاهم على شكل الحكومة المقبلة، التي يبدو أنها لن تكون إلّا توافقية، على رغم الاحتقان الكبير راهناً، والذي يشي بمخاض عسير ستسلكه هذه العملية
للمرّة الأولى منذ الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، يبلغ الاحتقان داخل ما يُسمّى «البيت الشيعي» هذه الذروة، في ظلّ تحوّل كبير في أدوار القوى المهيمنة عليه، يأتي للمصادفة عشيّة تنفيذ القوّات القتالية للاحتلال الأميركي انسحابها من هذا البلد، في الـ31 كانون الأوّل المقبل. وهو انسحابٌ لن يعني، بحال من الأحوال، انتهاء التأثير الأميركي على الساحة العراقية؛ فالعودة في عام 2014، تحت عنوان محاربة «داعش»، أتاحت للأميركيين استكمال «المهمّة» التي لم تكن بعدُ ناجزة عند الانسحاب الأوّل في عام 2011، باعتراف الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي حدّد موعد ذلك الخروج، ونفّذه أثناء ولايته الأولى، ثمّ خرج هو وعدد من أركان إدارته ليعلنوا أن خطوتهم ربّما كانت سابقة لأوانها. وجاءت الانتخابات المبكرة التي أُجريت في العراق في الـ10 من الشهر الحالي، لتُكرّس انقساماً حادّاً داخل الطوائف والقوميات الأساسية التي يتكوّن منها البلد، وخصوصاً داخل «الطيف الشيعي»، بما يفتح باباً واسعاً للتدخّل الخارجي، سواءً كان مقصوداً، مثلما تشتبه القوى المناوئة لزعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، متّهمة الولايات المتحدة والإمارات بتزوير الانتخابات (على اعتبار أن سيرفيرات النظام الذي اعتُمد في عمليات الفرز الإلكتروني موجودة في الإمارات)، أو كان مآل النتائج يعكس بالفعل الأحجام الحقيقية للقوى العراقية، ولا سيما «الشيعية» منها.
وهذه ليست أوّل انتخابات يحقّق فيها الصدر فوزاً. فقد فعل ذلك في انتخابات عام 2014، ثمّ 2018، وكان فوزه بـ54 مقعداً في الثانية عاملاً أساسياً في التحرّكات الشعبية التي أَسقطت في تشرين الأول 2019 حكومة عادل عبد المهدي، وجاءت بمصطفى الكاظمي رئيساً للحكومة، في ما اعتُبر تسوية بين إيران وأميركا، ثمّ جاءت النتائج الأخيرة التي يرى الصدر أنها حاسمة بحصوله على 72 مقعداً في المجلس المكوّن من 329 مقعداً، وتسمح لتحالف برئاسته باختيار رئيس للوزراء ببرنامج غيْر الذي حَكم به غالبية رؤساء الوزراء منذ الغزو في عام 2003، كفيلٍ بإنهاء عهود حكومات المحاصصات التي يعتبرها مسؤولة عن الفساد، وفق ما يروّج له الرجل. وفي ظلّ الانسداد السياسي المستمرّ، بدأت ملامح إنزال شارع في مقابل شارع تَظهر في العراق، لحسم الخلاف على نتائج الانتخابات. فبطريقة غير مباشرة، ردّ الصدر على تحدّي التظاهرات التي أطلقتها في وجهه القوى «الشيعية» الأخرى تحت شعار رفض تزوير الانتخابات، بإرسال أنصاره ليكنسوا المدارس في عدد من مناطق البلاد، استعداداً لبدء العام الدراسي.
وكان رهان القوى الخاسرة على تعديل النتائج من خلال إعادة الفرز بشكل يدوي، سقط، بعدما رفضت المفوّضية العليا للانتخابات 174 طعناً، وقبلت سبعة فقط هي وحدها التي سيصار إلى إعادة الفرز بموجبها يدوياً، ليبقى الشارع، مع كلّ مخاطره في بلد كالعراق، هو ساحة النزال، خاصة أن مصادر عراقية نفت نيّة محمد رضا السيستاني، نجل المرجع آية الله علي السيستاني، دعوة طرفَي الطيف السياسي «الشيعي» إلى اجتماع لتقريب وجهات النظر والاتفاق على رئيس وزراء جديد، من زاوية أن المرجعيّة لا تتدخّل أبداً في تسمية رئيس الوزراء. ومنذ أيّام، تستمرّ التظاهرات التي دعا إليها «الإطار التنسيقي» الذي يضمّ «ائتلاف دولة القانون» برئاسة نوري المالكي، و«تحالف الفتح»، ومستقلّين، تحت عنوان التزوير، والتدخّل الخارجي، ولا سيما الأميركي والإماراتي. وظهرت شعارات تُذكّر بثوابت الحركة «الشيعية» منذ ثورة العشرين ضدّ الاستعمار الإنكليزي، في اتّهام ضمني لـ«التيار الصدري» بالخروج عن هذه الثوابت. وفي ظلّ هذا الاحتقان، برزت مخاوف من الوصول إلى اضطرابات أمنية، خصوصاً مع استحضار لغة عنفية على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث هدّد أحدهم بدخول خمسة ألوية من «الحشد الشعبي» إلى المنطقة الخضراء في بغداد، إذا لم يستقِل الكاظمي الذي اتّهمه بعض روّاد تلك المواقع بالمساهمة شخصياً في «تهكير» نتائج الانتخابات، سواء كانت إلكترونية أو يدوية.
برزت اتّهامات ضمنية لـ«التيار الصدري» بالخروج عن ثوابت ثورة العشرين
على خطّ موازٍ، تستمرّ قراءات القوى السياسية العراقية، الجديدة منها والقديمة، لنتائج الانتخابات وما سيعقبها. وفي هذا الإطار، يَعتبر النائب الفائز عن حركة «امتداد»، محمد نور عزيز، في حديث إلى «الأخبار»، أن المقاعد التسعة التي حقّقتها حركة «امتداد» التي تمثّل حراك تشرين، «ليست كافية»، عازياً انخفاض حصّة الحراك إلى «عدم فهم القانون بشكل واضح من قِبَل الناخبين، وعدم توقّعهم حصول تغيير كهذا بهذه الطريقة، وكذلك ضعف الإمكانيات مقابل الأحزاب المستولية على السلطة»، مضيفاً أن من بين الأسباب التي أدّت إلى تراجع بعض الأحزاب «انخفاض نسبة المشاركة، وتشتّت جمهور هذه الأحزاب، في مقابل اختلاف جمهور التيار الصدري عن البقيّة لما يسوده من طاعة لقائده». مع ذلك، يرى عزيز أن «الانتخابات فتحت باباً كبيراً جدّاً للتغيير»، داعياً إلى «إعادة تقييم النظام السابق وتغييره». وعمّا إذا كانت «امتداد» مستعدّة لدخول تحالف يقوده الصدر، يقول إن «الحركة تتعامل مع المتغيّرات السياسية انطلاقاً من ثوابتنا التي أنشأنا امتداد على أساسها وكسبنا بها ثقة الشعب»، متابعاً، في ما يتّصل بالعلاقات مع دول الجوار، أنها «يجب أن تكون وفق المصالح المشتركة التي تُبنى على أسس احترام استقلالية البلد والحفاظ على سيادته»، مبدياً ميلاً خصوصاً لتحسين العلاقات مع الدول العربية ولا سيما دول الخليج، «لأنها عربية ولنا معها عمق تاريخي وروابط اجتماعية وثقافية كبيرة».
الاخبار