مجلة وفاء wafaamagazine
أعطت الرياض «مهلة غير مفتوحة لمعالجة الوضع» لا تتعدى يومين
يعرف الرئيس نجيب ميقاتي قواعد اللعبة. السعودية لم تختَره رئيساً للحكومة. وهي أساساً غير مهتمة بالتواصل معه. ويعرف أيضاً أنه جاء إلى رئاسة الحكومة بغطاء أميركي وفرنسي. لذلك، يتصرف عملياً على أساس أن باريس أولاً، ثم واشنطن وربما آخرون، هم من يقررون مصير حكومته. لذلك عمد فور اندلاع «الغضب السعودي» من تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي، إلى التواصل مع الفرنسيين والأميركيين طالباً المشورة والعون. وأول ما سمعه: لا تستقل، دعنا نحاول التوسط، لكن فَكّر في خطوة تساعدنا! ومع تعثر المحاولات في لبنان، توجه ميقاتي إلى بريطانيا للمشاركة في قمة المناخ، حيث يتوقع أن يلتقي هناك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ويجري اتصالات للاجتماع بمسؤولين أميركيين، وفي جيبه ورقة من خيارين: إما توفير تغطية دولية لحكومتي أو الاستقالة!
الوساطة مع الغرب بدأت بتواصل وزير الخارجية عبدالله بو حبيب مساء الجمعة مع مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشرق الأوسط فيكتوريا نولاند التي أبلغته استعداد بلادها للتوسط شرط تقديم لبنان تنازلاً كاستقالة قرداحي. ثم عاد رئيس الحكومة واتصل بالمسؤولة الأميركية التي أعادت على مسمعه ما أبلغته لوزير الخارجية، ولم تجبه على طلبه بترتيب لقاء له مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على هامش قمة المناخ في اسكتلندا. وقد كان ميقاتي صريحاً في إبلاغ المسؤولة الأميركية بأنه غير قادر على إجبار قرداحي على الاستقالة، وأن استقالته ستفتح الباب على تعقيدات قد تقود إلى استقالة وزراء حزب الله وربما وزراء حركة أمل ما سيطيح بالحكومة. فانتهى الاتصال بنصيحة من نولاند لميقاتي بـ«الاستعانة بصديق»، هو البطريرك الماروني بشارة الراعي، علّ الأخير يقنع قرداحي أو فرنجية اللذين دعاهما إلى زيارته.
استجاب البطريرك وأبدى حماسة للتدخل لمعالجة الأمر، على رغم كلام قيل له بأن لا مصلحة لبكركي بذلك، خصوصاً بعد تدخله لمعالجة ذيول كمين الطيونة. لكنه اعتبر أن الموضوع السعودي حساس وهو الذي تربطه بالرياض علاقة وثيقة. لذلك، طلب من فرنجية زيارته برفقة الوزير قرداحي. لكن فرنجية قرر التوجه بمفرده، وكان شديد الوضوح في القول للبطريرك بأن ما يجري ليس سوى عملية إذلال وابتزاز لن يقبل الوقوع تحتها مهما حصل. وهو لا يرى موجباً لاستقالة وزير أدلى بموقف قبل توليه منصبه، ويعبّر عن موقف سياسي مثل أي شخص في العالم. وأبلغه بأنه شخصياً لن يطلب من قرداحي الاستقالة. ولفت فرنجية انتباهَ الراعي إلى أن هذه الطريقة في التعامل لا تعكس احتراماً للبنان، وأنه لا يجوز للبنانيين الوقوع تحت ضغط هذا النوع من الابتزاز. في وقت لاحق، زار قرداحي الراعي الذي حثّه على الاستقالة مع تعمّد تسريب الطلب، فأعاد وزير الإعلام شرح موقفه، وقال إنه مستعد لأي خطوة ضمن سياق عام، لكن العلاج لا يتم على هذا النحو.
وكان فرنجية قد تشاور مع حلفائه، وسمع كلاماً واضحاً من قيادة حزب الله بأنه لا يحبذ تقديم قرداحي استقالته من الحكومة. وقال مرجع سياسي إن ميقاتي لم يهدد بإقالة وزير الإعلام لأنه تبلغ أنه في حال لم يكن موافقاً على معالجة مختلفة، فليستقل هو من الحكومة إذا وجد نفسه غير قادر على الاستمرار في مهمته أو لم يكن قادراً على تحمل الضغوط السعودية.
ميقاتي أجرى أيضاً مشاورات مع الرئيس نبيه بري الذي ينسق مع قيادة حزب الله ورئيس تيار المردة. وفهم رئيس الحكومة أن الثنائي الشيعي لا يمانع أي حل، ولكن ليس من زاوية الخضوع للابتزاز السعودي. بينما سارع فرنجية إلى إبلاغ الرئيس ميقاتي بأنه في حال إقالة أو استقالة قرداحي فهو لن يعيّن بديلاً عنه، وهو ما عدّه ميقاتي موقفاً عالي السقف. في هذه الأثناء، تبين أن كل ما فعله الأميركيون هو الطلب من الكويت تجميد قرارها سحب سفيرها بانتظار نتائج لقاء الراعي مع فرنجية. وبعد إعلان الأخير موقفه صدر القرار الكويتي بسحب السفير.
عدم الإقالة أو الاستقالة زاد من غضب السعودية التي بقيت مصرّة على موقفها، وزاد من هذا الغضب تسمية حكومة صنعاء شارعاً في العاصمة اليمنية باسم قرداحي، ورفع صور له. لذلك، أعطت الرياض، بحسب مصادر، «مهلة غير مفتوحة لمعالجة الوضع» لا تتعدى يومين، قبل اتخاذ قرار قطع العلاقات مع لبنان وسحب السفراء. فيما فُهم أن إقالة قرداحي أو استقالته تعيد العلاقة إلى مرحلة ما قبل كلامه، أي أن الرياض باقية على موقفها من الحكومة وعدم تقديم أي مساعدة للبنان. والإقالة أو الاستقالة تعني فقط وقف الإجراءات الديبلوماسية الأخيرة وعدم قطع العلاقات. وبحسب المصادر فإن الرياض، في وجه رفض الاستقالة، بدأت بوضوح «إجراءات الطلاق» مع الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها، وهي تنوي رفع مستوى الحصار من خلال فرض عقوبات على كيانات وشخصيات لبنانية بتهمة العمل ضد مصالحها أو دعم الإرهاب في الجزيرة العربية. وستقفل الأبواب أمام أي نوع من الدعم للبنان. وذهبت مصادر معنيّة إلى أن السعودية قد تطلب من القوى الحليفة لها في لبنان، أو تلك التي تمون عليها، مثل القوات اللبنانية وتيار المستقبل، الاستقالة من المجلس النيابي وتعطيل المجلس لا الحكومة حصراً.
حلفاء السعودية في لبنان يراهنون على موقف ما من رئيس الجمهورية ميشال عون ومن الرئيس ميقاتي. يلفت هؤلاء إلى أن الأول سبق أن تخلى عن وزير الخارجية شربل وهبه ولا يمكن أن يتحمل في نهاية عهده قطع العلاقات الخليجية مع لبنان، وأن للنائب جبران باسيل مصلحة بتسجيل موقف مراع للسعودية في وجه فرنجية. أما ميقاتي فلن يكون قادراً على الاستمرار في حكومة في وجه السعودية بعدما كان يراهن على أن تكون حكومته حكومة انفتاح عليها.
رغم ذلك، أبلغ رئيس الحكومة وزراء بارزين وجهات سياسية وسفراء أجانب أنه لا ينوي الاستقالة، وسيسعى خلال مشاركته في قمة المناخ إلى إجراء الاتصالات الهادفة إلى فتح حوار مع السعودية. وبعد تشكيل خلية الأزمة التي ضمت كالعادة وزراء يمثلون جميع الطوائف في الحكومة، علماً أن مشاركة الوزير يوسف خليل تمت من دون موافقة الثنائي الشيعي، وعقد الاجتماع في مكتب وزير الخارجية، ليصار بعدها إلى دعوة نائب السفيرة الأميركية، ريتشارد مايكلز، للمشاركة في الاجتماع (لم يستنكر أحد حضور مسؤول أميركي اجتماعاً رسمياً لبنانياً). وبدا الموقف الأميركي أكثر استياء مما ظهر علناً. وخلافاً لما أشيع، لم يتحدث الديبلوماسي الأميركي عن شروط سعودية في ما خص الموقوفين في ملف تهريب المخدرات أو أي ملفات عالقة بين لبنان والسعودية، بل ركّز على أن مدخل الحل يكون باستقالة قرداحي. وفهم أن هناك خلافاً داخل خلية الأزمة على كيفية مقاربة الأزمة: بين من يُريد الاعتذار للسعودية واستقالة قرداحي، ومن يطلب ربط الاستقالة – إذا كان لا بُدّ منها – بمقابل يحصل عليه لبنان. «فما جرى لا يتعلّق فقط بكلام قرداحي، والدليل على ذلك بيان السعودية التي اشتكت مثلاً من عدم تنفيذ لبنان لوثيقة التعاون القضائي الدولية، علماً أنّ لبنان لم يوقّع عليها أصلاً. كما اشتكت من عدم التعاون في مكافحة تهريب المخدرات، علماً أنّ وزير الداخلية الأسبق محمد فهمي قدّم لهم تقريراً عن كل مراحل التعاون». كذلك يسود أجواء الخارجية امتعاض من تصريح السفير اللبناني لدى السعودية فوزي كبارة الذي تحدّث عن إمكانية عودة العلاقات إلى طبيعتها «في حال نفّذ لبنان ما هو مطلوب منه»، فبدا كأنّه متحدّث باسم السعودية وليس لبنان، وتحدّث خلافاً لموقف الدولة الرسمي.
مع ذلك فإن ميقاتي لا يزال يعوّل على لقاء يعقده مع وزير الخارجية الأميركي على هامش قمة المناخ المقررة في غلاسكو، من أجل تحصين حكومته في وجه رد الفعل السعودي. لكنه أُبلغ ظهر أمس، من قبِل الأميركيين، أن لا لقاء مع بلينكن، ما اعتبره أول رسالة سلبية أميركية. فعاد ليتصل بالفرنسيين الذين يقولون إنهم رتبوا اجتماعاً له مع ماكرون. ويفترض بالأخير إجراء الاتصالات لترتيب لقاءات لميقاتي مع مسؤولين أميركيين. ويشيع ميقاتي في أوساطه أنه لا يرى داعياً لبقاء الحكومة في حالة كانت تحت حصار عربي وغربي وغير قادرة على القيام بأي إصلاحات. علماً أنه يعرف أن سبب الحرص الغربي على بقاء الحكومة يتعلق بالانتخابات النيابية المقبلة التي يتوقع الغرب أن يحقق حلفاؤه فوزاً كبيراً فيها.
إلى ذلك، تبيّن أن استقالة قرداحي كانت عنواناً لنقاش موسع حول ما تقوم به السعودية في لبنان، وأن في لبنان قوى بارزة لن تقبل مقايضة استقالة وزير بعودة السفير وليد البخاري إلى بيروت، وأن الأخير بات شخصاً غير مرغوب به من قبل غالبية الشعب اللبناني، وهو محل تندّر جميع من يلتقونه، لا سيما حلفائه من الإعلاميين والسياسيين. كما أن تقارير وزارة الخارجية السعودية تصف جهده في لبنان بأنه «غير ذي جدوى».
المصدر: الأخبار