مجلة وفاء wafaamagazine
منحت متغيّرات دولية عدة، «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، ومشروع «الإدارة الذاتية» الذي يقوده حزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي، وقتاً إضافياً قبل اتخاذ قرار واضح حول مستقبل المشروع برمّته، وعلاقته مع دمشق، الأمر الذي عرقل المساعي الروسية الأخيرة لدفع «قسد» إلى طاولة الحوار مع دمشق، والتي كان من المنتظر أن تظهر بوادرها قبل نهاية العام الحالي
دمشق | بعد اتّضاح الموقف الأميركي في سوريا، وقرار واشنطن الإبقاء على قوّاتها تحت ذريعة «محاربة الإرهاب»، والبروز المفاجئ لتنظيم «داعش» الذي عاد إلى تنشيط هجماته، ظهر التردّد الكردي نحو المشروع الذي تقوده موسكو، خصوصاً أن تلك التغيّرات ترافقت مع ضغوط أميركية وروسية مشتركة على تركيا لوقف هجماتها على مواقع «قسد» في الوقت الحالي، الأمر الذي وفّر للأخيرة حماية مؤقّتة، وأفسح لها مجالاً أكبر، يبدو أنها بدأت تحاول استغلاله لبناء مسار ثالث يبعدها عن المسار الأميركي غير الموثوق، والروسي الذي يواجه أصواتاً كردية رافضة له باعتباره ينهي مشروع «الإدارة الذاتية». وعلى الرغم من التوسّع الروسي في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا، وكذلك تمسّك الولايات المتحدة بالبقاء في هذا البلد، ثمّة حالة «عدم يقين» كردية تجاه الميل نحو أيٍّ من المشروعين، علماً أن التيّار المائل إلى واشنطن هو الذي يمتلك قدرة أكبر على حسم الموقف.
ويبدو أن حالة الشقاق في «الإدارة الذاتية» وأجنحتها السياسية والعسكرية، دفعت نحو إعادة إحياء وُجهة ثالثة تتمثّل في توسيع دائرة العلاقات مع أوروبا والعالم العربي، وحتى أميركا الجنوبية، وهو ما ظهر بشكل واضح عبر إنشاء ثلاثة أقسام جديدة داخل «دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية» وهي: قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقسم أميركا الجنوبية والشمالية وروسيا والصين، وقسم أوروبا. وتتمحور الرؤيا الجديدة – القديمة لـ«قسد»، وفق شرح عدد من مسؤوليها، حول «العمل خلال 2022 على توسيع دائرة العلاقات بحثاً عن اعتراف أطراف دولية، بينها دول عربية، بمشروع الإدارة الذاتية»، الأمر الذي يمكن استغلاله مستقبلاً في المفاوضات التي لا بدّ من الخوض فيها مع الحكومة السورية في نهاية المطاف، سواءً تم ذلك خلال الشهور القليلة المقبلة، أو بعده.
ومن بين الدول العربية التي يجري التركيز عليها في الوقت الحالي، كلّ من مصر والإمارات والسعودية، في ظلّ صعوبة بناء علاقات مع قطر، الحليف الاستراتيجي لتركيا. وتعوّل «قسد»، أيضاً، على تجاوب بعض البلدان الأوروبية مع مشروعها، حتى لو كان هذا التجاوب بعيداً من الصفة الرسمية، حيث كثّف مسؤولو «مسد» (مجلس سوريا الديموقراطي)، الذراع السياسية لـ«قسد»، من نشاطهم في بلدان أوروبية عدة، بينها السويد وفرنسا والنرويج والدنمارك، تحت مسمّيات مختلفة أبرزها «دعم المشروع الديموقراطي». كذلك، ثمّة اعتقاد لدى مسؤولي «قسد» بأن الموقف السعودي الرافض حتى الآن للتطبيع مع دمشق، قد يسمح ببناء علاقات أقوى قد تعيد الدعم للمشروع الكردي، نظراً لموقف السعودية المناوئ لتركيا، وهو ما قد ينطبق – نسبياً – على الإمارات، التي يمكن أن تسهم هي الأخرى في دعم «قسد»، على الرغم من الانفتاح الإماراتي الكبير على دمشق، وأنقرة، في الآونة الأخيرة.
تعوّل «قسد» على تجاوب بعض البلدان الأوروبية مع مشروعها حتى لو بصفة غير رسمية
وبينما يُظهر الأكراد تفاؤلاً كبيراً بخطّتهم السياسية، خصوصاً في ظلّ وجود «ورقة تفاوضية» بين أيديهم تتمثَل في عناصر «داعش» المحتجزين في سجونهم، وما لهذه العناصر من مخاطر مستقبلية كبيرة على البلدان التي جاؤوا منها، ثمّة معوقات عدة يواجهونها على الصعيدَين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي، تسبّب تدهور الأحوال الاقتصادية في مناطق «قسد»، بنموّ الرفض الشعبي لـ«الإدارة الذاتية»، التي عجزت حتى الآن عن بناء هيكلية واضحة لمؤسّساتها في مناطق سيطرتها، الأمر الذي خلق بيئة غير متزنة، لا تملك «الإدارة الذاتية» القدرة على ضبطها. كذلك، يواجه الأكراد مشكلات تتعلّق بالرغبة الجامحة في صبْغ مناطق سيطرتهم بالصبغة «الكردية» وتهميش المكونات الأخرى، وعلى رأسها العشائر العربية، وهو ما ظهر بوضوح خلال الأسبوعَين الماضيَين عندما قوبلت محاولات «قسد» فرض مناهج تعليمية باللغة الكردية، باحتجاجات واسعة في مناطق عدّة أجبرت «قسد» على التراجع عن قرارها. وفي ظلّ هذه الظروف، جاء رفض الكونغرس الأميركي تمرير بند في ميزانية وزارة الدفاع، يدعو إدارة الرئيس جو بايدن إلى تمكين «قسد» بما يكفي للاستغناء في قادم الأيام عن الدعم الأميركي، ليعمّق من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مناطق «الإدارة الذاتية»، ما يعني بقاء المشروع الكردي رهينة للإرادة الأميركية. أمّا بالنسبة إلى المعوّقات الخارجية، فعلى الرغم من ارتفاع حدّة المواجهات الروسية – الأميركية في ملفات عدّة، بينها الملفّ الأوكراني، وعلى الرغم، كذلك، من فتور العلاقات التركية – الأميركية، فإن هذه العلاقات تبقى رهينة مصالح خاصةّ بكلّ من واشنطن وموسكو وأنقرة، ما يعني احتمال تَغيّر طبيعتها في أيّ وقت، الأمر الذي يضع المشروع الكردي في دائرة الخطر الدائم.
في خضمّ ذلك، جاءت خطوات الحكومة السورية الأخيرة عبر فتح باب المصالحات في المنطقة الشرقية من سوريا، وما حقّقته حتى الآن، لتكون بمثابة ضغوط متزايدة على المشروع الكردي، الذي استشعر خطر انقلاب البيئة الحاضنة، وما سيترتّب عليه من تعميق للمشكلات الداخلية. ولعلّ هذا هو ما يفسّر المحاولات الكردية المستميتة لإيقاف المصالحات عبر تهديد مَن يقدم عليها، ومحاولة الإسراع في تنفيذ عمليات مسح ديموغرافية لمناطق سيطرة «قسد»، بهدف التسريع في عملية وضع مسودة لـ«العقد الاجتماعي» الذي تعتبره «الإدارة الذاتية» الأساس القانوني لمشروعها، بالتزامن مع توسيع دائرة علاقاتها بدول عدّة بحثاً عن اعتراف بوجودها. وهكذا، يبدو أن «قسد» تحاول أن تجد مخرجاً لأزمتها الحالية، أو على أقلّ تقدير ورقة تفاوضية تأمل بأن تتمكّن من استعمالها خلال الفترة المقبلة، تبعاً للمتغيّرات الدولية تجاه القضية السورية.