مجلة وفاء wafaamagazine
خلُص تقرير رسمي بريطاني إلى أن ثمّة «إخفاقات خطيرة» ارتكبها طاقم «10 داونينغ ستريت»، عندما كان ينظّم حفلات صاخبة برعاية بوريس جونسون، بينما كانت المملكة تخضع لسياسة عزل تامّ. ومع أن جونسون، الذي يتمتّع بحماية أغلبيّة البرلمان، رفَض تحمّل المسؤولية، وتشاغَل وفريقه بالمسألة الأوكرانية، إلّا أن كتلة متعاظمة من نوّاب حزبه بدأت تدفع في اتّجاه التصويت على الثقة بالحكومة، ما يُشير إلى تزايُد فرص استبداله، سعياً لتقليص الخسائر
لندن | تعرّض بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، لأسوأ تقريع علني في حياته السياسية كلّها، عندما سلَقه عدد كبير من النوّاب في مجلس العموم بألسنة حِداد، بعدما تمّ نشر نسخة موجزة من تحقيق رسمي خلُص إلى أن طاقم «10 داونينغ ستريت» (حيث مقرّ الحكومة) ارتَكب ما يرقى إلى «إخفاقات خطيرة»، عندما كان ينظّم حفلات صاخبة برعاية رئيس الوزراء، يحضرها عشرات الأثرياء، في وقت كانت فيه الجزيرة البريطانية تخضع لسياسة عزل تامّ إثر تفشّي وباء «كوفيد 19»، مَنعت المواطنين في حينها حتى من دفن موتاهم، تحت طائلة الملاحقة القانونية والغرامات الباهظة.
واضطرّ ليندساى هويل، رئيس مجلس العموم، لطرْد ايان بلاكفورد، زعيم «الحزب القومي الإسكتلندي»، من جلسة خاصة عُقدت لمناقشة التقرير الذي يحمل اسم مُعِدّتِهِ، سو غراي، بعدما رفض سحب اتّهاماته لجونسون بالكذب الصريح على البرلمان، وغياب الإحساس بالمسؤولية أو النزاهة الأخلاقية لديه. وتهكّم بلاكفورد على طلب هويل منه الموافقة على سحب تلك الاتهامات، بقوله «ليس خطأي أنه لا يمكن الوثوق برئيس وزراء بريطانيا ليقول الحقيقة». وتطايرت، خلال الجلسة، الألفاظ القاسية والدعوات الملحّة إلى استقالة جونسون والإفراج عن النصّ الكامل لتقرير غراي، وذلك من جانبَي القاعة، سواءً مقاعد الحزب الحاكم أو من جهة الأحزاب غير الممثَّلة في الحكومة.
وقال أندرو ميتشيل، الوزير السابق في حكومات «المحافظين»، إن جونسون «لم يَعُد يتمتّع بدعمه»، فيما تحدّث النائب عن حزب المحافظين، آرون بيل، عن جنازة جدّته التي وصفها بالصعبة في أجواء العزل الذي فرضته حكومة جونسون على البلاد، متسائلاً: «هل يعتقد رئيس الوزراء أننا حمقى؟». وسخرت تيريزا ماي، رئيسة الوزراء السابقة عن «حزب المحافظين»، بدورها، من الموقف، بالإشارة إلى أن جونسون إمّا لم «يقرأ القواعد أو لم يفهمها»، أو أنه «لم يعتقد أن القواعد تنطبق على 10 داونينغ ستريت». من جهته، طالب كير ستارمر، زعيم «حزب العمّال» المعارِض، رئيس الوزراء، بنشر النصّ الكامل لتحقيق غراي، لكنه أصرّ على أن ما كُشف منه حتى الآن كافٍ لأن يقوم جونسون بتقديم استقالته، مستدركاً بأنه لا يعتقد أن رئيس الحكومة سيفعل ذلك كونه «رجلاً يفتقد الإحساس بالعار».
وكان النوّاب قد تلقّوا نسخة موجزة من التحقيق الذي يغطّي 16 احتفالاً منفصلاً، منها ما عُقد في مقرّ الإقامة الرسمي لرئيس الوزراء، وأحدها على الأقلّ كان للاحتفال بعيد ميلاده في حزيران 2020. ويستنتج التحقيق أنه «يبدو أنه لم يكن لدى فريق مكتب رئيس الوزراء، كبيرُ اهتمام بما يحدث في جميع أنحاء البلاد، عند النظر في مدى ملاءمة عقْد هذه التجمّعات، والمخاطر التي تشكّلها على الصحّة العامة، وكيف يمكن أن تَظهر للجمهور الخاضع للعزل التامّ». وأشارت غراي – وهي موظّفة عالية الرتبة في الجهاز المدني للحكومة البريطانية – إلى أن شرطة العاصمة تحقّق في اتّهامات جنائية بشأن 12 من تلك الاحتفالات، وأن جونسون وأفراداً من عائلته سيخضعون للتحقيق.
لن يمكن لكلّ ما يجري على المسرح السياسي إخفاء حقيقة الأزمة التي يعيشها النظام النيوليبرالي
وفي مواجهة الانتقادات الحادّة التي تعرّض لها، وعد رئيس الوزراء بـ«إجراء تغييرات» و«إصلاح الأمور». إلّا أنه رفض، في المقابل، بالاستفادة من الحماية البرلمانية التي يحظى بها نتيجة هيمنة حزبه على مجلس العموم، تحمُّل المسؤولية عن أفعاله، والتنحّي عن المنصب التنفيذي الأهمّ في النظام البريطاني، واستمرّ وفريقه بالتشاغل بالمسألة الأوكرانية، والتهويل من غزو روسيّ مزعوم لأوروبا، وغادر لاحقاً في زيارة عاجلة إلى كييف، متظاهِراً بالانهماك بالأزمة. لكنّ الخطر على جونسون قد يأتي هذه المرّة من داخل حزبه، حيث بدأت بالفعل كتلة متعاظمة من النواب «المحافظين» بإرسال خطابات مكتوبة إلى لجنة مختصّة في الحزب (تُدعى لجنة 1922)، للمطالبة بإجراء تصويت على الثقة بالحكومة الحالية. ووصل عدد تلك الطلبات حتى أمس، إلى 27، وهو نصف العدد المطلوب (54 نائباً) للقيام بذلك. ونَشرت الصحف مقتطفات من خطابات عدد من هؤلاء، وبحسب أحدها – للنائبة كارولين نوكس – «فإن استمرار جونسون في المنصب يضرّ بنا جميعاً الآن»، وهو «إساءة للعلامة التجارية لحزب المحافظين بأكمله».
ومن الجليّ وجود جيوب عريضة داخل الحزب الحاكم، ترى أن جونسون – على رغم كاريزميّته مقارنة ببقيّة قادة الحزب – أصبح عبئاً على «المحافظين»، بعد تراكُم سياساته الخرقاء، وفشل حكومته المتكرّر في التعامل مع التحدّيات البنيوية التي تواجهها المملكة، ولا سيّما بعد تركها عضويّة الاتحاد الأوروبي. لكن شكوكاً عميقة يشترك فيها عديدون داخل الحزب، حول قدرة أيٍّ من القيادات البديلة المتنافِسة على المنصب على تقديم أداء أفضل، نظراً لتوحّد الجميع في دعم أجندة نيوليبرالية حاسمة في الاقتصاد، تخدم الأثرياء وتزيد من أعباء الفقراء، وسياسات خارجية تتّسم بالتبعية لتوجّهات الولايات المتحدة، إضافة إلى صعوبة حصول أيّ منهم على تأييد شعبيّ واسع عند إجراء الانتخابات العامة عام 2024.
وسواءً تم التخلّص من شخص جونسون، أو أنّه بقي في منصبه لمزيد من الوقت، فلن يمكن لكلّ ما يجري على المسرح السياسي في لندن، إخفاء حقيقة الأزمة التي يعيشها النظام النيوليبرالي في البلاد، وتراكُم فشل الحكومات اليمينية المتعاقبة في الإدارة والحُكم والسياسة الخارجية، وآخر مظاهره إعلان وزير الخزانة أمس، زيادةً في فاتورة الطاقة المنزلية بمعدّل 700 جنيه إسترليني (ألف دولار أميركي) سنوياً للبيت الواحد، ما سيضع القطاع الأعرض من البريطانيين تحت مزيد من الضغوط الاقتصادية وتآكل الأجور وتضخّم الأسعار، بموازاة التراجُع المتتابع في التقديمات الاجتماعية للطبقات الأشدّ فقراً.
ليست مشكلة بريطانيا متعلّقة بما يجري في أوكرانيا، أو الاستهلاك المفرط للكحوليّات في الحفلات التي ينظّمها مكتب رئيس الوزراء، ولا غطرسة جونسون وتمسّكه بالمنصب بلا خجل، ولا حتى بـحزب المحافظين» الحاكم الذي يُنتج أمثال جونسون، إنّما مشكلتها نُخبتها المتمثّلة في تحالف الطبقات الأرستقراطية والبرجوازية الذي يهيمن على السلطة، في موازاة غياب شبه تامّ ليسار، وعجز لدى الطبقة العاملة البريطانية عن المواجهة، ولو على المدى الطويل.