مجلة وفاء wafaamagazine
أحداث كثيرة، أغلبيّتها بعيدة جداً عن الأضواء، تسارعت كثيراً في الأسابيع القليلة الماضية، عشيّة العودة إلى الاتفاق النووي.
ما كادت المفاوضات الأميركية- الإيرانية السابقة تصل إلى خواتيمها السعيدة في كانون الثاني/ يناير 2016، حتى تنعّم لبنان بعامين استثنائيّين لم يعرف مثلهما منذ عام 2004. فقد هدأت جبهات التحريض المذهبيّ، وانتخب رئيس جمهورية بعد سنوات من الفراغ، وسُمح بإزالة خطر التكفيريين بسياراتهم المفخّخة، ورصد مؤتمر “سيدر” 11 مليار دولار لدعم لبنان، ووقّع رئيس الجمهورية مراسيم التنقيب عن النفط بعد طول انتظار، وابتدأ التنقيب فعلاً، وأُجريت الانتخابات النيابية بعد طول تمديد.
ثم (…) انتُخب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وخرج من الاتفاق النووي، فتوقف التنقيب، وكرّت سبحة التدمير، ليصل البلد إلى ما وصل إليه اليوم.
مع التأكيد دائماً أن الترابط الزمني للأحداث لا يعني بالضرورة أبداً ترابطها السياسيّ. ومع ذلك، فإن أحداثاً كثيرة، أغلبيّتها بعيدة جداً عن الأضواء، تسارعت كثيراً في الأسابيع القليلة الماضية، عشيّة العودة إلى الاتفاق النووي، أبرزها:
1. زيارة أهم المسؤولين الأمنيين الإيرانيين لبيروت، ولقاؤه الهادف إلى وضع قيادة حزب الله في أجواء الاتفاق النهائي بين إيران والدول الكبرى، وإعلامها رسمياً بأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني بات تحصيل حاصل، محدّداً لمحاوريه موعداً أوّلياً، رغم الحرص الإيراني التاريخي على عدم ضرب مواعيد. وحين سُئل الضيف الإيراني (الذي أُحيطت زيارته بسرية تامّة) عمّا إذا كانت العودة إلى الاتفاق ستكون مقدّمة لمزيد من التصعيد في المنطقة للحؤول دون نمو النفوذ الإيرانيّ أكثر فأكثر أو العكس، أكد أن أبواب الحوار الإيراني- السعودي تبشّر بالإيجابيات أكثر من السلبيات، وتبدأ من اليمن.
2. زيارة رئيس أحد الأحزاب اللبنانية الأساسية لدمشق، للمرة الأولى منذ أكثر من عشر سنوات، للقاء الرئيس السوري بشار الأسد والبحث في تفاصيل لبنانية- سورية وسورية- خليجية، في ظل موقف سوريّ حاسم بعدم إظهار أي ودّ أو تسامح مع من أخطأوا بحقّ أنفسهم وتاريخهم وعلاقتهم مع الدولة السورية في الأيام السورية العصيبة.
3. انشغال كبير مستشاري الرئيس الأميركي لأمن الطاقة، آموس هوكشتاين، عن الأزمة الروسية- الأوكرانية، بكل ما تمثّله من تهديد جديّ هائل لأمن الطاقة في أوروبا والعالم، ليزور لبنان، حاملاً الموافقة الإسرائيلية على لبنانية “البلوك التاسع”، ومسقطاً من حساباته كل المحاولات السابقة لإلزام لبنان بتطبيع اقتصاديّ- ماليّ مباشر أو غير مباشر، مع العلم بأن هوكشتاين يعود قريباً جداً إلى بيروت بمسوّدة مكتوبة، تعلن الدخول في المرحلة النهائية من مفاوضات الترسيم.
4. توقيع وزير حزب الله للأشغال العامة والنقل علي حميّة، الذي يحمل الجنسية الفرنسية، على منح الشركة الفرنسية المقرّبة من الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون عقد إدارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات في مرفأ بيروت، لمدة 10 سنوات.
5. زيارة رئيس حزب التيار الوطني الحر جبران باسيل الدوحة للقاء وزير الخارجية القطري، للبحث في ثلاثة ملفات رئيسية، في ظل حرص باسيلي على عدم نفي أو تأكيد ما شاع عن لقائه الوسيط الأميركيّ في ملف ترسيم الحدود آموس هوكشتاين في برلين التي زارها قبل باريس، وكسر بلقاءاته فيها الجليد الذي عصف بعلاقته بالفرنسيين منذ أحداث الـ17 من تشرين الأول/أكتوبر 2019.
6. اكتشاف كل من تسرّعوا في إنشاء الائتلافات لخوض الانتخابات بعيداً عن الأحزاب والبيوتات السياسية ورجال المال والأعمال أنهم لن يتلقّوا تمويلاً استثنائيّاً لخوض الانتخابات، حيث سيقتصر الدعم المالي الأساسي على أحزاب القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية وأبناء البيوتات السياسية الصديقة للاستخبارات السعودية.
7. مبادرة بعض المنظمات الإنسانية والاجتماعية الأوروبية إلى الادعاء أمام القضاء اللبناني على جمعيات لبنانية أساءت الأمانة، ولم تلتزم بالعقود والبرامج والمشاريع.
8. لحاق ألمانيا بمن سبقها من دول أوروبية في فتح الملفات المالية لحاكم المصرف المركزي رياض سلامة، في ظل الآمال الفرنسية باستبدال الحاكم المقرّب من الأميركيين بحاكم أقرب إلى الفرنسيين، انسجاماً مع طموحات ماكرون في استعادة بعض النفوذ الفرنسي في لبنان.
9. مبادرة الدبلوماسية الفرنسية إلى سؤال أحد محاوريها اللبنانيين الأساسيين عن كيفية فتح قنوات اتصال غير مباشرة مع الدولة السورية، بشأن البدء بإعادة اللاجئين السوريين في لبنان إلى سوريا، والآلية المفترضة لتحقيق ذلك، في ظل الإصرار الأميركي- الفرنسي على عدم الاعتراف السياسي بانتصار الرئيس السوري بشار الأسد.
10. تحطيم وزير خارجية الفاتيكان بول ريتشارد غالاغير آمال كل من كانوا يعوّلون على توريط الكرسي الرسولي في الوحول اللبنانية، عبر حرصه الشديد على تجاهل كل النظريات المتعلقة بالحياد، في ظل علاقات فاتيكانية مباشرة مع حزب الله لم تكن موجودة في السابق، مفتوحة على مفاجآت كبيرة في أيّ لحظة. والجدير ذكره أن غالاغير انتقل من تسجيل ملاحظات قاسية بحق حزب الله أمام ضيوفه اللبنانيين إلى تسجيل ملاحظات ودية استيعابية، مع الأخذ في الاعتبار دائماً أن نظرة الكرسي الرسولي وقلبه وعقله إلى دور ووظيفة الكنيسة المارونية في الشرق تتعارض بالكامل، لا بتفصيل من هنا وآخر من هناك، مع كل النزعات الانعزالية والطروحات الانتحارية، في ظل نقمة فاتيكانية هائلة على كل ما تسبّبت فيه السياسات الأميركية في المنطقة، من تهجير للمسيحيين وأذى لا يمكن معالجته.
11. استكمال إصلاح خط الغاز من الجهة اللبنانية بشكل كامل ليصبح جاهزاً لاستجرار الغاز المصري.
12. كسر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في هذا التوقيت بالذات، توازن الرعب العسكري والأمني القائم منذ عام 2006، بإعلانه الرسمي عن تصنيع حزب الله المسيّرات والرؤوس الذكية للصواريخ، على نحو يسمح بتحويل كامل ترسانة حزب الله من الصواريخ إلى سلاح نوعيّ يهدّد الكيان الاسرائيليّ، بما لم يتخيّله من قبل. وقبل أن يستوعب الإسرائيليون ما يقوله الأمين العام، استعرض الحزب قدراته التكنولوجية في سماء فلسطين المحتلة.
إلى أين يقود هذا كله؟ إلى ملامح فرصة مماثلة لتلك الأشهر القليلة التي عرفها لبنان قبيل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً، وخلال الشهور القليلة التي تلت انتخابه وسمحت بإنجازات سريعة على صعيد قانون الانتخاب وتحرير الجرود وإطلاق مؤتمر “سيدر” وإجراء الانتخابات النيابية وبدء التنقيب عن النفط وغيره، مع مجموعة متغيّرات إيجابية بالنسبة إلى حزب الله والرئيس ميشال عون لم تكن موجودة في المرة السابقة، أبرزها:
· الانكفاء السعودي في لبنان إلى الحد الأدنى المتمثّل في القوات اللبنانية وبعض الأفرقاء الذين لا يقدّمون أو يؤخّرون في المعادلات الأساسية.
· الحماسة الفرنسية للعب دور أكبر في الاقتصاد اللبناني، مع حرص فرنسيّ واضح على التنسيق مع حزب الله، في مقاربة يبدو واضحاً أن الكرسيّ الرسوليّ يتأثر بها أيضاً.
· انتهاء الحرب السورية بكل ما حملته من رهانات أميركية وخليجية كان يُراد استخدام لبنان لتحقيقها، حتى بعيد الاتفاق النووي الأول.
· اقتناع الأميركيين بأن الحصار الاقتصادي آخر عامين، كما الحرب الإسرائيلية عام 2006، والتحريض المذهبي بين عامي 2006 و2016، والحرب التكفيرية، لم يحقّق غايتهم، في ظل تآكل هيبة وحضور الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة والسعودية في لبنان، وعدم نجاح المجتمع المدني في إثبات نفسه كبديل جديد لهم.
· الاتفاق النووي السابق وُقّع عشيّة إنهاء الديمقراطيين دورة ثانية في البيت الأبيض، فيما يعود المعنيون بالاتفاق إليه في مستهل ولاية الإدارة الديمقراطية الجديدة، في ظل تنبّه إيرانيّ إلى ضمان استمرارية الاتفاق أياً كانت المتغيّرات الأميركية في السنوات اللاحقة.
وهو ما يسمح بالقول إن فترة السماح التي أُعطيت للبنانيين لإنجاز شيء ما بين عامي 2016 و2018 يمكن أن تكون أطول اليوم. وفي ظل موازين القوى الداخلية وموازين القوى الإقليمية المحكومة بالمسيّرات والصواريخ الدقيقة، وجاهزية الكثير من المشاريع، يمكن للبنانيين الاستفادة أكثر فأكثر من هذه الفرصة. وبالتالي، يمكن لرئيس حزب القوات اللبنانية ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وناشطي المجتمع المدني الذين كانوا يهلّلون للانهيار ويحتفلون به ويشتمون المغتربين الذين قرّروا زيارة أهاليهم في الصيف الماضي والتلفزيونات الثورية الثلاثة وحشود المغّردين الافتراضيين الذين لا يريدون بناء أيّ شيء، بل تدمير كل شيء، أن ينهاروا أكثر فأكثر، كما هو حاصل منذ أسبوعين.
غسان سعود – الميادين نت