مجلة وفاء wafaamagazine
العميد أمين حطيط
كانت أميركا ترغب منذ البدء في جرّ روسيا الى مستنقع أوكرانيا وإغراقها فيه عبر إعادة إنتاج المشهد الأفغاني مع الاتحاد الروسي، وراحت على مدار شهرين متتاليين تهوّل وتروّج لفكرة «الاجتياح الروسي» والحرب الروسية على أوكرانيا. وفي المقابل، كانت القيادة الروسية تتعامل مع الوضع بكلّ هدوء وجدية، وتعمل على معالجته بالوسائل السلمية عبر تحديد مطالبها المشروعة في أوكرانيا، وهي مطالب ذات شقين؛ أول يتعلق بالأمن القومي الروسي وثان يتعلق بمصالح وحقوق السكان الأوكرانيين من أصل روسي وفقاً لما ضمنته اتفاقيتا منيسك ١ و٢ المعقودتان بعد انقلاب العام ٢٠١٤ الذي أخرج من السلطة الحكومة العاملة بسياسة الحياد بين روسيا والغرب وجاء بحكم بديل استفزازي شكل أداة للغرب ضدّ روسيا.
لقد حدّدت روسيا مطالبها في أوكرانيا بوضوح كلي وهي مطالب تشكل ترجمة للحقوق التي يضمنها القانون الدولي العام وشرعة حقوق الإنسان ومبيّنة وضوحاً باتفاقيات ثنائية حديثة العهد كما ذكرنا، ولم تكن روسيا ميالة لأيّ عمل عسكري يشغلها عن مسيرتها الاستراتيجية التي بدأتها منذ عقد من الزمن لاستعادة موقعها على الخريطة الدولية وإشغال مقعدها الذي كان لها قبل تفكك الاتحاد السوفياتي، خاصة أنها ومن البوابة والميدان السوري حققت الكثير مما يقرّبها من هذا الهدف، كما أنها شكلت مع الصين وإيران المثلث الاستراتيجي الذي يعمل على إقامة نظام عالمي تعدّدي على أنقاض نظام تريده أميركا أحادي القطبية بقيادتها.
بيد أنّ أميركا رأت انّ استدراج روسيا الى أوكرانيا وإغراقها في وحولها دون التورّط في نزاع عسكري مباشر معها، عمل ذكي من شأنه ان يشطب روسيا من المثلث المناهض لها ثم يفاقم الأزمات الأوروبية الاقتصادية ما يجعل أوروبا أكثر تبعية لها ويمنعها من محاولة الابتعاد عنها او التفكير بوضعيات ذات طبيعة استقلالية عنها بمعنى انّ «مستنقع أوكرانيا» إذا تشكل سيغرق روسيا وأوروبا وتبقى أميركا وحدها بمنأى عنه.
ولأنّ الخطة الأميركية هكذا فقد رفضت أميركا وحملت أوروبا وأوكرانيا على رفض ما طلبته روسيا من مطالب مشروعة في الأمن القومي وأمن الأشخاص الروس على جانبي الحدود، وشجعت أوكرانيا على رفض الحوار مع موسكو لا بل شجعتها على القيام بالأعمال الاستفزازية ضدّ السكان في إقليم الدونباس وأكثريتهم الساحقة من أصل روسي (٨٠٪ روس) وظهرت أوكرانيا وكأنها تصرّ على استدراج روسيا إلى الحرب التي تصوّرتها انها ستكون «مقبرة للجيش الروسي» ولـ «أحلام روسيا الإمبراطورية».
أمام هذا الواقع ومع إقفال باب الحوار بوجهه والإعراض الغربي والأوكراني عن كلّ تحذيراته وضع الرئيس الروسي بوتين أمام خيارات صعبة أوّلها السكوت على الاستفزاز وتعريض الأمن القومي الروسي وأمن الأشخاص الروس للخطر، وثانيها حشد القوى العسكرية والتهويل بالحرب مع إظهار الجدية في خوضها، بشكل يحمل الطرف الآخر على التراجع بعد أن تظهر القوة الروسية ويلمس الآخر المخاطر، والثالث تنفيذ عملية عسكرية نوعية تدمّر القدرات العسكرية لأوكرانيا لاقتيادها الى الإذعان للمطالب الروسية، وآخرها القيام باجتياح شامل لأوكرانيا واحتلالها ثم إقامة الحكم الذي تفرضه روسيا.
أمام هذه الخيارات أسقطت روسيا الخيارين الأول والرابع، وأحجمت عن اعتماد «استراتيجية الاحتلال الشامل» لأنّ فيها خسارة استراتيجية كارثية وفخ استراتيجي مدمّر، وعملت بالخيارين الثالث والرابع مندمجين ومتدرّجين وفقاً لاستراتيجية الضغط المتدرّج وصولاً الى فرض الإذعان على الخصم وأخرجت خطة ميدانية تقوم على مراحل متدرّجة ذات أهداف محدّدة كما يلي:
ـ المرحلة الأولى: التحشيد العسكري على الحدود مع أوكرانيا لإظهار القوة والجدية في استعمالها وفقاً للخيارات الروسية وليس كما تريد أميركا.
ـ المرحلة الثانية: الاعتراف باستقلال جمهوريتي إقليم الدونباس (دونيتسك ولوغانسك)، والتعامل معهما مباشرة بصفتهما دولتين مستقلتين ذات سيادة يمكنهما عقد الاتفاقات الدولية وفقاً للقانون الدولي العام،
– المرحلة الثالثة: التدخل العسكري في أوكرانيا بناء لطلب الدولتين المستقلتين، والقيام بما من شأنه حماية أراضي الدولتين والدفاع عنها وتمكينهما من السيطرة على كامل أراضيهما وفقاً لإعلان الاستقلال وتحديد الحدود.
– المرحلة الرابعة: فرض الانهيار الميداني على الجيش الأوكراني وتدمير طاقته وقدراته القتالية دون التورّط في احتلال وانفلاش داخل العمق الأوكراني ودون التوغل بعيداً الى غرب أوكرانيا وصولاً الى الحدود مع دول باتت أعضاء في حلف الناتو مع ما يستتبع ذلك من فرضيات لا تحمد عقباها…
وفي التنفيذ التزمت روسيا خطتها بحذافيرها واستطاعت وبمهلة قصيرة نسبياً وباستعمال الحجم الأدنى من القوى العسكرية ان تحقق معظم أهدافها وبشكل رشيق مدروس مع تجنب الخسائر الى الحدّ الأقصى وبالتدقيق في النتائج يمكن القول «إنّ العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا حققت في أقلّ من أسبوعين الإنجازات الهامة التالية:
ـ فرض حصار بحري تامّ على أوكرانيا ومع تحضيراتها العملانية لاستكمال السيطرة على مدينتي ماريوبول وأوديسا ستؤمّن عزلها عن بحري آزوف والأسود بشكل تام.
ـ ربط جزيرة القرم التي كانت روسيا ضمّتها سابقاً إليها وربطها بممرّ بري مع تأمين المياه العذبة لها.
ـ تأمين حماية كامل إقليم الدونباس مع كامل أراضي الجمهوريتين المستقلتين حديثاً.
ـ تدمير البنى التحتية والصناعة العسكرية والقدرات القتالية للجيش الأوكراني بنسبة تتجاوز ٤٥٪ من كامل قدراته وذلك بعد تدمير ٢٣٩٦ هدفاً عسكرياً.
ـ إخراج سلاح الطيران الأوكراني ذي الـ ٢٨٥ طائرة من الميدان بشكل شبه كامل بعد ان فرضت سيطرة جوية كاملة ودمّرت معظم المطارات ودمّرت ٩٥ طائرة على الأرض او في الجو.
ـ إخراج منظومة الدفاع الجوي الأوكراني الأساسية الـ S300 من الخدمة.
ـ السيطرة التامة على المنشآت النووية الأوكرانية شرقي نهر دونيبرو في تشيرنوبيل وزاباروجيا.
ـ حصار المدن الكبرى الأساسية شرقي النهر دون التورّط في دخولها والانجرار الى حرب شوارع فيها.
مع هذه الإنجازات العسكرية لم تقفل روسيا باب الحوار، فقبلت التفاوض مع الحكومة الأوكرانية وعقدت حتى الآن أكثر من جولة معها أثمرت فتح ممرات إنسانية لخروج المدنيين من المناطق المحاصرة، كما انها تستمرّ في تلقي الاتصالات ممّن يقدّمون أنفسهم بأنهم وسطاء، فتسمعهم جميعاً كلاماً واحداً مضمونه انّ العملية العسكرية الخاصة بدأت من أجل أهداف محددة وأنها ستتوقف عندما تحقق أهدافها، فإذا تحققت هذه الأهداف سلماً كان به وإلا فإنها مستمرة ومن غير تسرّع او استعجال حتى تحقيق هذه الأهداف مع إشعار الوسيط بأنّ وقت القيادة الروسية مفتوح وانّ خياراتها مفتوحة أيضاً وهي جاهزة لكلّ الاحتمالات ويمكنها العمل مهما كان سقف الاحتمال عالياً بما في ذلك السقف النووي، تعلن ذلك دون ان يفوتها التذكير بأهداف العملية الأساسية وما تمّ تطويره أثناءها حتى باتت كالتالي:
ـ الاعتراف الأوكراني باستقلال دونيتسك ولوغانسك واحترام سيادتهما وعدم الاعتداء عليهما في حدود سيادتهما على كامل إقليم الدونباس.
ـ الاعتراف بحق روسيا بجزيرة القرم بشكل نهائيّ.
ـ نزع سلاح أوكرانيا وعدم السماح لها بحيازة أو نشر ايّ سلاح استراتيجي على أراضيها.
ـ إعلان حياد أوكرانيا ومنع انضمامها الى الأطلسي «ناتو» مع قبول انضمامها الى الاتحاد الأوروبي.
وعليه نرى وفي ظلّ إحجام الغرب عن التورّط في نزاع مسلح مع روسيا بشكل مباشر فإنّ أوكرانيا باتت أمام خيارين إما السلام والعودة الى الحياة الطبيعية عبر القبول بالمطالب الروسية او استمرار الحرب مع التحوّل الى استقطاب الإرهاب من أربع رياح الأرض والقضاء على نفسها بنفسها، بحجة محاربة روسيا التي عرفت كيف تصوغ خطتها بما يحول دون الدخول في حرب استنزاف خططت لها أميركا.
البناء