مجلة وفاء wafaamagazine
ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: “يطل علينا هذا العام شهر محرم الحرام الذي اصطلح أن يكون بداية السنة الهجرية نستقبل اليوم فيها عاماً جديداً ونودع فيه عاماً مضى، نستقبل عاماً لا ندري ماذا يخبأ لنا فيه من أحداث وتطورات هي رهن بأعمالنا ومقدار التزاماتنا ونوايانا يمتحن الله فيها قلوبنا، فنحن من نرسم هذا المستقبل بإرادة الله تعالى الى جانب توفيقه أو خذلانه، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى او الخذلان ترتبط بمقدار صدقنا معه. على أن ما ودعنا لا يعني أنه انتهى بمفاعيله وأنه لا أثر له على القادم من الاعوام وأنه أصبح من الماضي، بل على العكس من ذلك، وإن كان الزمن قد مضى وانتهى ولا عودة له الذي يعني خسارة لجزء من العمر والفرصة التي منحنا اياها الخالق سبحانه إن لم نكن أحسنّا استثمارها أو أسأنا، أما من وُفّق لاستثمارها في ما ينفع نفسه والناس فهذا الذي استثناه الله تعالى من الخسران كما ورد في سورة العصر: (والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر)، وكيف يُستثنى من الخسران الذين آمنوا، مع أن الزمن يمضي على الجميع والخسران أي النقصان في العمر لا يستثنى منه أحد، فالكل سينتهي به الأمر الى الموت، والسنّة الالهية جارية على كل الاحياء وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن ليس للأعمال أعمار وانقضاء زمني سيئة كانت أم حسنة ولن يمر عليها الزمن إلا من حيث الوقوع، ولكنها مستمرة فالإيمان وهو فعل قلبي والعمل الصالح الذي أشارت إليه الآية كل عمل صالح من حيث الظاهر والباطن المصاحب للنية الصالحة، ولأهمية التواصي بالحق والتواصي بالصبر ذكرها الله تعالى بالخصوص بما لها من أثر على صاحب الفعل وعلى المجتمع من التمسك بالحق والصبر في ذات الله تعالى عند مواجهة الشدائد والثبات على الحق، وهي مستمرة أيضاً بما لها من آثار تعود بالفائدة على صاحب الفعل وعلى المجتمع وهو استمرار في الوجود المادي والمعنوي يحمله المرء معه الى العالم الآخر (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) التي يدعها أي المال والبنون بما هي مظهر دنيوي الإنسان خلفه، فلا ينبغي الحرص عليها وإنما يستثمرها في عمل الخير النافع من صدقة أو برّ أو معروف او في خدمة المجتمع، بينما جمع المال لمجرد أن يّقال عنه أنه ذو مال وفير أو البنون ليفتخر بالكثرة فهو إرضاء للغريزة والنفس الأمّارة بالسوء (وتحبون المال حباً جماً) (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) (زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أؤنبكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد* الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار* الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار)”.
أضاف: “أعود الى الحديث الذي بدأت به، وهو أن ما وقع من الإنسان (فرداً او جماعةً) من أعمال في الاعوام التي انقضت لا يعني انها انتهت، وإنما هي باقية وقد ترسم صورة المستقبل للفرد والمجتمع سلباً أو إيجاباً، وهي بمقدار تأثيرها في رسم صورة هذا المستقبل تحمل المسؤولية، فحين يقوم الإنسان تلبية لواجب اجتماعي أو إنساني يدفع فيه خطراً على الدين او على وجود الجماعة التي ينتمي اليها أو يتوانى عن القيام به فهو يساهم في حفظ القيم الالهية أو على بقاء هذه الجماعة أو في ما ينتهي اليه أمرها من الخسران. من هذا المنطلق ننظر الى عاشوراء وأهمية إحيائها في حياتنا مع بداية كل عام هجري لنأخذ منها العبرة والدروس، فعاشوراء ليست مناسبة للبكاء والحزن المجرّد والتي انتهت بكارثة استشهاد الحسين وآل بيته وصحبه كما هو الحال حينما نقرأ مصيبة محزنة أو نحضر فيلماً سينمائياً يعرض أحداثاً كارثية مدمية ينتهي فيها الشعور بالألم بمجرد انتهائنا من قراءة القصة او حضورنا لهذا الفيلم أو لمجرد كسب الثواب الالهي فقط لأن في البكاء على الحسين ثواباً وأجراً أخروياً عظيماً، ولأن الإمام الحسين تعرَض للظلم وكانت مصيبته أعظم من كل مصيبة وهو مما لا شك فيه، وإنما أيضاً لنتعلم من واقعة كربلاء الدرس والعبرة التي من جملتها مسألتان:
الأولى: موقف الذين خذلوه ولم ينصروه وموقف الذين عادوه وحاربوه وارتكبوا معه وأهل بيته وأنصاره هذه الجريمة التي كان لها اعظم الآثار في مستقبل الامة، وشكّلت تحوّلاً تاريخياً في مصيرها، فالذين وقفوا الى جانبه نصروا الحقّ وسجّلوا أنصع صورة في تاريخ هذا الوجود، وقد وصفهم الإمام الحسين: ” فو الله ما وجدت أنصاراً أوفى من أنصاري” فهوة صفوة الوجود وأخلص الناس للحق ولن يجود الزمان بمثلهم، الذين قالوا له حينما أشار عليهم ( بأن اتخذوا من هذا الليل جملاً فإن القوم لا يريدون غيري) قالوا له:(والله لا نتركك أبداً) وهم قلة محاصرون عطشى قد علموا أنه لا سبيل الى النجاة من القتل قالوا له: (نفوسنا دون نفسك ونساؤنا دون نسائك وأبناؤنا دون أبنائك). لقد خُلّد موقف هؤلاء الانصار في التاريخ لأن أثر هذه النصرة مستمر في صناعة التاريخ ونصرة الحق وبقائه. لقد كان في مواجهة هذا الخط الذي يمثّل الحقّ خط آخر وهو خط الباطل من أهل الدنيا الذي نصروا الباطل، وكانت عاقبتهم الخسران وهم رسموا بموقفهم المخزي هذا مصير أمة كان من الممكن أن تصنع التاريخ والمجد من جديد، لكنهم آثروا الدنيا فساهموا في ضياع هذه الامة وانحرافهم عن الهدف الذي أراده الله لها أمة شاهدة على الناس.
ولكنّ ثورة الامام الحسين لم تنته باستشهاده وبالمجزرة الرهيبة التي ارتكبتها عصابة البغيّ الامويّ في كربلاء، بل بقيت حيّة تفعل فعلها في إحياء الدين والأمة كلما تعرّضت للخطر والزوال تتجدّد بشعار كربلاء وبشهادة الإمام الحسين لتتخذه شعاراً لها ونموذجاً في شجاعة الموقف والإقدام على الشهادة دفاعاً عن وجودها وعن حقوقها”.
تابع: “أيها الاخوة المؤمنون، لقد جدّدت هذه الثُلّة مع الإمام الحسين الدين، وأعادت له صورته الحقيقية التي سعى الحكم الأموي الى محوها والذي لم يخفِ إرادته تلك التي عبّر عنها يزيد حينما بلغه مقتل سيد الشهداء بقوله المشهور:
ليت أشياخي ببدر شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ من وَقْعِ الأَسَلْ
قد قَتَلْنا القَرْمَ من سَادَاتِكُمْ وَعَدَلْنَا مَيْلَ بدر فَاعْتَدَلْ
هذه هي الحقيقة، لقد كانت قضية الإمام الحسين قضية الدين وسلامة الدين وقضية الأمة التي عبث بها الحاكم الفاسد، وحوّل أبناءها الى عبيد سُلبوا الكرامة وتسلّط عليها الفاسدون الذين حوّلوا مال الله دولا وعباد الله حولا. لم تكن قضيته محدودة بسلطة ولا مال ولا عشيرة ولا قبيلة ولا بفترة زمنية، وإنما الأمة على امتداد الزمان والى يوم القيامة، وأن يخلق في أبنائها الوعي وأن يزرع فيهم الشعور بالحرية والكرامة، وأن يكون له ظقضية في الحياة وألا تكون قضيتهم قضية مادية تافهة من إشباع غريزة أو إصرار على البقاء وتمسك بالعيش الذليل والحقير، وإنما تكون قضية الشعور بالكرامة الإنسانية والشعور بالعزة (حياتكم في موتهم قاهرين وموتهم في حياتكم مقهورين) كما يقول امام الحق والعدالة علي بن ابي طالب، وان يكونوا صنّاع الحياة وأن تكون لهم رسالة في الحياة، رسالة إحقاق الحق وإبطال الباطل، وألا يكونوا من الهمج الرعاع الذي ينعقون مع كل ناعق ومن الأتباع الاخسرين الذي باعوا دينهم بدنيا غيرهم (هل أونبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) الذين قال فيهم رسول الله في وصيته لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب:”يا علي شرّ الناس من باع دينه بدنيا غيره”. هذه هي رسالة عاشوراء التي كانت حاضرة في كل مفصل من مفاصل وجود هذه الامة وفي كل مرحلة مصيرية تعرّضت فيها لخطر الزوال، لذلك تعرّضت مجالس عاشوراء لمحاولات التشويه والحصار والمنع، ولوحِقَ أتباع أهل البيت واتهموا تارة بإثارة المشاعر المذهبية وتعرّضوا للقتل والسجن والملاحقة”.
وقال: “لا يا سادة، ليست مجالس عاشوراء إلا من اجل مواجهة الانحراف والفساد والظلم والطغيان وإحياء القيم الرسالية، وإعادة الأمة لوظيفتها في صناعة الحياة المبنية على القيم والدفاع عن المظلومين وإحقاق الحق وإزهاق الباطل، بل الذين يثيرون الانقسامات الطائفية يخلقون الفتن في الأمة هم أعداؤها وعملاؤهم الذين يسعون الى موتها وطمس الحقائق وحجب الحقيقة عن الناس، لأنّ إحياء القيم الإلهية في الأمة وخلق الوعي الديني فيها يحول بينهم وبين مآربهم وأهدافهم الخبيثة في النفوذ والسيطرة على مقدّراتها، وتبعث فيها الإرادة والعزيمة على المواجهة، وتفضح أهدافهم الحقيقية التي يتستّرون عليها بشعارات برّاقة، هؤلاء الذين هالهم تجدّد هذا الوعي المنبعث في أبنائنا والذي جعل منهم نموذجاً في الإقدام على المواجهة للمشروع الغربي في الوقت الذي استسلمت فيه الأنظمة لإرادة الغرب المستعمر وقاعدتها العسكرية المتقدّمة في المنطقة، والتي أُعطيت المقدّرات من اجل قمع أي حركة تحريرية تعيد الامة الى موقعها الحقيقي التي تقودها الحركة الصهيونية، فأُذلت على يد أبناء مدرسة عاشوراء، مدرسة سيد الشهداء الإمام الحسين. ولكنّ أخطر سلاح يستخدمه هذا العدو في مواجهة هذه المقاومة التي نشأت على يد أبناء الإمام الحسين (ع) وعلى نهجه ومبادئه والقيم التي حماها بدمائه الطاهرة، هي التشويه والحصار الإعلامي والعمل على إفساد بيئتها بإشاعة المخدرات والإنحلال الأخلاقي والتأثير عليها بالحصار الاقتصادي، وإيجاد عوامل الفساد الداخلي والوصول بالبلاد للانهيار والفوضى الاجتماعية والدفع نحو الفتنة الداخلية. لكنّ الوعي الذي تحلّت فيه هذه البيئة أفشل هذه المحاولات التي كانت ترمي الى عدم الوقوع في المأزق الداخلي وارتد سلباً على العدو الإسرائيلي وداعميه وأن يوسّط حليفه الأميركي والغربي مع لبنان لتجنّب ما قد يجرّه الإصرار على عدم الاستجابة لمطلب لبنان باستنقاذ حقّه في استخراج ثروته النفطية والغازية البحرية، وهو يقف مقموعا يحسب ألف حساب لأي تفكير بعدوان جديد على لبنان”.
أضاف: “إنني أدعو القوى اللبنانية المؤثرة على الساحة الى عدم الوقوع في الفخّ الإسرائيلي بافتعال إشكالات وأزمات داخلية أيا كان عنوانها، فلبنان أهم من كل هذه الصغائر التي يرى فيها البعض أمراً كبيراً والتي قد تُقرأ صحاً او خطأً أنها تخفّيف الضغط الذي يتعرّض له العدو الإسرائيلي الغاصب بإيجاد إشكالات داخلية. إنّ الصورة التي تبديها السلطة في مواجهة مشاكل الناس وما نراه من اصطفاف لجموع غفيرة من الناس تتصادم من أجل الحصول على رغيف خبز أو ما يحصل من تجاوزات لمافيات يشترك فيها لبنانيون وسوريون لغايات السرقة تؤدي الى إزهاق أرواح مواطنين لبنانيين أبرياء هذه الصورة هي صورة مخزية، ففي الوقت الذي ندعو السلطة الى التحرك وضرب المحتكرين وإفساح المجال للمواطنين للحصول على لقمة العيش ومنع الفوضى والحؤول دون وقوع المشاكل بين المواطنين، ندعو أهلنا الى مزيد من الحذر وعدم تحقيق المؤامرة والصبر قليلاً، فما النصر إلا صبر ساعة (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تُفلحون)”.
وختم: “بالنسبة إلى ما حدث في منطقة الجناح، ندين بأشدّ العبارات تعرّض أحد المواطنين الأبرياء للقتل، وندعو السلطات المختصة للتحقيق في هذا الحادث وإجراء اللازم من قبل السلطات القضائية لمعاقبة الفاعلين، كما ندعو أهلنا المكلومين والمظلومين الى عدم القيام بردّات فعل تتجاوز الفاعلين وترك الموضوع بيد السلطات المختصة وندعو القوى السياسية الى أخذ العبرة والقيام بالخطوات لتحول دون الأهداف التي ترمي الى إيجاد مشكلة بين النازحين السوريين والمواطنين اللبنانيين لأغراض خبيثة”.