مجلة وفاء wafaamagazine
اتّسمت المعركة الأخيرة بين جيش الاحتلال الذي بادر إليها بأهداف متشعّبة، وبين حركة «الجهاد الإسلامي» التي اتّخذت إزاءها موقفاً دفاعياً لافتاً ومثيراً للإعجاب، بأنّها معركة السقوف العالية لدى أطرافها كافة، بما يشمل مَن خاضها ميدانياً، ومن كان يُفترض به أن يتدخّل فيها. وتطرح هذه الجولة جملة أسئلة باتت بالإمكان محاولة الإجابة عليها، وإن لم تمرّ على وقف إطلاق النار سوى بضع ساعات: لماذا نشبت المعركة في هذا التوقيت؟ وما هي الأهداف الإسرائيلية منها؟ وما الذي تَحقّق منها؟ وهل يمكن سحب تأثيرها على ساحات أخرى هي الآن أكثر إلحاحاً وحضوراً على طاولة القرار في تل أبيب؟ وفي المقابل، ما الذي استطاعت المقاومة الفلسطينية، وتحديداً «الجهاد»، تحقيقه؟
يحيى دبوق
لا خلاف على أن العدو سعى إلى توجيه ضربة قاصمة إلى «الجهاد»، كي ترتدع عن محاولاتها تثبيت وتوسيع وتعزيز معادلة «وحدة الساحات» بين غزة والضفة كنتيجة من نتائج معركة «سيف القدس». كما سعى العدو إلى تحييد حركة «حماس» عن المعركة، والاستفراد بـ«الجهاد»، إن لم يكن من أجل إنهاء التهديد الذي تمثّله الأخيرة، فعلى الأقلّ إضعافه إلى حدّ كبير. في المقابل، أثبتت «الجهاد»، على رغم الضربات المُوجعة التي تلقّتها، أنها قادرة على التَّحكُّم بمجريات المعركة بشكل مدهش، حتى بعد استشهاد قادة مركزيين فيها، الأمر الذي يدحض الرواية الإسرائيلية عن فقدان السيطرة، وانتقالها إلى صفّ قيادي غير خبير. وتجلّت تلك القدرة في إطلاق رشقات صاروخية متوازية ومتزامنة في اتّجاه عشرات المستوطنات دفعة واحدة، في ما يدلّ على أن منظومة القيادة العسكرية لم تتأثّر إلى الحدّ الذي تَمنّته تل أبيب.
هكذا، اتّضح أن «الجهاد»، على رغم خوْضها المعركة وحيدة مع الفارق الهائل في الإمكانات، متمسّكة بإبقاء معادلة «وحدة الساحات»، التي ستكون موضع اختبار ميداني عند أوّل استحقاق «اعتدائي» إسرائيلي مقبل، خصوصاً إذا ما اعتقدت تل أبيب أنها تمكّنت من ردع «الجهاد»، وبات بإمكانها تجاوُز تلك المعادلة، حتى في مستوياتها الابتدائية. وعليه، سيكون الطرفان معنيَّين بالتأكيد أنهما حقّقا نتائج، أو منعاها، كلّ حسب تموضعه، ما قد يرشّح الميدان لمزيد من التصعيد لاحقاً. ومن هنا، فإن نتائج المعركة لم تتحدّد بعد، وإن كان كلّ طرف سيسعى إلى تظهير انتصاره، وإنْ بالنقاط؛ إذ تَكمن النتيجة النهائية فيما سيؤول إليه واقع الميدان.
في التقييم الأوّلي، يمكن القول إن المعادلة التي تولّدت من «سيف القدس»، والتي ربطت بين مستويات محدَّدة من الاعتداءات الإسرائيلية على الحرم القدسي والقدس والضفة الغربية، وبين تفعيل سلاح المقاومة في قطاع غزة، كانت حتى الأمس القريب، وما زالت على الأرجح، حاضرة على طاولة التقدير والقرار في تل أبيب. لكن أنْ تشمل هذه المعادلة اعتداءات إسرائيلية في مستوى اعتقالات، وإنْ لقادة سياسيين وأو ميدانيين، فهذا يُعدّ سقفاً عالياً يتعذّر على فصيل مقاوِم في غزة أن يُحقّقه وحيداً، بل ويتعذّر ذلك على المقاومة بكلّ فصائلها، خاصة أن سقوفاً كهذه لم تُبنَ على أساسات كاملة وراسخة. وعليه، هل السقف المرتفع جاء نتيجة خطأ في تشخيص المقدّمات؟ أو خطأ في تقدير الموقف الإسرائيلي؟ أو ثقة زائدة بجهات كانت «الجهاد» تَفترض أنها ستتدخّل في المعركة إلى جانبها؟ لا إجابات حاسمة إلى الآن.
سيكون الطرفان معنيَّين بالتأكيد أنهما حقّقا نتائج، أو منعاها، كلّ حسب تموضعه
من جهتها، انكفأت حركة «حماس»، في الشكل والمضمون، على نحو لافت. وهو انكفاء يمكن عَزْوُه إلى جملة أسباب تتعلّق بسياقات أشمل وأوسع تَنظر إليها «حماس»، أو إلى توقيت «خاطئ» في ظرف ضاغط تسعى فيه الحركة لتحقيق ما يمكن تحقيقه في فترة اللاحرب، أو إلى الرغبة في تَجنّب المزيد من الدمار والخسائر البشرية والمادية. وأيّاً يكن، فإن نتائج المعركة الأخيرة ستنسحب حُكماً على كلّ فصائل المقاومة، التي ما لم تتّخذ موقفاً حذراً وحكيماً وصادّاً للاحتلال، فإنها ستجد نفسها أمام واقع تآكل إنجازات «سيف القدس» نفسها، وربّما هذه واحدة من المقدّمات التي غابت عن قرار الانكفاء. فإذا أمكن إسرائيل أن تشرُخ الفصائل وتتفرّد بواحد منها، فلا شيء يمنعها لاحقاً من تكرار المحاولة، ما يعني أن سقف الانكفاء كان عالياً، وتداعياته ستكون عالية أيضاً.
من ناحية العدو، جاءت السقوف بدورها مرتفعة؛ إذ اختلط على القادة الإسرائيليين، على ما يبدو، ما أمِلته إسرائيل من أهداف، وما تَحقّق منها، وفي ذلك الكثير من التعليقات العبرية التي تطالب بضرورة «التواضع» في توصيف «الإنجازات»، مع سؤال كبير مفاده: هل نتيجة الأيام القتالية الأخيرة، هدوء طويل الأمد؟ أم أنها ستتسبّب بمعارك ومواجهات لاحقة؟ واللافت أن الرهانات الإسرائيلية لا تقتصر على غزة، بل تنسحب أيضاً على ساحات أخرى تتطلّع تل أبيب إلى تحقيق مكاسب فيها، بالاستناد إلى نتيجة الجولة الأحدث في غزة. وفي هذا الإطار، يَبرز تلهُّفها لاستغلال الجولة في القول لـ«حزب الله» إنها لن ترتدع عن استخدام القوة لتحقيق أهدافها السياسية، وإنها معنيّة بالدفاع عمّا تراه حقاً لها.
وعلى رغم الفارق الكبير بين الساحتَين، وإمكانية التأكيد أن ما يسري هنا قد لا يسري هناك، ثمّة سؤال يتقدّم على طاولة التقدير لدى الجانبَين، هو: هل فعلاً ترى إسرائيل أن ما حدث في غزة، سيردع «حزب الله»» عن مواصلة المطالبة بالحق اللبناني؟ إن كانت الإجابة لدى القيادتَين السياسية والعسكرية في تل أبيب، بِنعم، كما يَرِد في بعض الكتابات، فذلك يعني أن احتمالات التصعيد ومن ثمّ الحرب، باتت أعلى بكثير، من احتمالات الحلّ الديبلوماسي في استحقاق الحدّ البحري بين لبنان والعدو.
الأخبار