مجلة وفاء wafaamagazine
د. محمد علي شمس الدين
في المجموعة الخامسة لمحمد البندر “فتى الينابيع” .. صوتان يتداخلان.. ولعل الصوت الأول طريق للصوت الثاني او باب له مثلما ” يفتح للعقل باب من العين”.. بعبارة عبد القاهر الجرجاني في كلامه على معنى المعنى” في كتاب” أسرار البلاغة “*…
وهنا نتكلم في مسألتين : مسألة في الموسيقى (الصوت) ومسألة في المعنى ( الرمز)… وهما متلازمتان…. فمسألة الصوت ملتحمة بالمعنى وتتحركان معا. وهي تتصل بالايقاع(rythme) وأصله وأبعاده. ويوازي الايقاع المستعمل للغناء واللحن الوزن في الشعر… وكلاهما على الارجح متصل باصل الموسيقى في الميتافيزيق. فكلاهما حين يستعمل ينفصل عن شكله وظاهره ويلتحم باصله. لذلك يصعب التعريف… كما أن “معنى المعنى” هو المعنى التخييلي للكلام ويتصل بالرمز والتأويل وأبعاده.. وهو غير المعنى القاموسي المباشر للكلام أو المعنى العلمي أو الفلسفي.. ومن سماته الغموض كما أشار الجرجاني باكرا… ولعله المعنى الشعري للكلام..
يفترض البعض المتصلون بالطرق الصوفية كالمولوية المنتسبة لجلال الدين الرومي (مولانا) والقائمة على الانشاد والرقص (الدوران) أن الموسيقى ذات أصل علوي وأن الألحان من دوران الافلاك. **….
وفي كل حال فكما للمعنى معنى فللصوت صوت… فما هما الصوتان النافران في مجموعة البندر الشعرية الجديدة “فتى الينابيع ” ؟
القصيدة الثانية بعد الاولى هي بعنوان “نوستالجيا” وفيها ” وأبي يقلم داليات العمر” بالعودة للاب وحنين الماضي… أما في القصيدة الاولى وهي المركزية بعنوان “فتى الينابيع” فيقول:”.. ما زال يحلم ان يعود إلى صخور النبع مرتديا عباءة ظله الاولى وعند طريق عودته سيشهد ان ذاك النهر يمكن ان يعود من المصب الى البداية عندما تختاره انثى الحقول “… هنا دعوة للعودة للنبع والقدرة على التحكم بالاتجاه والزمن ونواميس الطبيعة من خلال الشعر والإشارة لانثى الحقول (الحب).. وهذه النوستالجيا الارتدادية تقتضي تطهرا وقد اتت بعدتها اللغوية والايقاعية على مجزوء الكامل ومن خلال غنائية صافية وانسجام بين الجسد الايقاعي والجسد النفسي للشعر.. بين الصوت والمعنى… نلاحظ ان الشاعر يذكر “جرار الصوت” في “نوستالجيا” و”مقامات الكمان” كما أن مفردات “الاغاني” و”الصوت” و”الطرب” تتجاوب في النص. … فهنا غناء وحنين او التفات للماضي وهي نوستالجيا تاخذ محركها وعدتها من الصوت. فحاسة السمع هنا هي مفتاح المخيلة. كما كان الشم مفتاح الذاكرة لدى مارسيل بروست في روايته ” البحث عن الزمن المفقود”…
الصوتان
في القصائد على الاجمال صوتان ملتحمان : صوت خارجي منتظم في أوزان كاملة (24قصيدة من اصل29) وخمس قصائد موزونة جزئيا على اساس وحدة التفعيلة وليس وحدة البيت. الشعري الخليلي (الكلاسيكي)…. والصوت الداخلي يعلو في مفاصل الحب باوجهه المتعددة (لامراة. . حب الارض).والحب الإلهي الصوفي . وذلك في بعض النصوص العرفانية او الوجودية. فانت تستطيع أن تلمح غلبة الصوت الداخلي الصوفي في قصيدة “مقام العارفين” المهداة الى فاروق شويخ…. ” وكأنك الحلاج يرقص رقصة الايماء موغلة بما كتبوا وما عزفوا بملء الكف من أحزان ذاكرة المرايا والطرب” فهنا رقص وطرب صوفي في القصيدة. او يصغي لذلك في قوله : “.. او فوق دندنة الرياح اذا تلقفها القصب” حيث نتذكر ما قاله جلال الدين الرومي حول بكاء الناي في حنينه الى امه في القصب. كما أن ثمة اشارات عديدة لغلبة الصوت الداخلي وما يحمله من مسحة الغموض لتعلقه بمعنى المعنى… وتأوج الرمز ومطرح التأويل… ” تمشي بلا خطو وتعبر في دروب الضوء كالرؤيا وتحلم كالعناقيد الفتية وهي تخطر في خيال الشاربين” فإننا نجد في هذا المقطع الكثير من اللمع الشعرية والاشارات اللطيفة.. “تمشي بلا خطو” الرؤيا… حلم العناقيد… كذلك في قوله ” يؤدي رقصة التأويل فردا / كحلاج رمى للغيب. نردا “… وسوى ذلك من شواهد على مرجعية عرفانية في بعض القصائد.
بالطبع تطفو روح شعرية رعوية على الكثير من قصائد “فتى الينابيع” ابتداء من العنوان والقصيدة المركزية مرورا بقصائد ذات نكهة ريفية تمجد الطبيعة وتضفي على بعض عناصرها قداسة الهية. كما في قصيدة قافلة الزيتون “” كانوا نباتا بفردوس العلى انغرسوا / أوحى إليهم بان فلتقرؤوا الشجرا” ان قراءة الشجر قراءة نبوية اذا صحت العبارة سيما ان الدافع أوحى..
كذلك قوله ” هم نخبة الماء لما سأل مندفعا / قاموا الى جهة الريحان….. ” فنخبة الماء وجهة الريحان صوتان يومئان الى جهة في الارض هي الجهة الجنوبية حيث جبل الريحان… وهو ما يجعل للشجر والنبع والجبل هنا في النص أبعادا مبتكرة صنعها الشعر وحبكتها اللغة
اخيرا لا انفي ان العنوان” فتى الينابيع” اغراني بالعودة الى “أوراق العشب” لوولت ويتمان وبعد قراءتها من جديد وقراءة فتى الينابيع لم أجد نسبا يجمع بينهما لا في الرؤية ولا في الايقاع الشعري ولا في الخلفيات المعرفية .. وهذا ما ينبغي الإشارة اليه.
*تحقيق . ريتر استانبول. وزارة المعارف 1954(اسرار البلاغة)
** جريدة الفنون الكويت عدد يوليو 2015…مقال المستشرق الانجليزي البروفسور د. س. البير
مقال ” جلال الدين الرومي مولانا والسما والناي / بقلم سيفنج رضاييف.