الرئيسية / آخر الأخبار / رئيس المجلس: الصلاحية والدور والتجربة

رئيس المجلس: الصلاحية والدور والتجربة

مجلة وفاء wafaamagazine

ما إن تبدأ المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية، يصبح في صدارة الاستحقاق صاحب الاختصاص الأول فيه، رئيس مجلس النواب. تنيط به المادة 73 توجيه الدعوة إلى جلسة الانتخاب وتحديد موعدها، كي تُنبئ بأنه ذو الدور الأول. حتى ذلك الوقت، وفي الغالب تكون معركة الرئاسة افتتحت خارج البرلمان، لا يعدو تسابق المرشحين المعلنين والمخفيين سوى تنافس افتراضي، في انتظار ما يقتضي أن يتزامن مع توجيه الدعوة وتحديد الموعد: الشق الآخر في وظيفة رئيس المجلس وهو دوره.

ما تنص عليه المادة 73 أحد أربع صلاحيات يوردها الدستور لرئيس المجلس: المادة 19 بتخويله مراجعة المجلس الدستوري للطعن في قانون، المادة 53 باطلاعه على نتائج الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس مكلف تأليف الحكومة، المادة 44 بتحديد ولايته بمدة ولاية مجلس النواب وهي أقرب إلى حصانة منها إلى صلاحية. سوى ذلك لا اختصاص صريحاً له، ما خلا ما تنص عليه المادة 58 التي تضمر ـ بالممارسة وليس في النص ـ صلاحية تمكّنه استنسابياً من تأخير إدراج مشروع قانون معجل تحيله الحكومة إلى المجلس بأن لا يطرحه على جلسة عامة ومن ثم تلاوته للحؤول دون إصداره بمرسوم بانقضاء 40 يوماً على طرحه. في معزل عن الجدل الذي يظل يثيره تطبيق المادة 58، إلا أن المادة 73 دون سواها تفوّض إليه اختصاصاً تقريرياً ليس قليل الشأن.


تحصر برئيس المجلس حق توجيه الدعوة إلى انتخاب الرئيس في مهلة الشهرين على الأكثر والشهر على الأقل، السابقة لنهاية ولاية الرئيس الحالي. حق غير مقَّيد من اليوم الأول إلى اليوم العاشر الذي يسبق نهاية الولاية، إلا أنه يفقده بعدئذ في حال لم يستعمله، فيصبح المجلس في انعقاد دائم دونما حاجة إلى دعوة.
على مرّ استحقاقات الرئاسة منذ أول رئيس للبنان هو شارل دباس، لم يتأخر رئيس للبرلمان في استخدام صلاحيته الدستورية أو يُحجم عنها، فالتزموا جميعاً توجيه الدعوة في المهلة الدستورية. بذلك لم يسبق مرة أن التأم مجلس النواب منذ اليوم العاشر إلى اليوم الأخير في المهلة من جراء هذا التقصير.
سابقة واحدة أوشكت أن تصل إلى اليوم العاشر بأن تردّد – عمداً – رئيس المجلس في توجيه الدعوة حتى الوصول إلى هذا الموعد. إلا أن السابقة هذه عبّرت عن دلالة إضافية ذات مغزى إلى موقعه في معادلتيْ الصلاحية الدستورية والدور السياسي، وتطلّعه إلى ما هو أبعد من أن يوجه الدعوة فحسب. أنهى أول رئيس منتخب للجمهورية شارل دباس ولاية السنوات الثلاث (1926 – 1929)، فأعيد انتخابه ولاية مماثلة تنتهي عام 1932. في أوان الاستحقاق التالي، وكان تنافس عليه إميل إده وبشارة الخوري يفتتحان مذذاك الصراع الماروني – الماروني المحموم على رئاسة الجمهورية، وجد رئيس المجلس الشيخ محمد الجسر نفسه في قلب المعترك: حدّة تنافس المرشحيْن المارونييْن وانقسام البرلمان عليهما حملت إده على ترشيحه، هو السنّي، حلاً وسطاً بينه ومنافسه. تشجّع رئيس المجلس بالخطوة غير المألوفة في الجمهورية الجديدة بالكاد عمرها ست سنوات. الأكثر مدعاة لحماسته صدور الترشح عن زعيم ماروني ونيله تأييد نواب موارنة آخرين، ناهيك بنواب طائفته، ولم يكن مضى وقت طويل على غضب الموارنة لانتخاب أرثوذكسي رئيساً للجمهورية مرتين في منصب عدوّه حقاً لهم. تباطأ الجسر في استخدام صلاحيته الدستورية وتوجيه الدعوة إلى جلسة الانتخاب، فسحاً في المجال أمام مزيد من الوقت على أمل الوصول إلى خلافة دباس. ما إن دنا اليوم العاشر الذي يسبق نهاية الولاية في 16 أيار 1932، يفقد معه حقه في توجيه الدعوة والتئام البرلمان حكماً، تدخلت سلطات الانتداب الفرنسي معارضة وصول رئيس المجلس السنّي إلى رئاسة الجمهورية، بأن علّقت الدستور في 9 أيار وحلّت المجلس والحكومة وأبقت على دباس رئيساً بالتعيين.


إلى الصلاحية الدستورية هذه لرئيس المجلس، ثمة دور سياسي لا يقل أهمية ينبثق من مرونة الاختصاص الملزم المقيِّد له، وهو توجيه الدعوة وتحديد المواعيد إن لم يتخلَّ عنها. تكمن المرونة هذه في أنها لا ترغمه منذ اليوم الأول لبدء المهلة الدستورية على توجيه الدعوة، وإتاحة الفرصة كي يجري أوسع تشاور من أجل بلوغ أحد الخيارين الحتميين لانتخاب الرئيس: مرشح واحد يصير إلى التوافق عليه، أو تنافس أكثر من مرشح. في نهاية المطاف، سواء نجح في مهمته أو أخفق، هو مدعو إلى توجيه الدعوة في المهلة الدستورية ومن ثم إدارة جلسة الانتخاب في موعدها. إلا أن تمكينه من تحديد أكثر من موعد، فلا يقتصر على جلسة أولى، يأخذ في الاعتبار احتمال عدم اكتمال النصاب القانوني في المرة الأولى أو في أكثر من مرة قبل نهاية المهلة الدستورية لتجنب تعذّر انتخاب الرئيس الخلف.
بذلك اعتاد الرؤساء المتعاقبون للبرلمان، بعد توجيه الدعوة في المرة الأولى وإقرانها بالموعد الأول للجلسة، أن يُعوّلوا على الجلسة الثانية الحاسمة والقاطعة لانتخاب الرئيس قبل انقضاء المهلة. الجلسة الأولى تجريبية محفِّزة يعرف رئيس المجلس – ما لم يكن ثمة مرشح واحد متوافق عليه سلفاً – أنها لن تفضي إلى الانتخاب، لكنها تشق الطريق إلى الجلسة الثانية للاتفاق على مرشح أو خوض المعركة الانتخابية.
أهمية الجلسة الثانية أنها كانت تفرض على النواب تهيّب لحظتها، والأخذ في الحسبان بأن إهمالها وإهدارها من شأنه انقضاء المهلة والحؤول دون انتخاب رئيس، وتالياً دفع الحياة الدستورية إلى ما لم يكن في الإمكان تصوّره حينذاك: أن لا يكون للبلاد رئيس للدولة. هذه الخشية كانت تحمل رئيس المجلس، كي يتحوّط بدوره من انقضاء المهلة دونما انتخاب رئيس، إلى توجيه الدعوة وتحديد موعد الجلسة الأولى بانقضاء أسبوع على الأكثر على بدئها، وتحديد موعد الجلسة الثانية قبل انقضاء الشهر الأول، مستفيداً من بذل جهوده على مر الشهر التالي لإنجاز الاستحقاق. ثمة عِبْرة مضافة في استعجال إنجاز الانتخاب في الشهر الأول مفادها توفير وقت كاف للرئيس المنتخب في خلال الشهر الثاني للاطلاع من خلفه على ملفات الحكم وتأمين انتقال السلطة وتحضير فريقه وإعداد خطاب القسم مبنياً على مقاربته لما سيرثه من العهد المنصرم.


أبعد موعد جلسة ثانية كان عند انتخاب بشير الجميّل في 23 آب 1982. إلا أن الاستثناء الوحيد في تحديد موعد الجلسة الأولى الأقرب إلى اليوم الأول للمهلة الدستورية، وكان غداتها، هو 24 تموز 1958، إلا أنها أُرجئت قبل أن تنعقد، ولم يُنتخب فؤاد شهاب رئيساً سوى في جلسة الأسبوع التالي 31 تموز. وحده أمين الجميّل انتخب ليس في الشهر الثاني من المهلة الدستورية فحسب، بل في الساعات الثماني والأربعين التي سبقت نهاية الولاية في 21 ايلول 1982 خلفاً لشقيقه بعد اغتياله.
ليست سيرة انتخابات رئاسة الجمهورية وقْفاً على الرؤساء المنتخبين فحسب، بل لرؤساء البرلمانات المتعاقبة في عهودهم قسط في السيرة تتخطى صلاحية التحضير لجلسة الانتخاب وإدارتها، إلى التحوّل جزءاً لا يتجزأ من الولاية. غدا من السهولة بمكان، في حقبة ما قبل اتفاق الطائف، أن يوصف رئيس المجلس – ولم يكن المتوالون على المنصب قليلي الشأن بل زعماء حقيقيون – بأحد رجال العهد، وأحياناً من رجال الرئيس يقترن استمرارهم في موقعهم باستمرار ولاية الرئيس. آنذاك، اقتصرت ولاية رئيس المجلس على سنة واحدة. في محطات الانتخابات النيابية العامة اقتضى أحياناً في سنة واحدة انتخاب رئيسين للمجلس في أقل من ستة اشهر. تجرى الانتخابات النيابية في الربيع، على إثر صدور نتائجها وفي أول جلسات التئام البرلمان الجديد يُنتخب رئيسه. ثم يعود المجلس إلى انتخابه مجدداً، نفسه أو منافسه، في افتتاح العقد العادي الثاني في تشرين الأول. بذلك، إما من جراء ولاية السنة القصيرة أو تأثراً بنتائج الانتخابات النيابية الدورية غالباً ما يكون رئيس الجمهورية رابحاً غالبيتها النيابية، يضعف دور رئيس المجلس فيحتاج إلى أن يكون جزءاً من العهد كي يستمر معه. غير أن الدروس المستقاة من تاريخ الاستحقاقات بيّنت الصورة المكمّلة لهذا الاستنتاج. قلما مرّ عهد تنافرت علاقة سيده برئيس السلطة الاشتراعيّة. على نحو ذلك يُفسَّر بسهولة معنى أن يُكنّى رئيس المجلس بالصفة التي يحملها العهد: أن يكون صبري حمادة دستورياً مع بشارة الخوري وشهابياً مع فؤاد شهاب وشارل حلو، وعادل عسيران شمعونياً مع كميل شمعون، وكامل الأسعد مناوئاً للشهابية وحليفاً للذي يخاصمها كحاله مع سليمان فرنجية. وحده أحمد الأسعد من بين هؤلاء لم يسعه الاستمرار أكثر من سنتين أمضاهما بين السنة الأخيرة في ولاية الشيخ بشارة والسنة الأولى في ولاية شمعون الذي أبعده وقرّب إليه عسيران كي يحله رئيساً للمجلس طوال ولايته إلى أن حل محله حمادة في مطلع عهد شهاب. مع أن كلاً من هؤلاء كان زعيماً شعبياً كبيراً وقائداً في قاعدته وفي طائفته، إلا أن موقعه في معادلة الحكم إلى جانب رئيس الجمهورية وانتماءه إلى سياساته وخياراته – لا إلى طائفته كما في ما بعد – هما اللذان منحاه إياه. لذا كان من الصعب لأي من هؤلاء انتخابه سوى مع أولئك الرؤساء. وحده الأسعد الابن تمكّن مرتين من إحداث خرق في ترؤسه المجلس إبان ولاية الرئيس الخصم، شهاب ثم حلو. كل منها لم تدم أكثر من خمسة أشهر، عامَي 1964 و1968، على إثر الانتخابات النيابية العامة بانتخاب المجلس رئيسه فور اكتمال عقده ثم في العقد العادي الثاني.


غدا من الطبيعي، تبعاً لذلك، أن يكون رئيس المجلس رأس حربة طلب تجديد ولاية رئيس الجمهورية. لعب حمادة وعسيران الدور: الأول مع رياض الصلح قاد حملة تجديد انتخاب الشيخ بشارة عام 1948 قبل سنة وأربعة أشهر على انتهاء الولاية على أن لا تبدأ إلا بانتهاء الولاية الأولى بعد انقضاء المدة هذه. الثاني مع سامي الصلح رامَ الوصول إلى التجديد نفسه فحالت «ثورة 1958» دونه. على نقيض منهما، لعب الأسعد الابن دوراً اقترن بمصطلح لا يفارق اسمه. بينما مالت الغالبية النيابية عام 1964، قبل اشهر على نهاية ولاية شهاب، إلى تجديد انتخابه وأعدّت عريضة وقعها 79 نائباً من 99 يمثلون اكثر من ثلثي البرلمان، وقف الأسعد في طريقها دونما أن يتمكن من تعطيلها. لم يسعه تجاوز الغالبية النيابية المرجحة وعريضتها، إلا انه اختار الولوج إلى المكان الأكثر ضعفاً في الرئيس. ذلك المصطلح هو «الاستئناس» أطلقه جان عزيز على مسعى رئيس المجلس، مفاده ذهابه إلى رئيس الجمهورية يسأله رأيه في تجديد ولايته. واقع الأمر لم يكن ثمة استئناس، مقدار ما توخى الأسعد انتزاع اعتراف علني من رئيس الجمهورية يشبه ما فعله قبله الشيخ بشارة وما سيفعله في ما بعد رؤساء ما بعد اتفاق الطائف، بإبدائه رغبته وطلبه تجديد ولايته والبقاء في السلطة. ذلك ما لم يكن متوقعاً، ولم يكن الرئيس يريده في الأصل منذ رد عريضة الغالبية النيابية في أيار 1964. ذاك الدور السلبي لرئيس المجلس – الذي لا يسعه أن يكون محايداً وهو يقبل على الاستحقاق الرئاسي – انتقل إلى نقيضه علناً في أربع انتخابات رئاسية تالية: دعم فرنجية ضد الياس سركيس عام 1970، ثم كان على رأس مؤيدي سركيس عام 1976. كان رأس حربة انتخاب بشير الجميّل عام 1982 بعد عداء مشهود بينهما حمل رئيس المجلس على وصف قائد الميليشيا بـ«أزعر» بعدما أطلق رجاله النار على مطعم كان يتغدى فيه في فيطرون. من ثم لقاء عاصف عشية توجيهه الدعوة إلى الجلسة الأولى لانتخاب بشير في 18 آب مع الرئيس السوري حافظ الأسد، طالباً منه تأجيلها. ذريعة الأسعد التي سيدفع ثمنها بعد سنتين بإنهاء حياته السياسية وإرغامه على العزلة عام 1984، انه لا يريد التسبب في فراغ في رئاسة الجمهورية. رابع مَن دعمهم كان أمين الجميّل.


في تاريخ المادة 73 وحده الشيخ محمد الجسر تباطأ في توجيه الدعوة بعدما وعده إميل إده بانتخابه رئيساً

لكن الدور الأكثر تقدّماً لرئيس المجلس حتى ذلك الوقت في إيصال رئيس، لا في مناوأته، كان لحسين الحسيني. أول رئيس للبرلمان يشهد على سابقتين: وقوع شغور رئاسي إبان ولايته، وانقسام المجلس بين «نواب شرقيين» و«نواب غربيين» تبعاً لمقار إقامتهم بين البيروتَين. كانت انتهت ولاية الحسيني على رأس المجلس دونما إعادة انتخابه أو انتخاب خلف له، فشُلّ البرلمان كلياً في مرحلة انقسام البلاد على حكومتين دستورية وواقعية. آنذاك انقضت المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس في أيلول 1988 توطئة لجولات حروب أهلية. ثالثة الأثافي في دولة لا رئيس للجمهورية لها ولا رئيس للمجلس، واقعة بين حكومتين وجيشين، أن يُحلّ مجلس النواب الرابعة فجر 5 تشرين الثاني 1989 بمرسوم وقعه ميشال عون، ساعات قليلة قبل انتخاب رينه معوّض رئيساً. كان ذلك الاستحقاق مشهوداً إلى حد الغرابة: برلمان محلول لكن مطعون في دستورية حله لتعذّر إقران الحل بتحديد موعد انتخابات نيابية جديدة، الدعوة إلى انتخاب رئيس للجمهورية خارج المهلة الدستورية ممن يفترض أنهم باتوا نواباً سابقين، ثم انتخاب رئيس للمجلس فرئيس للجمهورية ومحاولة إعادة بناء السلطات خارج المعايير الدستورية وقوانين نشوء السلطات. في حمأة الحرب فرض الأمر الواقع حقائق الغلبة. ليس ذلك فحسب ما أفضى إليه دور الحسيني. بل ثمة ما كان أهم، سابق للسلسلة هذه كلها.


قبل أربعة أشهر على ذهاب النواب إلى مدينة الطائف لإعداد تسوية لإنهاء الحرب الأهلية، صحب الحسيني نائب زغرتا رينه معوض إلى دمشق في 17 حزيران 1989 كي يعقد اجتماعاً ليلياً طويلاً مع الرئيس السوري، انتهى إلى الاتفاق على انتخابه رئيساً عندما يحين الأوان. لم يعلم النواب بالرئيس الذي سيقترعون له سوى في طائرات العودة من باريس إلى القليعات. المحاولة نفسها عاودها الحسيني مع الأسد. بعد اغتيال معوّض حمل إليه اسم بيار حلو لانتخابه خلفاً للرئيس الراحل.
تلك، مع حلو بعد معوض عام 1989 وإن أخفقت، كانت المرة الأخيرة يُنتخب أو يُقرر انتخاب رئيس للبنان بإرادة لبنانية حتى الوصول إلى عام 2016.


نبيه برّي: أقلّ بقليل من ثلث عمر البرلمان
عمر نبيه برّي في رئاسة البرلمان أقلّ بقليل من ثلث عمر السلطة الاشتراعية منذ الاستقلال. سابع رؤسائها المتعاقبين بعد صبري حمادة وحبيب أبي شهلا وأحمد الأسعد وعادل عسيران وكامل الأسعد وحسين الحسيني. تقدّمه عليهم جميعاً ليس في عمر الولاية المجدّدة سبع مرات فحسب. عندما كانت ولاية رئيس المجلس سنة فسنة، كان ثمّة آخرون توالوا أو عمّروا فيها. أطولهم عمراً آنذاك الأسعد الابن (16 مرة بينها 14 سنة بلا انقطاع)، فحمادة (18 مرة متقطّعة)، فالحسيني (8 مرات متواصلة، الاثنتان الأخيرتان كانتا في ظل اتفاق الطائف)، ثم عسيران (6 مرات متواصلة)، والأسعد الأب (مرتان)، وأبو شهلا (مرة وحيدة عام 1946 سُجلت في ذلك الحين سابقة منافسة أرثوذكسي شيعياً وفوزه بغالبية الأصوات بمنصب كان انتقل إلى الطائفة الشيعية للمرة الأولى قبل ثلاث سنوات شغلته على التوالي ما أوحى بتكريس التخصيص).


ثمّة أيضاً ما تقدّم به برّي عليهم هو مواكبته، حتى الآن على الأقل، عهود أربعة رؤساء للجمهورية هم الياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون. الأولان اختارتهما سوريا وحدها بلا شريك لبناني أو إقليمي. الثالث أنجبته فتنة شيعية – سنّية. رابعهم بَانَ كأنه فُرض عليه وأخفق في الحؤول دونه. بذلك لم يختر برّي أياً من الرؤساء الأربعة، مع أن انتخاب الهراوي سبق وصوله إلى رئاسة البرلمان.

 

لكلّ منهم معه مشكلة: صنع مع الهراوي ترويكا الرؤساء ثم انقلب عليها وتحفّظ عن تمديد ولايته عام 1995، وخاض ضد لحود معركة سمعة البرلمان الذي يترأس عند تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية عام 2001 وتحفّظ عن تمديد ولايته هو الآخر عام 2004. في كل من هذه، لم يملك الوقوف في طريق قرار سوريا. إلا أنه الوحيد المعهود إليه جعل القرار السوري لبنانياً، والمخالفة حاجة ضرورية وحتمية. رفع التسوية إلى منزلة فوق الدستور عندما حمل البرلمان على انتخاب سليمان رئيساً عام 2008 دونما تعديل المادة 49، بأن ذهب إلى المادة 74 للفور للمرة الثانية في تاريخ الدستور نفسه تُستخدم بعد عام 1952. رابع الرؤساء لا تجمعه به إلا خصومة شخصية وتباين في الرأي وخلاف في التفسير وتعارض في الاجتهاد وافتراق في الرؤية إلى النظام. بينهما عداء عمره أربعة عقود أخفق الزمن في إخفائه، دونما أن يكونا مرة في متراسين متقابلين كما عون مع وليد جنبلاط. لم يكن الرئيس الحالي مرشّحه لقيادة الجيش عام 1984، وتباعدا إبان انقسام الحكومتين، ولم يتحالفا مرة بعد عام 2005 في انتخابات نيابية ولا في الحكومات. لم يصدّقا، برّي وعون، مرة أن حليف الحليف حليف. قلَبَا المعادلة كي يكون حليف الحليف الأشد عداءً. من مدرستين مختلفتين وطباع متقلّبة مناوِرة وثقافة متنافرة. لا أحد مثلهما قدّم دليلاً سياسياً على الرؤية التوراتية القديمة: السماء سماء والأرض أرض.
أصعب قرارات برّي أن يدعو إلى جلسة انتخاب عون رئيساً، ولا يكتفي بأن لا يقترع له، بل يقود معركة الأوراق البيض الـ36. كان لأسلافه المتعاقبين مرشحون للرئاسة صوّتوا لهم في مواجهة منافسيهم وأتاحوا فوزهم. لأنه ممن لا يتجرّعون ما يحسبونه سُمّاً ـ وإن من كأس الحليف في الطائفة نفسها – قدّم نموذجاً عن الدور الذي يضطلع به رئيس المجلس وهو يجبه مرشحاً واحداً: أن يفوز الرئيس عام 2016 من الدورة الرابعة. ذلك ما لم يحصل مرة. لعل المعبّر الأشد وقْعاً في جلسة 31 تشرين الأول، أن برّي، بعد إعلانه النتائج النهائية للاقتراع، اكتفى بالقول: «مبروك. تلاوة المحضر». ثم انتقل إلى افتتاح جلسة أداء اليمين الدستورية.


أما ما كان يفعله أسلافه جميعاً بلا استثناء، فهي العبارة التقليدية لرئيس المجلس بعد تلاوة نتائج الاقتراع بإعلانه المرشح المنتخب «رئيساً للجمهورية اللبنانية». ذلك لم يحصل يومذاك كذلك. لم يُحتج إلى جهد لتفسيره وتأويله. على طريقته، في الجلسة التالية، خاطب برّي عون، الرئيس المنتخب، بالقول بأنّه «أحد أركان شرعية البرلمان». إشارة استفزازية مباشرة غير خافية إلى ما كان عون قاله قبل ثلاث سنوات، عام 2013، عندما طعن في شرعية المجلس بعدما صار إلى تمديد ولايته عامذاك. ها هو يُنتخب الآن بغالبية المطعون في نيابتهم.
في الحقبة السورية، رئيس المجلس كان المُعوَّل عليه عند دمشق أولاً ثم في الداخل، لتقديم المخارج المتعذّرة وأحياناً المستحيلة. ذلك ما سيمنحه ما هو أكثر من الاحتفاظ بمنصبه على نحو غير مسبوق في تاريخ السلطة الاشتراعية، بأن يصبح ضرورة لبقاء الانتظام. المنتظمون عندئذ كثيرون: ما بين الرؤساء، وما بين القوى السياسية، وفي الشارع. الأهم هو الانتظام في البرلمان. معه، أمكن القول إن مجلس النواب تحوّل – أو كاد – إلى كتلة نيابية واحدة، غير ذات جدوى الفروق بين قواها وكتلها، موالين ومعارضين. كأسنان المشط متساوية أمامه. في الحقبة السورية أيضاً سهّلت إدارة نصاب ثلثي المجلس وانصياعه. في ما بعد لدى انقسام الشارع بين قوى 8 و14 آذار لم تنتقل العدوى إلى داخله. عندما أقفل مجلس النواب في وجه حكومة فؤاد السنيورة مذْ استقال الوزراء الشيعة، لم يعد يُسأل عن صواب ما فعل، بل راح الجميع يبحثون معه عن تسوية تعيدهم إلى تحت قبة المجلس. لحظة حاجة الضحية إلى مضطهدها. الواقع أنها قبّة برّي بالذات.

لم يكن مرة في صورة أيّ من أسلافه المطبوعة برؤساء الجمهورية على أنهم مدينون لهم بانتخابهم

لم يكن مرة في صورة أيّ من أسلافه المطبوعة برؤساء الجمهورية على أنهم مدينون لهم بانتخابهم على رأس السلطة الاشتراعية، شأن حمادة مع بشارة الخوري وفؤاد شهاب وشارل حلو، وعسيران مع كميل شمعون، والاسعد الابن مع سليمان فرنجية والياس سركيس وأمين الجميّل. منذ عام 1984 أضحى انتخاب رئيس المجلس، في جزء أساسي منه، وليد إرادة دمشق قبل أن يُكرَّس لها وحدها القرار منذ عام 1992. بيد أن ذلك عنى أن انتخابه، مرة كل أربع سنوات بما يُمكن أن تعنيه هذه المدة من مناعة لموقعه وحصانة لدوره، بات يُنظر إليه على أنه أكثر بكثير مما ينص عليه النظام الداخلي: أن يمثل البرلمان ويتكلم باسمه ويترأّس جلساته ويرعى تطبيق الدستور والقانون وحفظ الأمن. أضحى انتخاب رئيس المجلس استحقاقاً في ذاته، مماثلاً لانتخاب رئيس الجمهورية لا مكمّلاً ثانوياً. ما لم يُعدّ قبل اتفاق الطائف أنه قوة طائفته في السلطة والحكم، صار كذلك في المرحلة الجديدة.
بات برّي الثابتة الوحيدة في نظام يتغيّر كل ما فيه: رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، الحكومات، المجالس النيابية، الموظفون الكبار مدنيين وعسكريين والقضاة. تتغيّر كذلك القوانين ويُعدّل الدستور ويُطبّق أو يُفسَّر تبعاً للمراد. تخرج وجوه تاريخية وتحضر أخرى جديدة دونما أن يبدو أن ثمّة شيئاً استجدّ. هو شقّ آخر مهم في مغزى الدور الذي كان لبرّي: الانتظام.


هي المفارقة الفعلية الناجمة عن جعله – لأنه هو بالذات – الأعرف في الجمهورية، الأقدر على التأثير، الطرف المنحاز إلى حزبه وسلاح حزبه والمقاومة كما إلى طائفته التي يمثلها. على وفرة ما قيل، ولا يزال يقال، وسيظل يقال، إن حزب الله انتزع منه قيادة المقاومة المسلحة وقصر عليه المرجعية السياسية التي لا يأفل دورها، إلا أنه احتاج إليه عندما كان ينتظر الدخول إلى السلطة. ثم احتاج إليه إلى جانبه، ولا يزال، وهو في السلطة. إلى أفكاره ومناوراته وفتاواه، إلى صورته غير المشوبة بعيب عند الغربيين عندما يحاورهم نيابة عن حزب الله، ولا يسعهم هم إلا أن يحاوروه، ولا يؤلّبون خصومه عليه بل يدعونهم إليه.
الرجل غير المستغنى عنه.

 

 

 

الأخبار