مجلة وفاء wafaamagazine
يُفترض التمييز بين البيت السني الذي يعمل أهل السنة على ترتيبه سياسياً، وبين رئاسة الحكومة حيث نجحت المملكة العربية السعودية في جعل أولوية كل من يدخل إلى السرايا الكبيرة ان يكون في وضعية تكاملية معها لا تناقضية.
شارل جبور
لا يكتفي «حزب الله» في المشاركة بالحكومة، بل يسعى باستمرار إلى ان يكون رئيس الجمهورية او رئيس الحكومة أو رأسي السلطة التنفيذية في حالة تناغمية معه وتصالحية، ومع إدراكه انه لم يعد باستطاعة اي رئيس حكومة التساهل وغَض النظر عن سياسة الحزب الداخلية والخارجية للأسباب المعروفة التي تبدأ من حساسية البيئة السنية تجاهه، ولا تنتهي بالعامل السعودي، تحوّل موقع رئاسة الجمهورية إلى هدف أساسي للحزب سعياً إلى رئيس من صفوفه.
وعلى رغم انّ لـ»حزب الله» مروحة تحالفاته مع نواب وقيادات سنية، إلا انه لم يعد هؤلاء النواب والقادة يقدّمون أنفسهم كمدافعين عن خيارات الحزب وسياساته ومواقفه، لأن البيئة السنية لم تعد تتقبّل الدفاع او التبرير لحزب لم يعد باستطاعته إقناعها بمقاومة هدفها الأول استهداف السعودية ومدّ النفوذ الإيراني على امتداد العالم العربي، وتكفي المقارنة بين وضع الحزب في العام 2006 ووضعه اليوم للتدليل على حجم تراجعه داخل البيئة السنية واستطراداً كل البيئات الطائفية الأخرى.
وليس تفصيلاً انه لم تعد تُسمع أصوات سنية مدافعة عن دور ما يسمّى بالمقاومة في توازن الرعب مع إسرائيل، إذ وعلى رغم غياب الحزب القائد داخل هذه الطائفة التي تخوض عملية إعادة ترتيب أوضاعها السياسية، فإن أحدا من مكوناتها لم يعد يشكل غطاءً للحزب على غرار الحالة العونية مثلاً داخل البيئة المسيحية، وهذا مرده إلى ثلاثة عوامل أساسية: الوعي الشعبي السني من خطورة المشروع الإيراني، الدور الرائد للمملكة العربية السعودية، الخشية لدى الفئة السياسية من ان تفقد علاقتها مع بيئتها ومع المملكة في حال وفّرت الغطاء للحزب.
فهناك إذاً الفئة السنية المتحالفة مع «حزب الله» ولكنها لا تدافع عنه تجنباً لخسارة مزدوجة مع بيئتها والعمق الخليجي لهذه البيئة، وهناك الفئة التي تجاهر برفضها لسياساته التي تخطف الدولة وتُبقي البلد في وضع غير مستقر، ومع خسارته الفئة المدافعة عن مواقفه، أصبح همُّه استبعاد خصومه عن رئاسة الحكومة لمصلحة حلفائه من السنة على رغم عدم استعدادهم لتغطية أعماله، إذ لا يُسقط من حساباته انهم لا يستطيعون الذهاب بعيداً في الدفاع عنه، ومع غياب الخيارات أمامه أصبح مضطرا لترجيح كفة من لا يخاصمونه سياسيا وتفهُّم إحراجهم حيال بيئتهم وعمقهم.
وما تقدّم يفسِّر سقوط رهان «حزب الله» على موقع رئاسة الحكومة كغطاء لسياساته، ويفسِّر تمسكه بموقع رئاسة الجمهورية، ولا يخفي الحزب سعيه إلى رئيس من صفوفه ورفضه المجازفة برئيس وسطي يخضع لموازين قوى مُتبدّلة، ولكن لم يعد باستطاعته الإتيان برئيس من فريقه السياسي لأربعة أسباب أساسية:
السبب الأول مسيحي بامتياز مع فقدان حليفه «التيار الوطني الحر» ورقة الصدارة في التمثيل المسيحي التي انتقلت إلى «القوات اللبنانية» ومع فارق كبير، ومن دون إغفال أيضاً المناخ المسيحي العام الذي حاسب ويحاسب التيار على تحالفه مع حزب أطاح ويطيح بدور لبنان التاريخي الذي كان للمسيحيين المساهمة الأبرز في حياكته وصناعته، وبالتالي الشريحة الأكبر من المسيحيين أصبحت ضد اي خيار تحالفي مع الحزب، وتعتبر اي موقع مسيحي في الدولة يخضع لسياسة الحزب إساءة كبرى للمسيحيين.
السبب الثاني نيابي إن مع خسارة «حزب الله» ورقة الأكثرية النيابية التي كانت بحوزته، وإن مع اتفاق مكونات المعارضة النيابية على استبعاد رئيس من 8 آذار يُبقي لبنان في مستنقع الانهيار والفشل، ولا يستطيع الحزب تأمين الغطاء السني والدرزي والمسيحي لمرشحه الرئاسي.
السبب الثالث وطني في ظل وجود مزاج لبناني عام ضد «حزب الله» تُرجم في انتفاضة 17 تشرين وفي الانتخابات النيابية الأخيرة، خصوصا انّ الحزب أوصَل مرشحه الرئاسي بعد تخييره اللبنانيين بين الفراغ المفتوح على تداعيات كارثية ليس أقلها الإطاحة بالدستور، وبين انتخاب العماد ميشال عون، وهذه التجربة كانت سلبية جدا، وبالتالي جرِّب الحزب في ممارسته السلطوية التي كان له فيها رئيس للجمهورية وأكثرية وزارية ونيابية، ولم ينجح لا في منع الانهيار ولا في فرملته ولا في إخراج لبنان من الأزمة، ولا مصلحة لبنانية في مواصلة الحزب إمساكه بمفاصل السلطة تلافياً لاستمرار الانهيار.
السبب الرابع دولي مع الحرص الأميركي والفرنسي والسعودي على مواصفات محدّدة لرئيس الجمهورية تقطع الطريق أمام اي مرشّح من 8 آذار، كما ان واشنطن وباريس الحريصتين على استقرار لبنان تدركان استحالة تأمين هذا الاستقرار من دون مَدّه بالدعم المالي، الأمر غير الممكن تحقيقه من دون الرياض، فضلا عن الحرص على إبقاء لبنان بعيدا عن النفوذ الروسي.
فكل معادلة رئيس جمهورية من 8 آذار ورئيس حكومة وسطي او سيادي سقطت ولم تعد قائمة، وإذا كانت المعطيات السنية لا تسمح بتكليف رئيس حكومة يدور في فلك «حزب الله»، فإن المعطيات المسيحية لم تعد تسمح بانتخاب رئيس للجمهورية يدور في الفلك نفسه، كما ان المعطيات الوطنية أسقطت هذه المعادلة مع الانهيار الكبير الذي انزلق إليه البلد، فضلا عن انّ المعطيات الدولية ليست في وارد مساعدة لبنان سوى في حال خروجه من دائرة تأثير محور الممانعة.
واي رئيس للجمهورية من صفوف 8 آذار يشكل انقلابا على ما أفرزته صناديق الاقتراع في الانتخابات النيابية الأخيرة التي أعادت الاعتبار للخط اللبناني المسيحي الذي كان له المساهمة الأساس في قيام دولة تحتكر وحدها السلاح وتقيم أفضل العلاقات مع المجتمعين الدولي والعربي ويشكّل دستورها الإطار الناظم لإدارة تنوعها، وبالتالي ما قبل 15 أيار (الانتخابات النيابية) غير ما بعده، وما قبل 31 تشرين (انتهاء ولاية عون) غير ما بعده، ولم يعد من الجائز ولا الوارد انتخاب رئيس للجمهورية يُسلِّم بمعادلة «جيش وشعب ومقاومة»، او يتحدّث عن التكامل بين دور الدولة ودور المقاومة، لأن هذا التكامل غير موجود والهدف منه مواصلة مصادرة قرار الدولة من قبل «حزب الله» الذي كان يجب ان يسلِّم سلاحه منذ العام 1990، ورفض تسليمه السلاح أدى إلى استمرار الحرب بأشكال مختلفة وأوصَل لبنان إلى الانهيار والفشل والعزلة.
ومع خسارة «حزب الله» للأكثرية النيابية، ومع تراجع حضوره داخل الطوائف المسيحية والسنية والدرزية، ومع النقمة الشعبية العارمة ضد سياساته، ومع تراجع التمثيل النيابي والشعبي لـ»التيار الوطني الحر» ومكونات 8 آذار المسيحية، ومع الموقف الدولي الحريص على إعادة لبنان إلى شرعيته المحلية والعربية والدولية، وبالتالي مع كل هذه المعطيات وغيرها لم يعد ممكنا ولا مُتاحا انتخاب رئيس للجمهورية من 8 آذار يواصل تغطية مشروع الحزب الذي أساء إلى دور المسيحيين التاريخي في المساهمة في قيام دولة شكلت نموذجا يُحتذى وحَوّلها الحزب إلى مضرب مثل للدول الفاشلة والمنقسمة والمتناحرة.
الجمهورية