مجلة وفاء wafaamagazine
كما هو متوقع، سيبتلع الفشل جلسة جديدة لمجلس النواب، وأطراف الانقسام الداخلي لا تكلّ ولا تملّ من هذا اللهو العبثي خارج الصحن الرئاسي، الذي حوّل البرلمان الى مسرح بلا فكاهة، لتكرار اسطوانة ممجوجة صارت مدعاة للسخرية والتهكّم، وللتباري في «العربشة» على اشجار التشبيح السياسي، والنفخ الفارغ للعضلات والاحجام، والتفاخر الهزلي بقدراتٍ مُدّعاة، فيما هي في نهاية الجلسة، وكما درجت عليه منذ بداية مسلسل الجلسات الفاشلة آخر ايلول الماضي، ستبصم، من فوق اشجارها ومن تحتها، على شهادة إقرار واضح لا لبس فيه، بعجزها عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وفي انتظار ان يأتي أحد ما من مكان ما، إنفاذاً لإرادة ما، ويقرع جرس النزول عن تلك الاشجار، فسيبقى مسلسل العبث قائماً، ويستنزف الفشل اكثر فأكثر اعصاب الناس. فهل ثمة من يجرؤ على استفتاء الناس حيال هذا العبث؟ وهل ثمة من يجرؤ على الاعتراف بحقيقة ان المواطن اللبناني القابع في قعر المعاناة، بات في اعلى درجات خيبة امله من خلاص وهمي وعده به المستثمرون على وجعه، والمتسابقون على نصب متاريس الفرقة والصدام. وفي أعلى درجات غضبه ومقته واستفزازه ممّا تنضح به «عبقريات» زمن الحقد والنكد والجهل، من شحن سياسي وشعبوي مسموم، وابداعات جاهلة لألف باء العمل السياسي والبرلماني، لا بل والوطني العام، وفي اعلى درجات مَلله وغضبه ممّا يسمعه وينخر أذنيه من شعارات وعناوين تدفع الى الاكتئاب، وتمنّيه لو أنّ في متناوله لاصقات جلدية محكمة يستعين بها لِكمّ تلك الأفواه التي تنطق بالكفر وتعمق أزمته وتشدّه الى ما تحت الدرك الأسفل؟
مسلسل تركي!
ليس سراً أنّ الفشل المتكرر والمتنقل من جلسة الى أخرى، مَردّه الى انقطاع سبل الاتفاق الداخلي على رئيس للجمهورية والإصرار على رفض هذا التوافق، ولكن بمعزل عن اسباب ودوافع كل طرف، فكلفته بلا ادنى شك عالية جداً وتتراكم اكثر كلما طال الوقت. وكما تقول لـ»الجمهورية» مصادر سياسية متابعة للملف الرئاسي داخليا وخارجيا، فإنّ هذا الوضع يجرّ الى أمرين نتيجتهما واحدة:
الأول، إهدار وقت لم نعد نملك تَرفه، ويضيع من عمر لبنان واللبنانيين، في مماحكات وكمائن ومكائد واحقاد، وتوهان في مسلسل من الجلسات الفاشلة والمتتالية في مجلس النواب، أشبه بمسلسل تركي طويل لا نهاية لحلقاته، والبلد يكاد يُمحى، والمواطن بالكاد يتنفس.
الثاني، إهدار فرص جديدة، قد يكون ثمّة من يسعى من أصدقاء لبنان الى إتاحتها امام اللبنانيين لتجاوز الازمة الرئاسية.
الحل ليس سهلاً
وتبعاً لعمق الانقسام الداخلي، وحسم بعض اطرافه لخياراتهم بعدم التوافق، فإن المصادر عينها تنعى الحلّ من الداخل، بل تحسم انّ حلّ الداخل سيقرّره الخارج إن عاجلا أو آجلا، الا انّ هذا الحل ليس سهلا.
وفي موازاة تأكيد المصادر باستحالة الحل الداخلي، فإنّ ما يلفت في مقاربتها للحل من الخارج، هو حديثها عن صعوبة الحل، وليس استحالته، ما يعني انّ امكانية بلوغ هذا الحل قائمة، الا أن أي جهد قد يتطلب وقتا طويلا وعملا مكثّفا لإنضاج حلٍ بناءً عليه. واذا كان على ما يحكى عن توجّه لإطلاق مبادرة خارجية، فرنسية او اميركية او سعودية او مشتركة بين هذه الدول مجتمعة، قد بات يقارب من قبل اوساط سياسية مختلفة كاحتمال جدّي، إلّا أن الصعوبة غير مرتبطة بتوقيت اطلاق هذا التحرك، بل في أن ايّ مبادرة، وأيّاً كان أطرافها، لكي تُطلق وتحقق هدفها، ينبغي بالدرجة الاولى أن تكون لها في لبنان قاعدة ترتكز عليها، تكمّلها وتساعدها على السريان في الجسم اللبناني. وهذه القاعدة ليست موجودة حتى الآن.
مقدمات وممهدات
تؤيّد ذلك قراءة تفصيلية لمصادر سياسية واسعة الاطلاع، حيث قالت لـ»الجمهورية» انّ الحل للأزمة الرئاسية في لبنان يأتي من باب من اثنين، أو من البابين معاً:
الباب الأول، تسوية داخلية، لكنها في الحال الراهن خارج الحسبان، فبمعزل عن التوهم بالقدرات والاحجام، فهذا الامر تنفيه حقيقة ان كل الاطراف الداخليين محشورون بعدم قدرتهم منفردين على الحسم وإمالة الدفة الرئاسية في اتجاه معيّن. يضاف الى ذلك ان كل ما تُعتبر مساحات مشتركة بين الاطراف الاساسية مهدومة، والتقاء هذه الاطراف على حلول وسط بات اكثر من مستحيل. واكثر من ذلك، اذا كانت ثمّة عقدة كبيرة تمنع التوافق على مرشح بين من يسمّون انفسهم سياديين، وبين خصومهم الممتدين من ثنائي حركة «امل» و»حزب الله» وصولا إلى التيار الوطني الحر وسائر الحلفاء، الا ان ذروة التعقيد قائمة بين «الثنائي» و»التيار»، جرّاء اصرار رئيس التيار النائب جبران باسيل على قطع الطريق على المرشح المدعوم من «أمل» و»الحزب» لأسباب يتداخل فيها السياسي بالشخصي. وخلاصة هذه الصورة المعقدة، ان باب التسوية الداخلية موصَد تماماً.
الباب الثاني، تسوية خارجية، ولكن اي تسوية رئاسية خارجية يفترض ان تقترن بمقدّمات تمهيدية لها ومتممة لها في الداخل، وهذه المقدّمات غير متوفرة حالياً، او بمعنى أدق لا توجد في الجو الداخلي المعقّد أرضية ملائمة لتقوم عليها أي تسوية خارجية. قد يطرح البعض إمكان فرض تسوية على اللبنانيين، وهذا الامر بالتأكيد يدغدغ اذهان اصحاب منطق «غلبة فئة على فئة»، ولكن لنفرض انه مدرج في دائرة الاحتمالات، فمن يضمن أن يكتب النجاح لتسوية كهذه؟ الجواب بسيط، فواقع لبنان بتعقيداته واصطفافاته يدركه العالم الخارجي ربما اكثر من اللبنانيين انفسهم، ويدرك ايضا ان أي خطوة بالفرض، من شأنها أن تخلق وقائع غير محسوبة تزيد الواقع اللبناني تعقيدا وتفتحه على منزلقات رهيبة. فضلاً عن انّ العالم بأسره على دراية تامة بأن كل التسويات الرئاسية في لبنان ما بعد الطائف، تمّت بممهدات لبنانية داخلية لها. فعندما تتوفّر الممهدات الموضوعية تصبح في حاجة الى «لمسة خارجية» لبلورة الحل. ومن دونها سيبقى الفراغ في سدة الرئاسة الاولى مراوحا لشهور وشهور، والبلد يغرق اكثر فأكثر في وحول الازمة.
الصورة الخارجية
على ان الصورة الخارجية المرتبطة بالملف اللبناني، وبرغم ما يحكى عن تحضير لإطلاق مسعى خارجي تجاه لبنان، ما زالت مشوبة بالغموض على ما يقول مصدر ديبلوماسي لـ»الجمهورية». مضيفاً انّ «الإشارات التي نسمعها حول هذا المسعى مشجعة، لكننا حتى الآن لا نملك اي قرائن او دلائل تؤكدها».
ويقرأ المصدر الديبلوماسي صورة المواقف الخارجية كما يلي:
أوّلاً، الموقف الاميركي ملتزم سقف دعوة اللبنانيين الى التسريع في انتخاب رئيس الجمهورية، ولا يوحي من قريب او بعيد بمبادرة اميركية احادية او تحرك اميركي مباشر تجاه لبنان.
ثانياً، باريس تُبدي حماسة ملحوظة تجاه الملف اللبناني، وإن كانت بعض الاوساط الفرنسية لا تستبعد اطلاق الرئيس ايمانويل ماكرون مبادرة ما تجاه لبنان، الا ان الرئيس الفرنسي لا يريد تكرار التجربة السابقة بسقوط المبادرة الفرنسية التي اطلقها تجاه لبنان بعد الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت في العام 2020، ومن هنا تتحرك باريس في اتجاهات دولية متعددة، وعلى وجه الخصوص مع الاميركيين والسعوديين، لحشد الدعم لأي مبادرة وعناصر الحل للازمة الرئاسية في لبنان.
ثالثاً، على الرغم من اندماج المملكة العربية السعودية مع الفرنسيين في مقاربة الملف اللبناني، والالتقاء مع الفرنسيين على وجوب ادخال الملف اللبناني الى دائرة الانفراج، الا انه لا توجد اي مقدمات سعودية في الوقت الراهن توحي بمقاربة حثيثة وعميقة للملف الرئاسي اللبناني، كما لم تبدر اي اشارة سعودية مباشرة حول «مواقف نوعية» من الاستحقاق الرئاسي.
رابعاً، ايران تظهر انها غير معنية بالملف الرئاسي اللبناني، بوصفه شأنا داخليا يعني اللبنانيين، ولا تشكل عاملا معطّلا او مقررا في هذا الاستحقاق، ذلك ان الامر متروك لحلفائها في لبنان، الا ان ثمة من يتحدث عن أن القطريين والفرنسيين يطرقون الباب الايراني ربطا بهذا الاستحقاق.
خامسا، الفاتيكان يقارب الملف اللبناني بنظرة قلقة جدا، والتقارير التي ترد تؤكد ان الكرسي الرسولي يستشعر مخاطر كبيرة مُحدقة بلبنان على الصعد كافة، لا سيما على صيغة العيش الواحد بين جميع اللبنانيين ومصير المسيحيين في لبنان. وتجلى ذلك في امرين: الاول، الدعوة العاجلة التي اطلقها البابا فرنسيس من البحرين قبل فترة قصيرة، وحَثّ فيها السياسيين اللبنانيين على التوافق وتنحية مصالحهم والمسارعة في انتخاب رئيس للجمهورية. والثاني، الحركة الديبلوماسية التي اطلقها الفاتيكان في اتجاه دول القرار لمساعدة لبنان على انتخاب رئيس للجمهورية واعادة تكوين سلطاته.
البابا يصلّي للبنان
والموقف البابوي من لبنان عَبّرت عنه رسالة تلقّاها رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي من البابا فرنسيس هنّأه فيها بعيد الاستقلال، وجاء فيها: «بمناسبة عيد الاستقلال، اسمحوا لي أن أرسل لدولتكم أحر التهاني وأطيب التمنيات ليستعيد لبنان الوئام والاستقرار والازدهار. انني، اذ أطلب من العلي أن يحافظ اللبنانيون على وحدتهم من اجل المصلحة الوطنية العامة وتأمين رعاية اخوانهم الاكثر عوزاً، أتمنى أن تحل بركة الرب على هذا البلد».
كل شيء وارد
في موازاة هذه الصورة، كشفت مصادر موثوقة لـ»الجمهورية» أنّ «شهر كانون الاول المقبل قد يكون فرصة لإنضاج حل رئاسي».
وألمحَت المصادر الى «حركة ما» في كانون الاول المقبل من دون ان تحدد ماهيتها، وقالت: حركة الجهود مستمرة على صُعد مختلفة، وعلى رغم الصعوبات المستحكمة في الداخل اللبناني، ليس مستبعداً أبداً ان يؤسّس شهر كانون للحل الرئاسي. والتأسيس لهذا الحل يُجنّب لبنان السقوط سياسياً في فراغ رئاسي من دون سقف، وكذلك السقوط الاكبر اقتصاديا وماليا، حيث لا تعود هناك امكانية للصمود، وصوصا ان الخبراء الاقتصاديين والماليين يعبّرون عن مخاوف كبيرة من الفصل الاول من السنة الجديدة، فإذا لم ينتخب رئيس وتتشكل حكومة وتباشر بمهمة انقاذية واصلاحية قبل ذلك، فهذا الفصل سيكون حتماً موعد الانهيار الكامل للبنان اقتصاديا وماليا.
حتى آخر الشهر!
وتبرز في هذا السياق اجواء ديبلوماسية غربية سوداوية تجاه الوضع اللبناني، وقف عليها اقتصاديون ورجال اعمال من سفير دولة اوروبية معنية مباشرة بالشأن اللبناني، حيث قال السفير ما مفاده انّ «دول الغرب قاطبة ترغب في ان ترى انفراجات سريعة في لبنان لا سيما على مستوى انتخاب رئيس للجمهورية واعادة تكوين مؤسساته. وهذه الدول جميعها أعربت عن استعدادها لمساعدة اللبنانيين على تحقيق ذلك، الا ان على السياسيين في لبنان ان يدركوا ان المدى الزمني ليس مفتوحا، وحدوده من الآن وحتى آخر السنة الحالية، فإن تمّ تجاوب السياسيين خلال هذه المهلة مع ضرورات بلدهم واولوياته، وفي مقدمها التوافق على انتخاب رئيس، فهذا بالتأكيد يلبّي توق اللبنانيين الى الخروج من أزمتهم الصعبة، والّا لن يكون مفاجئا ابداً إن سقط الاهتمام بكم واصبحتم وحدكم.
15 الف ليرة
من جهة ثانية، بات مؤكدا ان احتساب الرسوم والضرائب على اساس دولار 15 الف ليرة، سيبدأ اعتبارا من مطلع الشهر المقبل.
وأعلن وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل، في بيان، أن «وزارة المال وجّهت كتاباً إلى مصرف لبنان يتعلق بالبدء باحتساب أسعار العملات الأجنبية على الضرائب والرسوم التي تستوفيها إدارة الجمارك على السلع والبضائع المستوردة، على أساس 15 ألف ليرة للدولار الأميركي الواحد وذلك اعتباراً من 1/12/2022»، وأشار إلى أن «هذا التدبير يساعد في الحدّ من استغلال فروقات الأسعار وكذلك تخفيف التشوهات والخسائر التي تتكبّدها الخزينة».
الكابيتال.. والصندوق السيادي
على صعيد آخر، وجّه رئيس المجلس النيابي نبيه بري دعوة جديدة الى اللجان النيابية للانعقاد في جلسة مشتركة يومي الثلاثاء والاربعاء المقبلين لاستكمال البحث في الكابيتال كونترول، حيث تؤكد مصادر مجلسية لـ»الجمهورية» ان الرئيس بري سيدعو الى جلسة تشريعية لإقراره فور الانتهاء منه في اللجان المشتركة.
في غضون ذلك، يتواصل البحث النيابي في ملف الصندوق السيادي اللبناني المرتبط بملف النفط والغاز البحري، وقال رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان بعد اجتماع اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة المال والموازنة لدراسة هذا الامر: نعمل على دمج 4 اقتراحات قوانين ومنها استقلالية الصندوق التي يجب أن تكون متصلة بمؤسسات الدولة الدستورية مع الحفاظ على الادّخار ومنفصلة عن موازنات الدولة. اضاف: تقدمنا في جلسة اليوم (امس) بشكل ملحوظ ووصلنا الى المادة العاشرة وأُقرّت المواد كلها المتعلقة بإنشائه وتعديله. لافتاً الى أن «لا محاصصة في الصندوق السيادي، وفي حال لن يكون الصندوق سيادياً فليبقَ النفط في البحر».
الجمهورية