مجلة وفاء wafaamagazine
إرتكب «حزب الله»، في معرض خوضه للانتخابات الرئاسية، خمسة أخطاء في التقدير السياسي كانت كافية لنقله من موقع القوة إلى موقع الضعف، وستدفعه قريباً إلى مغادرة تَموضعه الانتظاري بحثاً عن رئيس توافقي.
كتب شارل جبور في صحيفة الجمهورية
يُخطئ من يعتقد انّ القرارات السياسية التي يتخذها «حزب الله» نابعة عن دراسة وتمحيص وتخطيط ومُحاكاة للسيناريوهات المختلفة، إنما يؤشّر معظمها إلى ارتجالية موصوفة، وأحد أبرز الأمثلة على ذلك تعليق مشاركته في الحكومة الحالية بعد أسابيع قليلة على نَيلها الثقة مُخيّراً إيّاها بين كَفّ يد القاضي طارق البيطار، وبين ان تبقى مشلولة، وعندما وجد انّ موقفه غير قابل للترجمة ووضع نفسه في مواجهة مع شريحة واسعة من اللبنانيين الذي يريدون العدالة، وفئة أخرى تُحمِّله مسؤولية تعطيل الحكومة وسط الانهيار، تراجع عن هذا الموقف وعاد إلى قواعد ما قبل اتخاذه.
وهذا يعني أولاً انّ «حزب الله» يتخِّذ مواقفه على قاعدة ردّة الفعل كونها تفتقد إلى الإحاطة بظروف أي موقف يُقدم عليه، ويعني ثانياً ان الحزب يتراجع عن مواقفه عندما يصطدم بالحائط المسدود، ومن الأمثلة أيضا عندما أعلن رفضه لحكومات غير سياسية بعد ثورة 17 تشرين، وما لبث ان تراجع مُسمّياً وزراء من فئة التكنوقراط، وكل ذلك للقول ان الصورة التي يقدِّم نفسه فيها الحزب لجهة ان مواقفه مدروسة ولا يتراجع عن هذه المواقف غير صحيحة.
وكي لا تبقى الأمثلة في الماضي، فمن المفيد الإضاءة على وقوع «حزب الله» في سوء تقدير سياسي خماسي في استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية:
الخطأ الأول في سوء تقدير «حزب الله» لردّ فعل النائب جبران باسيل على ترشيحه النائب السابق سليمان فرنجية لموقع رئاسة الجمهورية، وهذا يعني ان الحزب يجهل حليفه الذي كان قد بَدّل في مواقف ظنّ البعض انها مبدئية وشكلت جوهر خطابه السياسي بين عامي 1988 و2006، ولكنه تراجع عنها جذرياً لأنها بكل بساطة تقطع عليه طريق الرئاسة الأولى، ولم يجد نفسه مُحرجاً بالخروج من خطاب شيطنة الميليشيات في الحرب، إلى التحالف مع ميليشيا بعمق إيراني، وكل ذلك لأنّ هدفه الأول والأخير رئاسة الجمهورية.
وهل يعقل انّ الحزب يجهل بأنّ حليفه المسيحي المستجد منذ العام 2006 لم يأت إلى خياره قناعة بما يسمّى المقاومة، إنما لكَون رئاسة الجمهورية تشكل أولوية الأولويات بالنسبة إليه، وانه لو تبنّت 14 آذار ترشيحه لَما قفز إلى حضن الحزب؟ ومسألة ترشيح النائب باسيل أو ان تكون الورقة الرئاسية بيده لم تستجِد مع الشغور الرئاسي، إنما تحولت إلى الهدف الأول للعهد منذ اليوم الأول لانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وهذا معروف بالممارسة بمعزل عن المعلومات التي تحدثت أكثر من مرة عن مُفاتحة عون للسيد حسن نصرالله بهذا الشأن.
وإذا كان يتوقّع الحزب ان يقبل باسيل على مَضض ترشيح خصمه نزولاً عند رغبته، فهذا يعني بكل بساطة انه أساء التقدير بدليل الرفض القاطع لرئيس التيار، فيما كان باستطاعة السيد نصرالله ان يجسّ النبض قبل مفاتحته لباسيل بالأمر، إلا في حال كان يراهن على تأثيره الشخصي عليه وقبوله خجلاً!
وإذا كان يعتبر «حزب الله» انه قد أدى قسطه للعلى مع انتخاب الرئيس عون وانتهى «وعده الصادق» عند هذا الحدّ، فإنّ مقاربة «التيار الوطني الحر» مناقِضة تماماً، وهي ان جوهر التحالف بين الحزب والتيار قائم على معادلة سين-سين، أي سلاح مقابل سلطة، والسلطة تعني الرئاسة الأولى التي شكلت وتشكل الهدف الأول للتيار، وعندما يتخلى الحزب عن الشق المتعلِّق بدعم التيار سلطوياً، فإنّ التيار سيتخلى عن الشقّ المتعلِّق بتغطية سلاح الحزب ودوره، وما ارتكبه الحزب هو خطأ كبير في التقدير، لأنّ الصغير والكبير يُدركان أن لا هدف للتيار منذ العام 1988 سوى رئاسة الجمهورية.
الخطأ الثاني في سوء تقدير «حزب الله» لطريقة إدارة المعركة الرئاسية الحالية التي تختلف عن إدارة المعركة السابقة بكل ظروفها الداخلية وأبعادها الخارجية، فلم يكن هناك أزمة مالية ولا تَململ شعبي ولا انتفاضة تشرينية ولا انتخابات نيابية أفقدت الممانعة أكثريتها النيابية واستطراداً المسيحية، ولا بل كان تبنّى الحزب في العام 2014 الأكثر تمثيلاً عند المسيحيين وفي ظروف إقليمية مريحة لإيران التي وقّعت اتفاقها النووي في العام 2015، فيما طهران اليوم في أسوأ أوضاعها الداخلية والخارجية: انتفاضة لم تنته مفاعيلها بعد، أزمة علاقة مع السعودية، الاتفاق النووي معلّق، أزمة مع الدول الأوروبية على خلفية الحرب الروسية ضد أوكرانيا وتفاقمت مع إعدام المسؤول علي رضا أكبري.
وقد وقع «حزب الله» في خطأ تقدير رئاسي-سياسي كبير وهو انّ بإمكانه ان يكرِّر تجربة العماد عون مع النائب السابق سليمان فرنجية، ولم يأخذ في الاعتبار موقف حليفه باسيل، ولا كل المعطيات الداخلية والخارجية التي لا تسمح بوصول رئيس من 8 آذار.
الخطأ الثالث في سوء تقدير «حزب الله» لوزنه السياسي الذي مهما كبر يبقى طائفة من الطوائف اللبنانية ولا يستطيع ان ينتحل دور النظام السوري في وصايته على لبنان. فلا يمكن للسيد نصرالله ان يقتبس دور الرئيس حافظ الأسد، ولا ان يتولى الحاج وفيق صفا دور غازي كنعان ورستم غزالة، وبالتالي قد أساء الظن بحجمه مُعتقداً انّ بإمكانه تسمية فرنجية وان باسيل سيمتثل لقراره.
الخطأ الرابع في سوء تقدير «حزب الله» لانعكاسات خسارة «التيار الوطني الحر» نيابيا وسياسيا وشعبيا، وإذا كان يراهن على غياب الخيارات البديلة للتيار، فإن خيارات الحزب محدودة بدورها، وليس لديه اي بدائل مسيحية او غيرها تسد الفراغ الذي سيتركه التيار في حال تجرّأ الأخير على إعلان فك التحالف نهائياً.
فقد أساء الحزب التقدير السياسي، فيما كان من الأنسَب لمصلحته ان يخرِّج المسألة الرئاسية بالتفاهم مع الثنائي عون وباسيل وليس ان يضعهما أمام الأمر الواقع الرئاسي.
الخطأ الخامس يتمثّل في سوء تقدير «حزب الله» لردّ فعل المعارضة الرافضة اي تسوية تحت اي ظرف على مرشحه الرئاسي، بل استعدادها لمواجهة من خارج العلبة وخلافاً لكل السقوف المعتمدة منذ العام 2005، لأنّ تسويات أنصاف الحلول منذ خروج الجيش السوري من لبنان لم تضع حداً للانهيار وأبقَت الدولة مشلولة وفاقَمت حِدّة الأزمات على اختلافها، ما أوصَل المعارضة إلى قناعة بأن اللاتسوية أفضل بكثير من التسوية على مرشح من 8 آذار.
ويخطئ «حزب الله» التقدير في حال اعتقد ان المعارضة ستتراجع تحت عناوين «أم الصبي» والتلويح بتطيير الدستور والانهيار الحاصل أساساً، لأنه ما كان يصح سابقاً لم يعد يصح اليوم بعدما خسر اللبنانيون كلّ ما دفعهم سابقاً للتنازل حفاظاً على استقرار مالي وسياسي وسعياً لقيام دولة فعلية، أصبح هناك شبه قناعة انّ هذه الدولة يستحيل قيامها في ظل أنصاف الحلول والخضوع لمشيئة 8 آذار.
وعليه، فإن سوء التقدير السياسي الخماسي لـ»حزب الله» أدى خدمة كبرى للمعارضة السيادية-الإصلاحية وسيضعه في موقع الضعف وطنياً وسياسياً، وسيدفعه رئاسياً إلى التخلي عن مرشحه تمهيداً لفتح باب التوافق على المرشح الرئاسي العتيد.