مجلة وفاء wafaamagazine
وجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة الى اللبنانيين بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك.
وجاء في نصها:
“الحمد لله الذي شرع لعباده الصيام لتهذيب نفوسهم وتطهيرهم من الآثام، أحمده تعالى وهو المستحق للحمد ، وأشكره على نعمه التي تزيد عن العد .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أتقى من صلى وصام، وحج واعتمر، وأطاع ربه في السر والجهر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيرا . وبعد: يقول المولى تعالى في محكم تنزيله :﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون﴾ .
أيها المسلمون
يحضر شهر رمضان، وهو موعد سنوي للصوم والعبادة، وقد أخبرنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن فضائل الشهر واستحقاقاته. فهو الشهر الذي بدأ فيه إنزال القرآن، وهو نعمة كبرى، لأن فيه الهدى للناس، وآيات الفرقان بين الحق والباطل. وهو شهر فيه الفسحة للمريض والمسافر، لأن الدين يسر، فليحتف المسلمون به بالتكبير والإصغاء لدعوة الخير، وهذا هو مقتضى الشكر لرب العالمين، الهادي إلى أقوم السبل.
وقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. مع تكليف الله لرسوله بتبليغ القرآن الموحى لهداية البشرية، بدأ النبي الكريم دعوته التي نذر لها نفسه، ورغم صعوبة المهمة، فقد بشره سبحانه وتعالى بإرادته أن يكون الدين، وأن يكون الصوم يسرا لا عسر فيه. ولماذا يكون الصوم يسرا شأن الدين، لأنه محفوف برحمة الله عز وجل وأفضاله. كل مؤمن يخالجه الإحساس بالراحة في رمضان، الراحة بأداء العبادة، والراحة بالإقبال على عمل الخير للأقربين وللبعداء. والمؤمن الصائم القائم محتسب، لأنه يعمل الخير المأجور عليه لنفسه ولأسرته، وللناس أجمعين.
أيها المسلمون
يمر وطننا، ويمر شعبنا بسنوات عجاف، حيث تطبق المصاعب على الناس، صغيرهم وكبيرهم. وهي الظروف التي لا يستطيع الصمود فيها غير الكبار بإيمانهم وعملهم، وقبل ذلك وبعده، بإرادتهم العازمة أن يقدموا كل ما يستطيعون للإنقاذ الوطني والإنساني. وقد أخبرنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي، أن كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به. نحن مأمورون بأن يكون عملنا دائما في مستوى إيماننا بالله ورسالاته، واليوم، اليوم هو يوم الاحتساب والمغفرة، وهو يوم المجاهدة، لاختراق المشقات وتجاوزها. يقول الله تعالى لرسوله: وذكرهم بأيام الله، أي أيام البلاء، وأيام رحمة الله الواسعة. قليلة هي الأوطان التي أصيبت بما أصيب به وطننا، وقليلة هي الشعوب التي أصيبت بما أصيب به شعبنا. والله سبحانه وتعالى يقول: بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون
نحن بالفعل في زمن البلاء الأعظم، ولا نتوقع الخروج منه إلا برحمة الله. لكن في الحياة العامة، هناك مسؤولون ومسؤوليات. ونحن نقول بدون تردد، وبعد صبر طويل وإعفاء أطول: إن المسؤولين عن الحياة العامة، ما تحملوا مسؤولياتهم، ولا راعوا آلام شعبهم، وعز لديهم الإحساس والإحسان. قرأت قبل أيام أن ما نزل بلبنان ما عرفه بلدنا من أكثر من قرن. وقد عبر شعبنا في عام 2019 عن إرادته الخلاص من كل هؤلاء الناس، الذين ما راعوا الحرمات، ولا تحملوا المسؤوليات، كيف يفرغ منصب رئاسة الجمهورية؟ وتتصدع المؤسسات؟ وكيف تتعاظم الجرائم، وتتصاعد وتيرة المجاعة؟ لو كان هناك مسؤولون من أي نوع كان. تقول الأدبيات السياسية العالمية: إن إدارة الشأن العام، هي من أشرف الأعمال؛ لأنها لخدمة الناس: فكيف يخدم سياسيونا الناس؟ لم يكد يبقى شيء من رئاسة الجمهورية أقلها، ومع ذلك، فإنه الصراع ناشب عليها، وما بقي من المال العام شيء، ومع ذلك، ما يزالون يلاحقوننا على الليرة وعلى اللقمة.
وبصراحة، وبدون مواربة: إما انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة، أو الفوضى التي بدأت معالمها تظهر شيئا فشيئا في الوطن، ويدفع الثمن المواطن.
المطلوب الاحتكام إلى الدستور، وانتخاب رئيس للبلاد، اليوم قبل الغد، لا نستطيع الانتظار أكثر من ذلك، والاستجابة لمطالب الناس وحاجاتهم، الذين بدأوا يفقدون الحد الأدنى من مقومات الحياة، ومن المؤسف أن الطبقة السياسية في مكان، والشعب في مكان آخر.
يا ساسة لبنان، كفى بالله عليكم تضييع الوقت، أصبحنا في المراحل الأخيرة من الانهيار، وحدوا رؤيتكم في مصير بلدكم، اتقوا الله في هذا الشعب الصابر الصبور المتألم. نريد حلا للخروج من النفق المظلم، إلى متى الانتظار لانتخاب رئيس للجمهورية؟ هل المطلوب الانهيار الشامل ليبنى على الشيء مقتضاه؟
إن العملة الوطنية انهارت، فماذا أنتم فاعلون؟ ماذا تنتظرون والناس تعاني الجوع والفقر وارتفاع كلفة الاستشفاء، أي نوع من البشر أنتم؟ وأي نوع من المسؤولين أنتم؟ لا يجوز بعد اليوم السكوت والتهاون بمصير لبنان واللبنانيين، فالساكت عن الحق شيطان أخرس في الجريمة التي ترتكب بحق اللبنانيين.
إن دار الفتوى كانت وستبقى الحريصة على وحدة اللبنانيين، وترسيخ عيشهم المشترك، وتوحيد صفوفهم، والتصدي لكل من يعمل على تمزيق وحدة الوطن، فالبعض ينادي ويعمل على تقسيم بلدية بيروت العاصمة، التي هي رمز وحدة اللبنانيين في عيشهم الواحد، فبيروت بمسلميها ومسيحييها لن ترضى بالتقسيم، ونحن سنقف سدا منيعا في مواجهة المس بوحدة بيروت، وبوحدة مؤسساتها، وعلى الساعين لهذه الأفكار، أن يفكروا مليا بالأولويات التي تهم المواطنين، وتخفف عنهم المعاناة، وتضع حدا للبطالة، وأزمة الماء والكهرباء والاستشفاء، وحالة الضياع الذي يعيشه الوطن والمواطن، بيروت هي الوجه المشرق لدور لبنان ورسالته، وهي مقياس الوطنية والعروبة والإيمان في لبنان الجريح، وكلنا مدعوون لمداواة هذا الجرح الذي طال وقته، وآن لنا أن نلتقي لبناء الدولة الوطنية الجامعة لكل أبنائها.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون
وسط الهموم الكبيرة على لبنان، وعلى فلسطين وعلى سورية، هناك بشرى خير تلوح في الأفق، بعد الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران، على استعادة العلاقات الدبلوماسية، وعلى التحاور لحل المشكلات. نحن نأمل أن يكون التوافق داعية سلام والتفات إلى الاستقرار، وخير الناس الذين تعذبوا كثيرا بسبب الفرقة والانقسام والتقاطع، فقد جاء في القرآن الكريم، في سورة قريش: ﴿لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف﴾. في الأمن والكفاية بقاء للإنسان والعمران. وفي الإيلاف والائتلاف إقبال على الاستقرار، ومتابعة مصالح الناس بالعناية والمسؤولية. ونحن نتطلع إلى أن يكون الاتفاق بين البلدين الكبيرين، خيرا كبيرا، وتوجها للعمل، متحدين على مصالح العباد والبلاد، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿والصلح خير﴾.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون
كما فجعتنا الزلازل في تركيا وسورية، داخلنا السرور على تضامن الجميع من حول البلدين المنكوبين. وفي فلسطين المحتلة، تحدث أهوال على البشر والحجر. ونحن نأمل أن يكون هناك تضامن بين العرب، على كف عادية المحتل وعدوانه. قالت الأمم المتحدة: إنها قصرت في إغاثة الشعب السوري، فماذا تفعل الأمم لإغاثة الشعب الفلسطيني؟
أيها المسلمون
رسالة رمضان رسالة خير، وصنع للجديد والمتقدم. وإذا كان السياسيون في لبنان قد أهملوا وما قاموا بواجباتهم، فعلينا جميعا أن لا نهمل ولا نتغافل. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا ولو بشق تمرة، وما يكفي الثلاثة يكفي العشرة. فأهلا برمضان، شهر الصدقات وأعمال الخير، والمودة التي تصنع الكثير: ﴿قل لمن ما في السموات والأرض قل لله، كتب على نفسه الرحمة، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون﴾. فنسأله سبحانه وتعالى برحمته، أن يكون صوم رمضان وعبادته، مناط نجاح لا خسران، وأن يوفقنا للأعمال الصالحة.
وكل رمضان وأنتم بخير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.