الرئيسية / آخر الأخبار / نبيه برّي.. آخر الحواريّين .

نبيه برّي.. آخر الحواريّين .

مجلة وفاء wafaamagazine

 

زياد عيتاني – الأحد 31 كانون الأول 2023

هو ليس زعيم للشيعة وحسب، بل هو السياسي الشيعي الوحيد في هذه المرحلة.

يحتكر الحديث السياسي عند شيعة لبنان داخلياً وخارجياً ليس قهراً ولا تسلّطاً بل لأنّه “أستاذ”، وكيف إن كان الأستاذ هو “نبيه” بكسر الباء كما يلفِظها قومه وأنصاره.

كان الصوت الشيعي الوحيد في بداياته الزعاماتيّة بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، فإذا به اليوم يصبح الملاذ الوحيد والأخير.

تغيُّر موازين القوى الميدانية داخل طائفته لم يهمّشه في الزعامة السياسية. يمتلك عبقرية البقاء وقادر على تحويل نقاط ضعفه إلى نقاط قوّة، وساحر باختصار الحلفاء قبل الأعداء.

يملك حصرية ترجمة القوّة الميليشياوية إلى مكاسب سياسية في النظام وخارج النظام.

مع نبيه برّي لا شيء نهائيّ بتاتاً. صداقته ليست شيكاً على بياض، ومخاصمته ليست عداء دون حدود. هو صاحب القبّعة المليئة بالأرانب من شتّى الألوان والأنواع. يفاجئك دائماً حيث لا تحتسب ولا تتوقّع.


يحتكر الحديث السياسي عند شيعة لبنان داخلياً وخارجياً ليس قهراً ولا تسلّطاً بل لأنّه “أستاذ”، وكيف إن كان الأستاذ هو “نبيه” بكسر الباء كما يلفِظها قومه وأنصاره

في الشأن الشيعي هو المرجعية، لكنةً وسلوكاً وحميّة. وفي الشأن الوطني هو الضمانة وصاحب التدبير. لوهلة تنخدع فتعتقد أنّه انتهى، أو شارف على النهاية. يدهشك ويباغتك أنّه حاضر كما كان وكما هو الآن وكما سيبقى.

على الطاولة يجيد الضرب بيده، وفي المجلس النيابي مطرقته حاضرة عندما يريد.

تصادقه فتتفاخر بصداقته. يمازحك فتضحك لقفشاته، وما إن تخرج من مجلسه مستذكراً حتى تدرك أنّ قفشته رسالة جادّة حادّة حاسمة أكثر ممّا يمكن تصوّره. لا يمكنك أن تركن إلى صداقته إن اصطدمت تلك الصداقة بثوابته، ويمكنك الاعتماد على صداقته إن جار عليك الزمن والرفاق. إن خاصمته فاحذر أن تُبعد نظرك عنه. يلاعبك بالخصومة دون أن يقضي عليك، فهو يفضّل الفوز بالنقاط لا بالضربة القاضية. مهما أبعدتك الخصومة عن مجلسه فلا بدّ لك من العودة، وبابه مفتوح دائماً للخصوم قبل الأصدقاء.

خيمة الزعامة عند نبيه برّي كبيرة يظنّ كلّ من يجلس تحتها من أنصاره أنّه زعيم. إلا أنّها خيمة لا مكان فيها إلا لزعيم واحد اسمه “نبيه”. لا صورة توضع أمام صورته ولا صوت يعلو بين الأنصار والمؤيّدين فوق صوته. هو السهل الممتنع تماماً كما قصائد نزار قباني ذاك الشاعر الدمشقي الذي ورّط العرب بنظم قصائد الشعر دون أن يجيدوا مثله. فقد ورّط نبيه برّي شيعة لبنان بالسياسة دون أن يجيدوها كما يجيد.

نبيه برّي الجنوبيّ الذي وُلد في مدينة “بو” جنوب سيراليون بالقارّة الإفريقية لم تغب ضيعته تبنين مسقط رأس أجداده عن خاطره مطلقاً. هو الذي درس في ابتدائيّتها ولعب في حقولها قبل أن ينتقل إلى بيروت لمتابعة دراسته الثانوية والجامعية. اكتسب من الجغرافيا كلّ صفاتها. هو كشتلة تبغ. جميلة وهي خضراء ومربحة لزارعيها، ومضرّة للصحة وهي يابسة إن حاولت إشعالها.

للرقم ثمانية قصة في حياة الرئيس نبيه برّي، فهو رقم التفاؤل والتألّق. رافقه في أهمّ مراحل حياته وصراعاته السياسية. ولد في 28 كانون الثاني عام 1938. نال الشهادة الثانوية عام 1958، وفي امتحان الفلسفة العربية اختار الإجابة على سؤال عن الفارابي ومدينته الفاضلة، ففنّد بمهارة صفات الرئيس.

تولّى رئاسة حركة أمل عام 1980، وخاض أولى معاركه العسكرية ضدّ إسرائيل عام 1982 في خلدة. عُيّن وزيراً للمرّة الأولى عام 1984 فتسلّم حقيبة العدل والموارد المائية والكهربائية في حكومة الرئيس رشيد كرامي، ثمّ وزيراً للمرّة الثانية عام 1989 في حكومة الرئيس سليم الحص. تولّى رئاسة مجلس النواب 7 مرّات فعاصر أربعة رؤساء للجمهورية هم الياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون، والثامنة أطال الله بعمره بمتناول اليد، ولا يبدو أنّ أحداً ينافسه عليها ما دامت هي الثامنة.


نبيه برّي عام 2023 وقد بلغ من العمر الخامسة والثمانين. هو رجل العام لبنانياً دون منازع. الكلّ لا بدّ أن يلجأ إليه تارة لضرورة تمرير بعض القوانين، وتارة أخرى لحفظ مؤسّسة الجيش من الفراغ والفرقة والتبديد، وثالثة لأنّه الوحيد القادر على العبور بكلّ شواذاتنا وأخطائنا ومآسينا إلى الشاطئ الأمين.

هو شيخ السياسة الذي لا يشيخ. فنّان بنسج تحالفاته وترويض خصومه بشهادة القريب والبعيد. هو شخصية العام لبنانياً دون منافسة. لا يمكن الطعن بذلك أمام مجلس الشورى أو المجلس الدستوري. فالوقائع والحقائق واضحة للجميع لأنّه آخر الحواريّين القادرين على الجمع لا القسمة وعلى خلق مبادرات لا تعطيلها.

هو المؤمن بالحوار ثمّ الحوار. وكما يقول دائماً وأبداً: “نحن محكومون بالحوار”. بالدعوة هذه أنهى عام 2023 وأطلق وعده بالخلاص في عام 2024.