
مجلة وفاء wafaamagazine
إنّ وجود قوّات حفظ السّلام الدّوليّة (اليونيفيل) في جنوب لبنان، يشكّل أحد أبرز عناوين وتجليّات الدّور الدّولي الوقائي في مناطق التّوتر، ممّا يجعل منهم حالة دوليّة خاصّة في بلد مثل لبنان، ومن منظور علم الاجتماع السّياسي يتجاوز وجود اليونيفل فكرة الحماية الأمنية، حيث يطال الأبعاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة العميقة، والتي تعكس واقع الدّولة والمجتمعات المحليّة ممّا يكشف لنا تعقيدات العلاقة بين المجتمع المحلي والمؤسّسات الدّوليّة، والحاجة لأن يكون هناك ضابط اجتماعي.
سأحاول في هذا المقال أن أسلّط الضوء على حاجة وجود اليونيفيل في جنوب لبنان اجتماعيّاً وسياسيّاً، بالإضافة إلى تشكيلها مصدر استقرار في ظلّ الأزمات والحروب.
أولا: الخلفيّة التاريخيّة والسّسيولوجيّة لليونيفيل في لبنان.
بعد اجتياح جنوب لبنان عام ١٩٧٨ تأسّست اليونيفيل بموجب قرار دولي، وبعد حرب تموز 2006 تعزّز وجودها بموجب القرار 1701، وبالرّغم من أنّها قوّة فصل عسكريّة، لكنّها لم تكتفِ بهذا الدور بل تطوّرت لتكون فاعل اجتماعي، في ظلّ ضعف الدّولة، فلعبت اليونيفيل أدوارًا أمنيّة وعسكريّة مطلوبة منها دوليّاً، وسياسيّة واجتماعية واقتصادية محلياً.
ثانيًا: اليونيفيل فاعل اجتماعي وسياسي.
تقوم اليونيفيل بدور الوسيط بين الجيش اللبناني والعدو الإسرائيلي، لتشكّل تواصل غير مباشر يقلل من احتمالات الانفجار العسكري، ويمثّل نوعًا من الحياد الفعّال لأجل خلق توازن بين متطلّبات الأمن الدّولي ومراعاة الحساسيّة المحليّة، وتشارك اليونيفيل في تمويل المشاريع التنمويّة المحليّة وورش التّعليم ودعم البلديّات والمؤسّسات الاجتماعيّة في جنوب لبنان، ممّا يجعل عملها غير تقليدي وهذا ما يميّزهم.
ثالثًا: ضرورة اليونيفل في ظلّ الأزمة اللبنانية.
يشهد لبنان منذ سنوات أكبر تحدّي اقتصادي وسياسي، ممّا يجعل من دور اليونيفيل ضرورة لضبط الحدود، وعامل ثقة بين المجتمع الدّولي والدّولة اللبنانيّة، ورغم استمرار اعتداءات العدو، وعدم احترامه المراسيم الدوليّة، يحاول اليونيفيل اظهارها في الأمم المتحدة، وتسجيل الخروقات دوليًا.
رابعًا: التفاعل بين المجتمع المحلي واليونيفيل.
من المنظور السّيسيولوجي، اليونيفيل تمثّل جسمًا خارجيًّا مراقبًا، ما يدفع جزء من فئات المجتمع للتّعامل معها بحذر أو بريبة، في ظلّ التّباين حول مفهوم السّيادة الوطنيّة، ولا شك أنّ لدى الأعم الأغلب من الجنوبيّة نظرة إيجابية لليونيفيل، حيث ترى عنصر أمان نسبي رغم الحساسيّة اتجاه بعض السلوكيّات. ويشهد المجتمع اندماج إيجابي، حيث أصبح اليونيفيل جزءًا من النّسيج المحلي.
خامسًا: التّحديّات المستقبليّة.
مما لا شك فيه أنّ هناك تحدّيًّا في تجنب تحويل اليونيفيل إلى بديل عن الدولة، لأنّ هذا الأمر يعمق الضّعف المؤسّساتي، ومن المهم أن ترافق مهمة اليونيفيل خطّة لبناء قدرات محليّة، وتعزيز دور الدّولة، وهذا ما يطبّق من خلال تعاونها مع الجيش اللبناني والجهات الرسميّة في الدّولة اللبنانيّة .
في سياق الحديث عن دور اليونيفيل لا يمكن إغفال البعد الفلسفي والاجتماعي الذي طرحه الامام موسى الصّدر، والذي يُعدّ مرجعًا أساسيًّا من الجنوب، لفهم العلاقة بين القوّة الدوليّة والمجتمع المحلي. لقد آمن الإمام الصّدر بأنّ أي انفتاح يجب أن يكون مشروط بالكرامة، وبأنّ السّيادة الوطنيّة لا تعني العزلة، ويؤكّد أنّ الجنوب جزءًا من قلب الوطن، وليس مجرد منطقة حدوديّة. انطلاقاً من هذا الفكر نجد أنّ وجود اليونيفيل يجب أن يُفهَم ضمن إطار تكامل وإنسجام مع أبناء وأصحاب الأرض، لا أوصياء عليهم، ومن ناحية أخرى هناك وجود تنوّع ثقافيّ في تركيب اليونيفيل من خلال الدّول متعددة الجنسيات والثقافات، وهذا يساعد في جعل فرص للتّبادل الثقافي والحوار، وهذه الرؤية تبني حوار حضاري لا ترف فكري، وعليه فلا تقاس فعالية اليونيفل بعدد الدوريّات وأي طريق تسلك، بل بمدى المساهمة في الاستقرار وحفظ الأمن والخدمة الاجتماعيّة. ويمكن في هذا المجال فهم رؤية الإمام الصدر من خلال أربعة نقاط:
أولاً: الإنسان في قلب المعادلة.
ركّز الإمام الصّدر على أنّ الإنسان هو محور السّياسة والتنمية، وفعالية اليونيفل تقاس بقدراتها على خدمة الإنسان وتقديم يد العون والمساعدة، وحماية الأفراد.
ثانيًا: الحوار بين الثقافات.
إنّ وجود أكثر من أربعين جنسية ضمن اليونيفيل فرصة لتبادل ثقافي وإنساني، وهذا منطلق فكري تميّز به الإمام الصّدر من خلال دعوته لحوار الحضارات والأديان والإنسان.
ثالثًا: الجنوب رمز المقاومة والسّلام.
يعتبر الإمام الصدر أنّ أرض الجنوب منبع الشّهادة وحامية الوطن، وعليه فإنّ وجود اليونيفل ينبغي أن يكون ضمن هذه الروحيّة، التي تنطلق من فكرة أن لا يكون هناك بديلاً عن أهل الأرض، والانسجام بين اليونيفل وأهل الأرض دليل على ثباتهم في أرضهم.
رابعًا: السّيادة والتّعاون الدولي.
يقول الإمام الصدر نحن لا نرفض أحدًا، بل نرفض من يتعامل معنا من فوق، لا معنا. وهذا يؤكّد أنّ وجود اليونيفيل مرحَّب به، حين يتكامل مع المجتمع المحلي وإنسانه. ومن ناحية أخرى فإنّ السّيادة لا تنقد وتسقط بالتعاون، بل تبنى على شراكة تحترم كرامة الوطن والإنسان فيه.
خاتمة
في ظل ما يشهده لبنان من تدهور اقتصادي واجتماعي، تظهر أهميّة ودور قوات اليونيفيل الدّولية، ليس فقط كقوّة فصل ومراقبة على الخط الأزرق، لأنّ مهمتهم أكثر من عسكريّة، بل كوجود وقائي ضد الانفجار الاجتماعي، وتحتاج هذه القوّة إلى دعم من المجتمع المحلي والدّولة اللبنانيّة والتعاون كي تشكّل عامل استقرار، خاصّة أنّ جنود حفظ السّلام ينتقلون من بلدانهم ويتركون أهلهم، إلى مكان مختلف عليهم، ممّا يعزّز يفرض أن يكون المجتمع المحلي منسجمًا معهم، وقد بيّن الإمام موسى الصدر أنّ الأمن لا يبنى بالقوّة فقط، بل بالعدالة، وبث الثّقة بين الناس، والشعور بالأمان، واليونيفيل إذا شعر بالأمان والاستقرار عكس ذلك على المجتمع المحلي، ممّا يجعل من اليونيفل شريكًا لا غريبًا
إنّ أبناء الجنوب هم طلاب حياة وإذا تمّ بناء الثّقة بينهم وبين اليونيفيل، قد يساهم هذا الأمر بشكل غير مباشر في الحفاظ على أمنهم وتعزيز المبادرات التّنموية ودعم المجتمع المحلي.
إنّ وجود اليونيفيل في لبنان اليوم بالذات هو حاجة اجتماعيّة وسياسيّة، وأداة مؤقت للاستقرار وليست حلاً دائمًا، ومستقبل ودورها مرتبط بقدرة الدولة اللبنانية على استعادة مكانتها وتعزيز الثّقة بين مؤسسات الدّولة والمواطن، وإلى حينها على المجتمعات المحليّة أن تعزز ثقتها باليونيفيل، وأن تحترم وجودهم، وعلى اليونيفيل أن تراعي هويّة الشعوب وثقافتهم، حينها يمكن الوصول إلى تكامل اجتماعي فيما بينهم.
يقول رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري عن اليونيفيل: إنّ لبنان وأبناء الجنوب قبل سواهم يريدون بقاء اليونيفيل في بلداتهم والحفاظ على العلاقة المتبادلة بين الجانبين منذ قدوم وحداتها عام 1978.
١٢/حزيران/٢٠٢٥
بقلم الشيخ ربيع رفيق قبيسي
أستاذ جامعي، باحث في علم الإجتماع السّياسي.