
مجلة وفاء wafaamagazine
كتب جورج شاهين في “الجمهورية” :
ممّا لا شك فيه، أنّ زيارة الموفد الرئاسي الأميركي توماس براك إلى بيروت أكّدت أهمية أولويات أهل الحُكم في بداية العهد، وقدّمت توقيتها على شكلها ومضمونها، وخصوصاً بالنسبة إلى مصير السلاح غير الشرعي. وما يفتقده المراقبون بات محصوراً بالتثبّت ممّا إن كانت مهلة الأسابيع الثلاثة لعودته مرتبطة بذلك، أم أنّها كافية لجلاء صورة الحرب على طهران، وما يمكن أن تعكسه في مستجدات المنطقة. وعليه، ما الذي يؤدّي إلى هذه المعادلة؟
صحيحٌ أنّ توقيت زيارة براك الأخيرة للبنان لم تكن مرتبطة بمجريات الحرب الإيرانية وتطوّراتها. لكنّ المحيطين بالفريق الأميركي المعني بكثير من الجوانب المطروحة، يعرفون ما هو مطروح على طاولة البحث بين الموفدين الأميركيِّين والمسؤولين اللبنانيِّين، وخصوصاً أنّهم كانوا وما زالوا من الملمّين بما كان يحتاجه هذا الفريق من دراسات قانونية واستشارات دستورية، كان الفريق يؤكّد أهمية فهمها مسبقاً، لضمان احترامها ومراعاتها في أي خطوة كان يمكن أن تُتخذ منعاً لأي دعسة ناقصة تحاشاها الجميع. وهم في الوقت عينه ممَّن رافقوا الموفد الأميركي السابق عاموس هوكشتاين وبعده مورغان أورتاغوس، على رغم من التعديل البسيط في فريق العمل الذي التحق بها من غير العسكريِّين، كانوا على علم بالموعد المحدّد قبل أسبوعين بنحو مؤكّد وبفارق يوم من دون أي لبث أو تشكيك.
وفي المعلومات التي تبادلها أعضاء الفريق قبل زيارة براك وبعدها، أنّ برنامج الرجل كان واضحاً ولم يتبدّل. وهي مهمّة لا ارتباط بينها وبين ما كان يُحضّر من عمليات عسكرية تجاه إيران، وخصوصاً عملية «الأسد الصاعد» التي نفّذتها إسرائيل في 13 حزيران، وما تسبّبت به من تغيير دراماتيكي في الوضع العسكري والأمني، بعدما اتسعت رقعة المواجهات إلى أقصى ما كان متوقعاً بضمّ الأراضي الإيرانية ومحيطها إلى ساحتها. وهي عملية وضعت بلداناً عدة في مرمى أي دعسة ناقصة يمكن أن تُرتكَب في إيران وتتسبّب بما يؤلم جاراتها الدول الحليفة لواشنطن، وقد سبق لرئيسه أن جال عليها قبل أيام قليلة وجمع منها بضعة مليارات من الدولارات لتعزيز الاستثمارات في بلاده، وتحديداً في الصناعات التي تخضع للسباق غير المتكافئ مع الصين ودول مختلفة فرض عليها ترامب مزيداً من الرسوم الجمركية لاستعادة الاستثمارات الأميركية إلى موطنها، والإتيان بمزيد منها من دول الخليج ومن صناديق استثمارية دولية مختلفة لإنعاش اقتصادها وتوفير الظروف التي تُخفّض نسبة البطالة التي اقتربت من أرقام قياسية سلبية جداً لم تعرفها الولايات المتحدة من قبل.
أمّا بالنسبة إلى براك فهو كان سيزور بيروت بمعزل عن العمليات العسكرية التي استجدّت، فمهمّته محدّدة على مسارات أخرى، ولا سيما منها تلك الخاصة بما يمكن أن ينتهي إليه فكّ العقوبات عن سوريا ومعالجة آثار الحرب السورية المدمّرة على بلدان الجوار، ولبنان أحدها، وهو قد يكون الأكثر تأثراً بنتائجها على مدى 13 عاماً عانى خلالها من الآثار السلبية للحروب المتعدّدة الوجوه وما تسبّبت به من موجات نزوح، عدا عن الإنهيار الاقتصادي الذي قاد إليه تزلّف المسؤولين اللبنانيِّين للنظام السابق وصرف المليارات من الدولارات في سياسة الدعم لتهريب المحروقات والمشتقات النفطية المختلفة والمواد الغذائية ومثيلاتها إلى سوريا، التي كانت لها انعكاساتها الخطيرة على البلدَين معاً. فسوريا بعد سقوط نظام الأسد كانت مهدّدة بالتحوّل إلى مجموعة كانتونات مذهبية وعشائرية، وكان لا بُدّ من مساعدة الشرع في تعزيز نفوذه وتشكيل الأجهزة الضامنة لتوفير الحدّ الأدنى من الأمن والحركة الاقتصادية التي تُنعِش البلد بعد فك العقوبات المختلفة.
ولذلك، كان براك واضحاً في تحذيره من 3 أمور حملتها رسائله المقتضبة وهي:
– التحذير من أي عملية عسكرية يمكن أن يقوم بها «حزب الله» بما بقي لديه من أسلحة ثقيلة يمكن أن تطاول إسرائيل بعد إفراغه جنوب لبنان، بالتزامن مع القصف الإيراني. لأنّ أي خطوة «انتحارية» من هذا النوع ستزيل من أمام إسرائيل أي عائق لتجديد العمليات العسكرية غير التقليدية على مساحة لبنان، وقد تطاول هذه المرّة المنشآت العامة الحيَوية للدولة ومرافقها ومؤسساتها عدا عن بيئة الحزب. فالحُكم بكامله بات هدفاً بعدما ورثت حكومته الأولى ما تبنّته سابقتها، وخصوصاً ما انتهى إليه تفاهم 27 تشرين الثاني 2024 الذي صاغه رئيس مجلس النواب نبيه بري بالإنابة عن «الثنائي الشيعي»، وتبنّى العهد الجديد ما يُسمّيه الأميركيون «الهزيمة» التي لحقت بالحزب وكل ما تعهّد به الثنائي المفاوض.
– لا يمكن الربط نهائياً بين مصير الإجراءات المطلوبة من لبنان على كل المستويات وبين ما يمكن أن تنتهي إليه الحرب على إيران. فلن تتكرّر التجارب السابقة للحفاظ على أي من أذرعها في المنطقة. فلبنان كما العراق وسوريا واليمن في مرحلة لاحقة ستكون بلداناً خالية من أي قوة مرتبطة بإيران بأي شكل من الأشكال. وأي رهان يمكن أن تنتهي إليه أي مفاوضات مقبلة مع طهران لن تكون شبيهة بما انتهى إليه الاتفاق النووي عام 2015 بين إيران ومجموعة الـ 5+1، الذي سمح لها بالتمدّد بأذرعها في الخارج وحمايتها.
– إنّ أي إجراءات عسكرية أو أمنية لن تكتمل فصولها، ما لم تنتهِ إلى ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا وتثبيت البوابات الشرعية وإقفال غير الشرعي منها لضبط الوضع ضماناً لأمن البلدَين. فالحكومة السورية الجديدة ملتزمة بمواجهة تجار المخدّرات وأعمال التهريب وأي أعمال غير قانونية راهن النظام القديم على تمويل قوّاته من خلالها بما يتراوح بين 4 و7 مليارات دولار في السنوات الأخيرة. وهو أمر سينسحب فوراً على مستوى تثبيت وتحديد الحدود الدولية مع إسرائيل وفق الآليات السابقة، وإنّ الأمر رهن انتهاء الحرب الأخيرة للتفرّغ لهذه المهمّة، وبذلك يزول الاحتلال الإسرائيلي مع نهاية التفاهمات الأخيرة.
عند هذه المستويات تلاقت المراجع العليمة على قراءة نتائج زيارة براك، وتوصّلت إلى اقتناع بأنّ مهلة الأسابيع الثلاثة هي المهلة المقدّرة لإنّهاء الحرب على إيران، لتكون المهلة الأخيرة لإطلاق يَد الحُكم في لبنان لتنفيذ كل ما تقرّر، وما يُشكّل أولى الإشارات إلى استعادة حضوره الدولي، وبداية أعمال إعادة الإعمار متى أزيلت العوائق من أمام رأس المال الجبان الذي يخشى المغامرات والسلاح غير الشرعي. فلبنان كان وسيبقى من ضمن مهمّات قيادة المنطقة الوسطى الأميركية متى أنهى براك مهمّته. وليس مستغرباً أن تعود مورغن أورتاغوس إلى موقعها وإحياء عمل اللجنة الخماسية العسكرية لأنّها الذراع العسكرية الموازية لمهمّة أورتاغوس أو مَن يخلفها، إن لم تتسلّم في الفترة الفاصلة عن هذه المرحلة أي مهمّة أخرى.