
مجلة وفاء wafaamagazine
كتب مبارك بيضون في “اللواء” :
في خضم التحوّلات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، تبرز محافظة السويداء جنوب سوريا كبقعة مشتعلة ضمن مشروع إقليمي يتجاوز الصراعات الداخلية، ويصل حد تغيير موازين القوى على الأرض، إذ لم تعد العمليات العسكرية والهجمات المتفرّقة التي تشهدها المنطقة معزولة أو محلية، بل هي جزء من مُخطّط أوسع تسعى إسرائيل عبره، إلى فرض واقع أمني يخدم مصالحها في الجنوب السوري، وامتداداً إلى جنوب لبنان والجولان المحتل.
ويؤكد المطّلعون على بواطن الأمور، أن ما يجري اليوم في السويداء ليس صدفة، بل هو امتداد لسياسة إسرائيلية ممنهجة هدفها «إخلاء» المنطقة من أي وجود مُسلّح يعارض توجّهاتها، تمهيداً إلى إنشاء منطقة عازلة خالية من أي وجه من الفصائل المقاوِمة، سواء كانت تابعة للدولة السورية أو للمحور المقاوم.
رُبَّ سائل يسأل عن أهمية محافظة السويداء السورية، ذات الغالبية الدرزية، فإنّ الجواب يتمثّل بموقعها الجغرافي، وما تُشكّله من «خاصرة رخوة» في عمق الخارطة السورية، كونها ترتبط مباشرة بالجولان المحتل، وتجاور الجنوب اللبناني الذي لطالما شكّل مصدر قلق استراتيجي لتل أبيب، في ظل وجود حزب االله الذي تصنّفه إسرائيل «الخطر الأكبر» على أمنها.
توازياً تُعدّ طائفة «الموحدين الدروز» في الجولان والداخل السوري إحدى أبرز المكوّنات التي تسعى إسرائيل لاستثمارها، فعدد غير قليل من الدروز يخدمون في جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويُنظر إليهم كعنصر موثوق به من قِبل المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، ما يمنح تل أبيب قدرة إضافية للتأثير والتحرّك داخل النسيج المجتمعي في السويداء والجولان.
ومع تصاعد الهجمات ضد القرى والمواقع الدرزية، استغلت «الدولة العبرية» الموقف، وحاولت تظهير نفسها «حامية للأقليات»، من خلال توظيف هذه الصورة في خطاباتها الديبلوماسية تجاه الغرب، خصوصاً أوروبا، التي تتحسّس كثيراً من قضايا الأقليات والاضطهاد الطائفي.
من هنا، تشير المُعطيات الميدانية إلى تحرّكات دقيقة تقوم بها إسرائيل عبر أدوات مُتعدّدة، منها دعم فصائل محلية، وتأجيج الصراعات البينية، واستهداف مكوّنات اجتماعية مثل الطائفة الدرزية، في محاولة لتفكيك البنية الداخلية للمنطقة، وهو ما يجعل الفصائل المناوئة للنظام أو القريبة منه أمام موقف مُعقّد، كونها أصحبت «بيادق شطرنج» على رقعة الصراع الإقليمي الذي تتداخل فيه مصالح إسرائيل، تركيا، الولايات المتحدة، وبعض الأطراف العربية.
والمقلق في هذا السياق، أنّ القيادة السورية الرسمية تلتزم صمتاً غير مفهوم، مع الاكتفاء بإصدار بيانات شجب واستنكار، دون اتخاذ خطوات عملية لحماية المواطنين أو مواجهة التمدّد الإسرائيلي غير المباشر. هذا الصمت، بحسب «مصادر مُطّلعة» يدلّ على وجود تفاهمات ضمنية أو «ضوء أخضر» لبعض هذه العمليات التي تمهّد لإعادة ترتيب المشهد جنوب البلاد.
لذلك لا يمكن فصل ما يجري في جنوب سوريا عن الأزمة السياسية العميقة داخل إسرائيل. إذ يرى مراقبون أنّ القيادة الإسرائيلية، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، تسعى إلى تصدير أزمتها السياسية نحو الخارج، عبر فتح جبهات جديدة، وتوسيع رقعة الصراع بما يسمح بإعادة لملمة الجبهة الداخلية المتصدعة. وفي هذا الإطار، فإنّ إشعال الجنوب السوري يخدم إسرائيل من ناحيتين: أولاً، بتخفيف الضغط عن الجبهة الشمالية في لبنان، وثانياً، بتأمين منطقة تماس تمتد من الجولان إلى القنيطرة، فالسويداء، تكون تحت نفوذها أو نفوذ قوى محلية حليفة لها.
وطبعاً، التحرّك الإسرائيلي لا يتم بمعزل عن أطراف إقليمية ودولية أخرى، فتركيا تراقب ما يجري عن كثب، وتسعى لإعادة تثبيت نفوذها في بعض المناطق السورية عبر الفصائل التي تموّلها وتديرها، خصوصاً بعدما خسرت العديد من الأوراق عقب تقلب مواقف الحلفاء.
أما الولايات المتحدة الأميركية فتمسك بخيوط اللعبة بشكل غير مباشر، من خلال دعم بعض الفصائل الكردية والدرزية، والتحكّم بملف التسوية السياسية في سوريا عبر «مفاوضات اللا حل» المستمرة. ولا يغيب عن المشهد أيضاً بعض العواصم الخليجية التي تسعى، منذ سنوات، للعب دور في المعادلة السورية، سواء من خلال تمويل فصائل، أو محاولة ضمان حصة سياسية في أي تسوية مستقبلية محتملة.