
مجلة وفاء wafaamagazine
كتب محمد همدر في “بي بي سي عربي – بيروت” :
احتشد محبو زياد الرحباني صباح اليوم، أمام المستشفى الذي فارق فيه الحياة أول من أمس، لإلقاء نظرة أخيرة على نعشه، قبل التوجه لتشييعه في مسقط رأسه.
الدعوات إلى التجمع أتت بمبادرة من أصدقائه، دون الإعلان عن أي تشييع شعبي منظّم أو حداد رسمي من قبل الحكومة.
وسادت على وسائل التواصل الاجتماعي مطالبات بإعلان يوم التشييع يوم حداد رسمي، بقيت من دون استجابة.
لبنان يودّع زياد الرحباني أحد أبرز أقطاب الفن العربي الحديث

زياد في ذاكرة الأجيال
استطاع زياد الرحباني أن يحفر أعماله الموسيقية والمسرحية والإذاعية، في ذاكرة أكثر من جيل.
هناك أجيال عرفته وحفظت مسرحياته بدون مشاهدتها. وحافظ على مكانته الفنية لدى الناس، من أول أعماله حتى آخرها، وردّدت جمل زياد وعباراته كأنها أمثالٌ شعبية.
مكانة زياد لدى محبيه، والإجماع على حبّ أعماله الفنية، صنعهما زياد بعيداً عن انتمائه إلى عائلة الرحابنة، وتحديداً منزل السيدة فيروز وزوجها الموسيقار عاصي الرحباني.
فرغم الجدل والانقسام القائم حول أفكاره ومواقفه السياسية وآرائه الحادّة والصريحة للغاية، تمكّن الرحباني عبر فنّه من خلق هذا الإجماع، وأن يحافظ على هذه المكانة من جيل إلى جيل.
الموسيقي الشامل والعالمي
وُصف زياد بالثائر على إرث الأخوين الرحباني الموسيقي (عاصي ومنصور)، لكنه لم ينكر يوماً فضل هذا المنزل على موهبته، إذ قال إنه في الموسيقى، ورث عن عاصي كلّ شيء.
فيمكن العثور على صوت وأسلوب الرحابنة في ألحانه الأولى مثل “سألوني الناس” و”قديش كان في ناس”.
في مرحلة لاحقة، يمكن القول إنّ زياد خرج من عباءة الرحابنة بشكل كامل، فكان التجديد جلياً في الألحان والكلمات والمسرحيات.
ورغم الانتقادات التي وُجهت له مع بداية تلحينه وكتابته لوالدته فيروز، بعد وفاة والده عاصي، إلا أنّ لزياد فضلاً في اختزال المسافة بين فيروز والأجيال الجديدة.
لحّن زياد الكثير من الأنماط الموسيقية المختلفة، من الطرب الشعبي اللبناني والمصري إلى الموسيقى الكلاسيكية والفانك والجاز، الذي ترك فيه بصمته الخاصة جداً، منذ بداية الثمانينيات.
كما لحّن أناشيد دينية وأناشيد سياسية وثورية، وكتب كلماتها.
كان واقعياً إلى أبعد تقدير، حتى في أغانيه الرومانسية. هذه الواقعية في اختياره لكلمات أغانيه ونصوصه هي ما ميّزه عن الرحابنة الآخرين.
تحوّلت أغنية “بحبك بلا ولا شي” إلى نوع من دعوة إلى علاقة حب طبيعية لا اصطناع فيها، ولا تبرّج ولا حتى ملابس: “ولا فيه بهالحب مصاري، ولا ممكن فيه ليرات، ولا ممكن فيه أراضي، ولا فيه مجوهرات”.
وفي ألبوم “مونودوز”، عاتبت امرأة زياد حبيبها على رسالة حب فيها الكثير من المبالغات، فقالت “ما منيحة الرسالة ولا الحب الخيالي”.
وثار زياد حتى على الأغنية الوطنية التي تميّز بها الرحابنة، وعلى الفولكلور الذي تجدّد مع عائلته.
كتبت عنه نيويورك تايمز عام 1988، مقالاً تناول موسيقاه في الجاز تحت عنوان “الجاز الشرقي”.. هذه التسمية سقطت لاحقاً، وأصبح كل ما يؤلفه أو يعيد توزيعه، مصنَّفاً تحت اسم “موسيقى زياد الرحباني”.
موسيقى زياد ليست مجرد لقاء بين آلات غربية وشرقية. ويصعب تصنيفه في لون محدد عند سماع مقطوعات مثل “أبو علي”، “ميس الريم”، “بالنسبة لبكرا شو”، “هدوء نسبي” والتي لا تشبه واحدة منها الأخرى.
بعد إعلان وفاته، كتبت عن رحيله نيويورك تايمز مرة أخرى، وواشنطن بوست ولوموند الفرنسية وصحف ومواقع عالمية أخرى.
أمراض داخلية مزمنة
في الأغنية السياسية، انحاز زياد بوضوح للعدالة الاجتماعية وللأفكار اليسارية. انتقد السياسي، لكنه انتقد أيضاً المواطن الفرد والمواطنين الجماعة.
كلامه في السياسة رافقه تشريحٌ للمجتمع. هاجم الطبقات السياسية والسلطة والأحزاب والمسؤولين مع توجيه نقد ساخر إلى المجتمع الذي خرج مِن رحمِه هؤلاء.

كان سياسياً في موسيقاه وفي أعماله حتى في نشاطه ومواقفه. لم يُعفِ أحداً من النقد، لا اليمين اللبناني الذي هاجمه بشدة قبل وخلال الحرب الأهلية، ولا اليسار التقليدي الذي انتقده، أو اليسار الليبرالي والأحزاب الدينية.
أفكاره السياسية كانت دافعاً في ترك منزل والديه وانتقاله إلى القسم الغربي من بيروت – كانت بيروت مقسومة خلال الحرب إلى شرقية وغربية – حيث التنوع السياسي يشمل الأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية.
كل طرف سياسي أراد أن يكون زياد منه وله.
كان قريباً جداً من الحزب الشيوعي اللبناني، يشارك في احتفالاته السنوية ويقدم له الأناشيد والأغاني ثم ابتعد عنه وانتقده في الإعلام. ناصر حزب الله لا سيما بعد حرب عام 2006، وعاد وانتقد تعامُلَ الحزب مع الملفات الداخلية وبخاصةٍ المعيشية منها.
وحين عرض آراءه بشأن الانتفاضة السورية عام 2011، تعرّض لانتقادات واسعة.
لم يعلّق زياد أو يظهر أيضاً في المظاهرات التي طالبت بإسقاط النظام اللبناني عام 2019.
إذ كان زياد فقد الأمل في إحداث أي تغيير إيجابي في النظام اللبناني منذ مسرحية “فيلم أمريكي طويل” في بداية الثمانينيات.
في كلمات واحدة من أغاني هذه المسرحية، “راجعة بإذن الله”، التي يتحدث بها عن عودة الحرب، يقول “بلد ظابط متل ما هو هيدا هو هيدا ياه، باسم الأب وباسم الله”. وفي أغنية أخرى يقول “قوم فوت حلام أنه بلدنا صارت بلد، هي مش بلد…”.
كرّر هذه الأفكار لاحقاً في جميع لقاءاته التلفزيونية والإذاعية. وفي بعض أعماله الإذاعية الخاصة، بقي مُصِرّاً على أنه لا أمل في لبنان.
تهكّم في احدى الحلقات الإذاعية، قائلاً إنه قام بالإبلاغ عن أحدهم، لأنه ما زال متمسكاً بالأمل، داعياً إلى “عدم ترك هؤلاء بيننا”.
يصف ذلك أيضاً في مقطوعة موسيقية منذ الثمانينيات بعنوان “أمراض داخلية مزمنة”، قاصداً لبنان، البلد الذي يعاني من مشاكل لن تنتهي بحسب زياد.
كان زياد بمثابة جرس الإنذار الوحيد بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، دائم التشاؤم، محذراً من عودة الحرب في أي لحظة، وواصفاً “الحرية” التي يتغنى بها اللبنانيون مقارنة بدول عربية، بأنها “فوضى وليست حرية”.
كان زياد أيضاً معارِضاً شديداً للمشاريع الاقتصادية التي ظهرت أعقاب انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية.
مسرحيات نسمعها ونحفظها دون أن نشاهدها
واكب جيل السبعينيات والثمانينيات مسرحيات زياد عند عرضها، وتحديداً نزل السرور (1974)، بالنسبة لبكرا شو (1978) – تناول خلالهما الأوضاع قبل الحرب الأهلية – وفيلم أميركي طويل (1980) وشي فاشل (1983)، اللتين تناولتا الحرب وعُرِضتا خلالها.
وعرف أكثر من جيل هذه الأعمال وحفظها وتفاعل معها من خلال سماعها مسجلة فقط. هذه القدرة على نقل أعمال مسرحية من جيل إلى آخر من خلال الصوت فقط، تفرّد بها الرحابنة، وخاصة زياد، وتحديداً مع جيلين وُلِدا خلال الحرب وبعدها.
كتب زياد هذه المسرحيات وأخرجها ووقف ممثلاً على خشبة المسرح في دور البطولة. مسرحيات اجتماعية وسياسية ساخرة، تحولت مقاطع عديدة منها إلى نكات وعبارات يستخدمها اللبنانيون بشكل عفوي وتلقائي في يومياتهم.
في “نزل السرور” (1974)، توقّع انفجار الوضع، واندلعت الحرب الأهلية اللبنانية بالفعل بعد عام فقط على عرضها.
في “بالنسبة لبكرا شو” (1978)، ركّز على الوضع الاقتصادي الذي سيدفع باتجاه الحرب.
في “شي فاشل” (1983)، صَوّر اللبنانيين وكأنهم فريق عمل مسرحي غير متجانس، لا يمكنهم التعايش مع بعضهم البعض حتى كذباً.
مسرح ما بعد الحرب
بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، أخرج عملين مسرحيين، هما “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” 1993، و”لولا فسحة الأمل” 1994.
عملان بلغة مسرحية جديدة ومختلفة عن أعماله السابقة، لم يُعجب بهما قسمٌ كبيرٌ من جمهوره. كان زياد يتحدث في بداية التسعينيات عن ما يجري بعد العام 2000. بعد العام 2005، استعاد المشاهدون مقاطع من هذه الأعمال وكأنها تعكس واقعاً تنبأ به الرحباني.
هنا تحدث زياد عن مجتمع ما بعد الحرب في لبنان، وتحوُّل دوره من مواطن إلى ضابط أمن، يحاول جاهداً السيطرة على الوضع في الشارع، والحفاظ على صورة “السلم الأهلي”.
في ملحق خاص نشرته مجلة “الآداب” الفكرية عن زياد الرحباني، وصفته بـ”صائد التحولات والانكسارات”.
في أول مقابلة تلفزيونية طويلة أطلّ خلالها زياد الرحباني في جزأين مع الزميلة الراحلة جيزال خوري على قناة محلية عام 1997، تعرَّف جيل ما بعد الحرب على شخصية الموسيقيّ والمسرحيّ الذي صمدت أعماله من خلال الكاسيت والإذاعة.
بعض الاتصالات التي كان زياد يتلقاها خلال الحلقة، كانت من مواطنين يسألونه عما سيجري، وإن كانت الحرب ستعود أم لا?

إلى جانب المسرح والموسيقى، أطلّ زياد خلال الحرب الأهلية اللبنانية، على إذاعة “صوت الشعب”، في أعمال إذاعية ساخرة وناقدة، عرض من خلالها يوميات الحرب، “العقل زينة”، “بعدنا طيبين قولوا الله”، و”تابع لشي تابع لشي”.
تحوّلت هذه الأعمال إلى صُوَر لذكريات عاشها اللبنانيون يومياً في حرب أهلية دامت نحو 15 عاماً. كما أظهرت هذه الأعمال الوجه العنيد لزياد، المشاكس والمشتبك مع جميع الأحزاب والميليشيات والقوى اللبنانية وغير اللبنانية المسيطرة على الأرض.
لم يعد زياد إلى المسرح كاتباً ومخرجاً بعد منتصف التسعينيات، بسبب عدم توفر تمويل أو منتج، كما قال في أكثر من مقابلة، وأحياناً لأنه لم يكن يعلم عن ماذا سيكتب.
واجه زياد العديد من الانتقادات، بسبب فكره السياسي وأحياناً للاعتراض على عمل موسيقيّ أو مسرحية، لكنّ ذلك لم يزحزح مكانته، ولا الإرث الفني الكبير والمتنوع الذي يمثّله.
لم يكن زياد بحاجة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لتواكبه الأجيال الجديدة، لم يملك يوماً أي حساب على أي منصة. إلا أنّ وسائل التواصل الاجتماعي لطالما كانت تضجّ بعباراته الساخرة وبمقاطع من مسرحياته وأغانيه عند أي مناسبة أو حدث يُذكّر بكلامه.
هذه ميزة في فنّ زياد، الموسيقيّ والمسرحيّ والساخر الآتي من زمن ما قبل الحرب، ومن جيل الأسطوانة والكاسيت والإذاعة، والذي صمد فكره وأعماله رغم كل هذه التحولات.