مجلة وفاء wafaamagazine
ميرنا طه
من الصين مروراً بدول العالم منذ تفشيه لليوم لا يزال فيروس كورونا ينتج آثاره السلبية الإنسانية و الإقتصادية أيضاً. فقد ألحق دمارا بالاقتصاد العالمي حتى أصابه بالشلل، عرقل الإنتاج والإمداد والنقل الجوي عبر العالم، وأضعف الطلب العالمي، وعزل دولاً ووضعها تحت الحجر الصحي، وأخرى تحت حظر التجول، وأصاب قطاعات المال والطيران والنقل والسياحة بخسائر فادحة. لقد تحول انتشار وباء الكورونا عالمياً، إلى أزمة دولية دخلت فيها معظم دول العالم، حيث أخذ يحصد أرواح عشرات الالاف، ويهدد حياة سكان الكرة الأرضية، ما جعلنا نطلق عليه حرباً عالمية ثالثة ستؤثر في مجمل الأحداث الدولية أو رسم معالم الخارطة السياسية والاقتصادية مجدداً.
هناك عدة قنوات يؤثر من خلالها فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي، منها :
1- التبادل التجاري، إذ يؤدي إلى إعاقة الإنتاج وعرقلة الإمداد وإضعاف الطلب العالمي، ومنه الطلب على الطاقة
إذ توقع خبراء الاقتصاد بأن النفط سيخسر أكثر من ٥٠% من قيمته جراء انتشار الوباء.
2- الترابط المالي، وقد طال تأثيره المادي والمعنوي أسواق المال العالمية التي شهدت انهيارات وأسوأ أداء منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، وبهذا تعطي أسواق المال مؤشرا سلبيا على شعور المستثمرين بتوجهات تأثير الفيروس على الاقتصاد العالمي حيث ذكر غولدمان ساكس أن التراجع في الاقتصاد العالمي سيفوق ما تسببت به الأزمة المالية العالمية لعام 2008 من خسائر.
3- السياحة والنقل، إذ خفض معدل الرحلات وأغلق العديد من المطارات حول العالم، فهو يؤثر على العرض والطلب العالميين كما و من المتوقع ان تبلغ خسائر شركات الطيران الخليجية 7 مليار دولار .
أما على مستوى الاقتصاد المحلي للدول فيؤثر الفيروس من خلال:
1- إعاقة النشاط الاقتصادي، وذلك عبر إعاقة الإنتاج والخدمات والمواصلات والنقل والسياحة والتسوق، وإضعاف العرض والطلب.
وهناك مدن وضعت تحت حظر التجول وتحولت إلى مدن أشباح كما شهدنا في الصين وإيطاليا، والعدد آخذ في الازدياد حول العالم .
2- تكاليف التصدي والاحتواء، من إنقاذ ودعم وإجراءات احترازية لقطاع الصحة والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية بتكاليف باهظة وآخذة في الارتفاع.
وحصيلة ذلك سيصيب الفيروس الاقتصاد العالمي بالشلل الأكيد ، إذ هناك توقعات بحدوث انكماش في اليابان وركود في فرنسا، و ان تصل خسائر ايطاليا الاقتصادية نتيجة لتوقف الانتاج الى ١٠٠ مليار يورو شهرياً كما سبق وصرّح رئيس اتحاد الصناعات ، و أن يخسر الاقتصاد الاميركي ما يقارب 1.5 تريليون دولار حسب ما ذكرت وول ستريت جورنال ، كما و أن هناك دعما ماليا ضخما في ألمانيا حيث صرّح رئيس مركز الأبحاث الاقتصادية “إيفو” (كورونا سيكلف ألمانيا ما يقارب 785 مليار دولار أميركي) ، وإغلاقا للمناطق الصناعية في شمال إيطاليا، وخفضا طارئا لأسعار الفائدة إلى حدود الصفر في بريطانيا وأميركا، مع ضخ سيولة هائلة لإنقاذ القطاع المالي ودعم الاقتصاد في أميركا .
هل يعتبر العالم اليوم على مشارف أزمة مالية عالمية جديدة؟
كل ذلك يعيد بنا الذاكرة الى الازمة المالية العالمية التي انفجرت في سبتمبر 2008، و التي اعتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929م، حيث بدأت أولاً بالولايات المتحدة الأمريكية ثم امتدت إلى دول العالم لتشمل الدول الأوروبية والدول الآسيوية والدول الخليجية والدول النامية التي يرتبط اقتصادها مباشرة بالاقتصاد الأمريكي، وقد وصل عدد البنوك التي انهارت في الولايات المتحدة خلال العام2008م إلى 19 بنكاً، كما توقع آنذاك المزيد من الانهيارات الجديدة بين البنوك الأمريكية البالغ عددها 8400 بنكاً.
و بالرغم من اختلاف الأسباب ما بين أزمة 2008 و الأزمة المالية المتوقع وصول العالم إليها اليوم إلا أن خبراء الإقتصاد عمدوا الى اعتبار الخسائر المالية و الاقتصادية المتوقعة ستفوق تلك التي نتجت عن أزمة 2008.
حيث أنه ماليا، تواصلت انهيارات أسواق المال العالمية والإقليمية، بتراجعات هي الأسوأ منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008. ورغم تدخل البنك المركزي الأميركي بخفض أسعار الفائدة إلى صفر لتحفيز الطلب وضخ 700 مليار دولار، والدخول في برامج مبادلة مع البنوك المركزية الرئيسية لتوفير السيولة الدولارية حول العالم، وتجنب شح السيولة وتجمد أسواق المال فإن رد أسواق المال جاء معاكسا بالمزيد من الارتباك والانهيارات المدفوعة بقلق من الدخول في انكماش اقتصادي عميق، فقد فقدت البورصة الأميركية ما يزيد على 11 تريليون دولار من قيمتها السوقية منذ تفشي كورونا.وفي دول مجلس التعاون كان التراجع في أسواق المال هو الأسوأ منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية بما يزيد على 24%.
وتقع دول مجلس التعاون تحت تأثير ضغط مزدوج ناتج عن أزمة كورونا وانهيار أسعار النفط اللذين سيشكلان تحديا كبير لحكومات المنطقة.كونه لانهيار أسعار النفط تأثير سلبي على مزاج المستثمرين من خلال إضعاف الثقة واليقين، وتأثير مادي من خلال انخفاض مداخيل النفط وتأثيرها على الإنفاق العام والأداء الاقتصادي والنمو، وبالتالي أيضا على أداء الشركات وأرباحها.
وليس من المفاجئ أن يصرح غوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، عند سؤاله عن تكرار أزمة 2008 قائلاً «إننا نواجه خطر الانزلاق نحو أزمة مستقبلية، يجب أن ننتبه انتباهاً شديداً للمخاطر المتصاعدة، ولكننا نعيش في عالم بلا قيادة، التعاون الذي رأيناه في 2008 لن يكون ممكناً في أزمة ما بعد 2018 من حيث عمل البنوك المركزية والحكومات معاً، كل ما سنفعله هو إلقاء اللوم على بعضنا البعض بدلاً من حل المشكلة».
بناءً على ذلك، من المتوقع أن يجلب عام 2020 معه أزمة اقتصادية وسياسية عالمية لا نظير لها. ذلك لأنه ليست السياسات الاقتصادية غير المنسقة للاقتصادات المتقدمة هي ما تساهم في هذه الأزمة فقط، بل أن القرارات السياسية الخاطئة والسياسات غير الرشيدة ستمهد الطريق لحدوث محنة اقتصادية كبرى.
و في ظل الصراع المالي ، النفطي، و التكنولوجي ، ومع ازياد آثار الوباء السلبية على البشر و الاقتصاد و الدول، ألا نعتبر اليوم أمام تحول واضح في النظام العالمي؟ و ماذا عن فشل المنظومة الغربية الأميركية في قيادة العالم ؟
من السنن الكونية حدوث تحوّلات في الأنظمة السياسية والاقتصادية وبخاصة عقب الحروب أو الانقلابات أو الأوبئة، وما نشهده اليوم من وباء عالمي وكأنه حرب عالمية ثالثة تختلف عن الحروب التقليدية. خاصةً أنه أصبح فرصة دولية تقتنصها دول فترتفع مكانتها، ويزداد ثقلها الدولي، في المقابل فإنه تحول إلى عبء ثقيل على دول أخرى منها من دخلت في كارثة فعلية على كل المستويات، وأخرى من قد تفقد مكانتها، ويتراجع تأثيرها الدولي.
حيث هناك دولاً كثيرة خاصةً تلك الغربية، ستكون بحاجة إلى سنوات لتلملم جراحها، والبعض منها كنا ننظر إليها على أنها ذات تأثير عظيم وتقدم هائل، فسجّلت الصين مثلاً تفوقاً واضحاً في تعاملها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً معه، فيما دولاً أخرى كالولايات المتحدة الأميركية أظهرت تخبطاً واضحاً في تعاملها بالداخل والخارج وظهرت في موقف الدولة الانتهازية الأنانية التي لا تبحث إلا عن مصالحها، على عكس الصين التي أثبتت تفوقاً تاماً في الداخل وتفاعلاً كبيراً في مد يد العون إلى الخارج، فيما ظهرت أوروبا كقوة دولية مُتراخية وضعيفة وغير مُتماسكة وغير مُتعاونة وغير جادة في مُواجهة المرض منذ بداية ظهوره.
وفق ما تقدم فإن انتشار كورونا أصبح أبرز حدث عالمي يفصل مرحلتين ما قبله وما بعده، حيث سيكون ما بعد كورونا عالماً مملوءاً بالمتغيرات والتحولات المتوقعة على الصعد كافة، وخاصةً التغيرات التي ممكن أن تطال النظام الدولي، بعد أن كشفت هشاشته وتخبطه وعدم توازنه، وأظهرت عجزه أمام مراعاة قضايا الصحة والسلامة والوعي البيئي.
وفي ذروة هذا التحوّل، تتّجه أنظار العالم نحو الصين. الدولة التي لم تعُد منكفئة على ذاتها، والتي أصبحت جاهزة لمقارعة الهيمنة الأميركية، بعدما بات على الأخيرة أن تتقبل فقدانها الأحادية في النظام الدولي. فالصين تتقدم حاليا لتحظى بقيادة العالم في الوقت الذي تفشل فيه الولايات المتحدة بعد تحول وباء كورونا الى حدث عالمي . وقد أشار الكاتبان الأميركيان كورت م. كامبل وروش دوشي في مقالة لهم إلى أنه في الوقت الذي تُعتبر فيه النتائج الجيوسياسية لكورونا ثانوية مقارنة بالنتائج على صعيد الصحة والسلامة، فإن النتائج الجيوسياسية ستأخذ أهمية كبيرة على المدى الطويل، خاصة بالنسبة للوضع الدولي للولايات المتحدة، فالنظم العالمية تميل إلى التغيّر التدريجي بداية الأمر، ثم تتغيّر بالكامل في لحظة واحدة.
ففي عام 1956 كشف تدخل فاشل في قناة السويس اضمحلال بريطانيا العظمى وسجل نهاية نفوذ المملكة المتحدة كقوة عالمية. وكذلك شكل سقوط جدار برلين مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي وتحول النظام الدولي إلى الأحادية، فهل سيسجل وباء كورونا لحظة سويس أخرى، وتعتبر لحظة التحول هي لمصلحة الصين؟