مع أن الأسبوع الأول على التكليف لم ينقضِ بعد، رغم اجتماعين متتاليين بين الرئيس المكلف سعد الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون غداة انتهاء مشاورات التأليف ــــ وهذا قلّما يحدث في أحوال مشابهة ــــ لا معطيات فعلية تشي بعلاقة وثيقة ما بين الكتمان والعجلة. لم يتبقّ سوى القليل من المكتوم، ولا أهمية للعجلة التي استنفدت سرعتها قبل التكليف.

كل ما يشاع عن تأليف الحكومة حتى الآن لا يشير الى ما يختلف عن صورة حكومة الرئيس حسان دياب، سوى رأسها. كالسلف، يدور الخلف في لعبة التنازلات البطيئة المتدرّجة، بعدما تيقّن من أن الشروط العالية السقف التي وضعها لموافقته على ترؤس الحكومة تصلح للتكليف لا للتأليف: من حكومة من 14 وزيراً الى حكومة من 20 وزيراً إن لم يكن أكثر، من وزراء اختصاصيين فحسب الى وزراء اختصاصيين مطعّمين بسياسيين أو يحرّكهم سياسيون، من مداورة شاملة الى مداورة تلحظ استثناءات، من إصرار على أن يكون الرئيس المكلف وحده صاحب اختصاص تسمية الوزراء الى تسليمه بأن تكون هذه منوطة بالكتل. ما باتت عليه الآن ملامح ما بعد التكليف، أقرب ما يكون الى خليط بين ما رفضه دياب قبل تأليفه حكومته ثم قَبِل به على مضض، وما اشترطه من بعده الرئيس المكلف مصطفى أديب ثم اعتذر بسببه. وقد تكون الشطارة التي يوحي بها تمكّن الحريري من العودة الى السرايا للمرة الرابعة، أنها الآن ليست من صنعه هو، بل من صنع سواه.

تكمن هذه الشطارة في بضع معطيات:
أوّلها، أن رصيده عند الثنائي الشيعي أكثر مما توقّعه خصومه ومؤيّدوه على السواء. لم يسبق للثنائي منذ عام 2005 على الأقل، أن دلّع زعيماً سنّياً على نحو ما فعل مع الحريري مرة تلو أخرى، رغم الخيبات. اختبره طويلاً منذ ما بعد اتفاق الدوحة على أنه الطرف الوحيد القادر على الحؤول دون فتنة سنّية ــــ شيعية، مقدار ما يسعه افتعالها. سبق له أن افتعلها قبل الوصول الى أحداث 7 أيار 2008، ولم يعاود مذذاك المحاولة. منذ وصول الحريري الى رئاسة الحكومة عام 2009، لم يتسبب في أزمة مع الثنائي الشيعي، وحزب الله خصوصاً، سوى مرتين فقط: أولى في كانون الأول 2010 بسبب المحكمة الدولية وشهود الزور أدت الى إطاحة حكومته بالثلث + 1، وثانية في تشرين الثاني 2017 عندما أرغمت الرياض الحريري على مهاجمة حزب الله بعنف وإدانته ومن ثم استقالته. لذا، قلّما أقلق وجود الحريري في السرايا الثنائي الشيعي الذي أدرك أيضاً ــــ كلّما افترقا ــــ تعثّر محاولة تعويضه كما حصل مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011 وحكومة دياب عام 2020، وكلاهما استثناءان في علاقة الثنائي برئيس تيار المستقبل الذي لم يقطع بدوره خطوط الحوار مع حزب الله.

من ذلك، الاعتقاد الجازم بأن الحليف السنّي الحقيقي للثنائي الشيعي هو الحريري دون سواه، أيّاً تكن الشخصيات السنّية الأخرى الجالسة على ضفافه. لم يُرد الثنائي يوماً، هو القابض على لعبة التوازن السياسي والعسكري في الشارع والسلطة، منح أيّ من حلفائه فرصة توكيد ذات سنّية جديدة تخلف الحريري أو تتصرّف كأنّها ندّه.
ثانيها، لم يكن مخفيّاً الدور الذي اضطلع به رئيس المجلس لتسهيل عودة الحريري الى رئاسة الحكومة، بدءاً من مرحلة ما قبل التكليف من أجل حصوله على عدد لائق من الأصوات. ليس مخفيّاً أيضاً أن برّي هو الأب الفعلي لإطاحة حكومة دياب عندما دعاها الى المثول أمام مجلس النواب. في المقابل، تحقّق الحريري ــــ الراغب في العودة الى السرايا بأيّ ثمن ــــ من أن لا سبيل إليها قبل إبرام تفاهمه مع الثنائي الشيعي على حصته الوزارية كشرط رئيسي للاتكاء عليه. ما رفض إعطاءه الى الثنائي إبان تكليف أديب، ثم تساهل حياله جزئياً مع حقيبة المال، ثم آل الى طلبه من أديب التنحّي بعدما بانَ أنّ ما في وسع الرئيس المكلف المعتذر إعطاءه للثنائي الشيعي يسهل على الحريري فعله. لذا، منذ ما قبل تكليفه، تأكد الجميع من أن الثنائي حاز سلفاً حصته في حكومة لم يصر بعد الى تأليفها. عنى ذلك إبقاء حقيبة المال في عهدته على أنه هو وحده يسمّي وزراءه.

ثالثها، من غير الواقعي الاعتقاد بأنّ إصرار الحريري ــــ حتى الآن على الأقل ــــ على المضيّ في قطيعته مع رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل وتجاهله كرئيس أكبر كتلة نيابية، يجعله خارج طاولة التفاوض على تأليف الحكومة. الرجل موجود إليها سلفاً من خلال رئيس الجمهورية، الشريك الدستوري الآخر في تأليف الحكومة وصاحب التوقيع الأخير على مراسيمها. بيد أن ما حدث في التكليف الحالي للحريري أنه أنشأ عُرفاً لم يكن ملحوظاً على هذا النحو قبلاً، وإن كان واقعاً بالفعل ومستتراً بقشرة الصلاحية الدستورية التي يتقاسمها رئيس الجمهورية والرئيس المكلف. هذه المرة، يجري تأليف لحكومة أكثر من نصف وزرائها بُتّوا قبل جلوس الحريري مع عون في اجتماعَي السبت والأحد، بأن حاز الثنائي ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط حصّتيهما، وسلّم لهما الرئيس المكلّف بتسميتهما وزراءهما بعدما أقرّ لهما بالحقائب التي طلباها أو يكاد، فيما يتولّى هو بنفسه الحصة السنّية، فتعود الحصة المسيحية عندئذ الى رئيس الجمهورية.

المهمّ في ما يجري تداوله في الأيام الأخيرة، أن الحائل الوحيد حتى الآن دون تأليف الحكومة هو ما بات يدعى «العقدة المسيحية»، الجاري التفاوض عليها مع الرئيس مباشرة، ومع باسيل على نحو غير مباشر. ما يعنيه ذلك التسليم بواقع جديد مستمدّ مرة أخرى من موازين القوى على الأرض، مفاده أن تأليف الحكومة لم يعد بين يدَي الرئيس المكلف ــــ كما يحلو للقيادات السنّية الاعتقاد ــــ وليس في يد رئيس الجمهورية أيضاً عملاً بالصلاحية الدستورية، بل أضحى الثنائي الشيعي شريكاً أساسياً في تأليف الحكومة. من دونه، كان سيتعذّر على الحريري الحصول على أصوات تكليفه رغم اختباء حزب الله وراء عدم تسميته التي انطوت في الواقع على تزكية التسمية سلفاً. نجح الثنائي الشيعي أخيراً في وضع الحجر الأساس للمثالثة في تأليف حكومة.