مجلة وفاء wafaamagazine
تأبى السلطة الحاكمة إلّا أن تؤكد كل يوم على اهترائها، وغربتها عن الناس، وعمّا ذاقوه من مرارات قرارات عشوائية، يواظب عليها هواة رفعتهم الصدفة الى رتبة وزراء، وصلوا في آخر بِدعهم الى التصويب على أولى المواد الاساسية في حياة المواطن، أي الطحين، الى حد حرمان المواطن اللبناني حتى من «المنقوشة»، وذلك في إجراء أحمق، يندرج في سياق سلسلة إجراءات من ذات الفصيلة، اتخذتها، وثبت فشلها، على ما حصل مع سلّة السلع المدعومة، التي تحوّلت إلى «فضيحة بيع وتهريب»، وهُرّبت الى أسواق الدول الخارجية من تركيا الى العديد من الدول العربية. وتِبعاً لذلك، لا يُلام المواطن اللبناني إذا فجّر غضبه، بالطريقة التي يَشاء، في وجه سلطة لم تعاصر مثلها أكثر الدول تَخلّفاً في العالم!
سياسياً، أعادت زيارة الرئيس المكلّف سعد الحريري الى القصر الجمهوري في بعبدا، أمس، تحريك الملف الحكومي بعد جمودٍ حكمَ هذا الملف من الزيارة الاخيرة للحريري الى بعبدا قبل نحو أسبوعين.
واللافت للانتباه انّ لقاء الرئيسين كان علنيّاً، ولم يكن بعيداً عن الاعلام على ما جرى في اللقاءات السابقة، لكنه لم يدم طويلاً، إذ انه استغرق حوالى نصف ساعة، اكتفى الحريري بالقول على أثره: تشرّفت بلقاء الرئيس عون، وتشاورت معه، والاربعاء سأعود في مثل هذا الوقت، وسيكون هناك لقاء نحدّد فيه الكثير من الأمور الاساسيّة».
واللافت ايضاً هو انّ الحريري اكتفى بكلامِ عام، ولم يُشر الى «ايجابيات»، على جاري ما كان يعتمد بعد كل لقاء بينه وبين رئيس الجمهورية.
وفيما تكتمت دوائر بعبدا وبيت الوسط حول ما دار في لقاء الرئيسين، قرأت مصادر سياسية إشارة سلبية في قِصرِ اللقاء بين عون والحريري، في وقت كشفت مصادر مطلعة لـ«الجمهورية» انّه توزّع على قسمين: الأوّل حول أسباب الانقطاع الطويل عن التواصل مع بعض «العَتب السياسي» حوله، والثاني حول الشق الحكومي، حيث تبيّن انّ الحريري أعَدّ لائحة حكوميّة مكتملة، صارت في عُهدة رئيس الجمهورية، إلّا أنّ الرئيسين لم يغوصا في النقاش فيها، وقد استمهَل الرئيس عون الرئيس المكلف لدراستها، واتفقا على لقاء آخر بينهما بعد ظهر الاربعاء لاستكمال النقاش واتخاذ موقف نهائي في شأنها».
وأبلغ معنيّون بملف التأليف الى «الجمهورية» انّ «الحريري أعدّ هذه اللائحة على الأسس التي حَددها لحكومة اختصاصيين من غير الحزبيين، بلا ثلث معطّل لأيّ طرف، وأنّ الأسماء التي تضمنتها هي من أصحاب الكفاءات والخبرات التي تراعي الجميع، ويفترض ان تحظى بمقبوليّة من قبل كل الاطراف. وتِبعاً لذلك، فإنّ لقاء الرئيسين يوم غد يمكن اعتباره اللقاء الذي قد ينتهي إمّا الى اتفاق وامّا الى افتراق».
رواية ثانية
وفي توصيفها للقاء قالت مصادر مطلعة لـ«الجمهورية» انه بدأ بعملية جَوجلة للتطورات التي تَلت آخر لقاء بينهما قبل 3 اسابيع، وتحديداً يوم الإثنين في 23 تشرين الثاني الماضي، بما فيها من سيناريوهات ومواقف شهدتها تلك المرحلة بقراءة صريحة انتهت الى توضيح المواقف وإجراء عملية «كسر جليد» للعلاقة بين الرجلين.
وقالت المصادر: بعدها، استعرضَ الحريري بعض الأسماء والحقائب مُجدِّداً الدعوة الى استعادة حقيبة الداخلية لتيّاره لتكون من حصته، مقترحاً بأن تعود الطاقة الى حصة الرئيس. كما تناول البحث بعض الأسماء القديمة والجديدة رغم تأكيد الحريري انه سيعيد في ضوء التطورات الأخيرة النظر بتوزيعة الحقائب بين الطوائف والمذاهب وفق صيغة جديدة، على ان يَلي ذلك إسقاط الأسماء المقترحة من جديد في ضوء كلّ ما رافَق الايام الفاصلة عن اللقاء الأخير ولقاء الأمس.
وكشفت المصادر انّ الحريري الذي حمل بعض الأسماء المبعثرة، والتي أجريت قراءة أولية لها بين الرئيسين، لم يحمل اي اسم من الوزراء الشيعة المقترحين من ضمنها للحكومة العتيدة.
وقبل ان ينتهي اللقاء، سجّل رئيس الجمهورية سلسلة ملاحظات طالباً اخذها بعين الاعتبار، فسجّلها الحريري واعداً بتقديم صيغة حكومية جديدة بتوزيعة جديدة للحقائب ليُعاد إسقاط الأسماء عليها من جديد وذلك في خلال 48 ساعة، فاتفقا على لقاء آخر بينهما عند الرابعة والنصف عصر يوم غد.
شكليّات
وكانت الاجواء المعلنة لشريكَي التأليف، قبل لقائهما امس، تحصر الاختلاف بينهما على أمور يعتبرانها جوهرية، فيما التقويم العام لها في الوسط السياسي يصنّفها في خانة الشكلية والسطحية التي لا تستوجب تعطيل الحكومة لأجلها، خصوصاً انّ الخلاف، الذي يعتبر جوهريّاً بينهما، هو على كيفية تسمية الوزراء».
وقد حكمَ هذه الاجواء في الايام السابقة تَقاذُف المسؤولية، ففي بيت الوسط يقولون: «انّ المشكلة ليست عندنا، بل انّ التشنّج هو من قبل العَونيّة». وفي ميرنا شالوحي، يحدد «التيار الوطني الحر» خريطة طريق للرئيس المكلّف ليسلكها وسط معايير موحدة.
امّا في القصر الجمهوري فيقولون انّ المشكلة ليست لدى الرئيس عون، بل هي عند الحريري.
وبحسب معلومات «الجمهورية»، فإنّ هذه الأجواء جاءت انعكاساً للقاء المتشَنّج الذي عقده الرئيسان عون والحريري قبل اسبوعين في القصر الجمهوري. وكشفت مصادر موثوقة لـ»الجمهورية» انّ التشنّج مَرده الى أنّ الحريري أحضَر معه الى اللقاء المذكور لائحة تتضمن مجموعة اسماء لشخصيات مقترحة للتوزير(شخصيات مسيحية وسنية)، فاستوضَحه رئيس الجمهورية عن سائر الاسماء، فكان ردّه بأن نبحث بهذه الاسماء الآن، ومن ثم نبحث في كلّ الأسماء.
وتشير المصادر الى «انّ رئيس الجمهورية تساءَل أمام الرئيس المكلف» كيف يمكن ان تؤلَّف الحكومة بالتقسيط؟ وكيف يُمكن أن نحكي بالأسماء وبحجم الحكومة والحقائب إن لم تكن أمامنا كل الصورة كاملة؟. وتمنى على الحريري «أن يأتي بصيغة متكاملة، فساعتئذ نرى إذا كنّا سنذهب الى حكومة من 18 وزيراً أو أكثر، وساعتئذ نرى أيضاً مَن مِن بين الأسماء المطروحة، مقبول ومناسب، ومن هو غير مقبول أو غير مناسب».
وتضيف المصادر: انّ هذا اللقاء (السابق) بين الرئيسين انتهى عند هذا الحدّ، وخرج الحريري ولم يَعد إلى بعبدا، التي بَدا لها، بعدما أوقف تواصله مع رئيس الجمهورية، بأنّه اعتكَف».
في السياق، نقل زوّار مرجع كبير انزعاجه البالغ من قطع الرئيس المكلّف التواصل مع رئيس الجمهورية، وقوله ما مفاده: «البلد يسقط ويوشك أن يفلت من أيدينا، وكل يوم تتعمّق المشكلة أكثر، وهذا «الاعتكاف» الذي بدأه الرئيس المكلف، غير مبرّر، وطالما الأمر كذلك، فبدل أن يعتكف كان عليه أن يعتذر».
وينقل الزوار عن المرجع نفسه قوله: «قسماً، لا توجد عندي ايّ مشكلة مع الحريري»، وكرّر المرجع هذا القسم مرتين.
إتصالات
الى ذلك، كشفت مصادر مواكبة لعملية التأليف لـ»الجمهورية» انّ حركة اتصالات مكثفة جرت خلال الساعات الـ24 الماضية، هدفت الى كسر الجمود الحاصل في حركة التأليف، واعادة إحياء التواصل بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف.
إستياء من المؤلّفَين!
واشارت المصادر الى انّ الحضور الفرنسي كان فاعلاً على خط هذه الاتصالات، سعياً الى فتح ثغرة في الجدار الحكومي المقفل، أملاً في الوصول الى توافق حول ولادة الحكومة خلال الفترة السابقة لزيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى بيروت، والتي تحددت ما بين 21 و23 كانون الاول الجاري. وكشفت المصادر انّ الجانب الفرنسي كان شديد الوضوح في هذه الاتصالات، في تشديده على ان لا ذرائع امام اللبنانيين في تضييع المزيد من الوقت، وكذلك في التعبير عن الاستياء البالغ من أداء المعنيين بشكل مباشر بتأليف الحكومة، في اشارة مباشرة الى الرئيسين عون والحريري.
فرصة ايام معدودة
وعلمت «الجمهوريّة» انّ اتصالات الساعات الاخيرة تواكبت مع تحذيرات فرنسية وكذلك من جهات مالية دولية، من أنّ وضع لبنان الصعب ما زال آيلا لكي يوضَع على سكة المعالجة، وهذا يتطلب التعجيل بتشكيل حكومة تتولى هذه المهمة، وأمام القادة في لبنان فرصة ايام معدودة لتَدارُك الأمر بالتفاهم على هذه الحكومة».
يتقاطَع ذلك مع معطيات وصفت بالخطيرة جداً، كشف عنها مرجع مسؤول لـ»الجمهورية» بقوله: العالم ما زال يعطينا فرصة لكي ننقذ بلدنا، وإن لم تتشكّل الحكومة من الآن وحتى آخر السنة، فعلى لبنان السلام، إذ ستحلّ الكارثة الكبرى، وأنا مسؤول عن كلامي، ولن يكون في الامكان تشكيل الحكومة حتى بعد أشهر عديدة».
مناشدات
يأتي ذلك، في وقت تواصَلت فيه المناشدات الدولية للتعجيل في تشكيل الحكومة، وآخرها من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي استبقَ أمس زيارته المرتقبة الى بيروت بين 21 و23 كانون الاول الجاري، بتأكيده على التعجيل بتأليف حكومة المهمة الانقاذية، وتشديده على «أنّ الشعب اللبناني يجب ألّا يبقى رهينةً بيَد أي طبقة سياسية». وكذلك جاءت مُناشَدة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي وَجّه نداء الى القوى السياسية اللبنانية لإعطاء فرصة لحكومة تحل مشكلات لبنان، وقال: «لا يمكن أن نتخلى عن لبنان، ونشجّع على تشكيل حكومة سريعاً».
عين التينة
وتتقاطَع هذه المناشدات مع نداءات متكررة في هذا السبيل من المؤسسات الدولية، التي زار وفد منها أمس رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ممثّلاً البنك الدولي ومنسقية الشؤون الانسانية في الامم المتحدة، وبعثة الاتحاد الاوروبي في لبنان، حيث اجتمع الوفد على موقف موحّد، يستغرب التباطؤ في تشكيل الحكومة، مؤكداً على الحاجة الى تشكيلها في اسرع وقت، للمباشرة في عملية الانقاذ لوَضعٍ بدأ يُلامِس الكارثة الحقيقية».
وعكست أجواء قريبة من هذا اللقاء «انّ المجتمع الدولي بأسره هو مع لبنان، ولا أحد في العالم يمكن له أن يصدّق أو يبرّر هذا التأخير الحاصل في ملف تأليف الحكومة، ولَو ليوم واحد. فتأليف حكومةٍ اليوم قبل الغد يمثّل شرطاً اساسياً لمقاربة كل العناوين، وخاصة في ظل تدهور الاوضاع الاقتصادية والمالية والمعيشية والصحية على نحو كارثي».
وفي موقف لافت، اكدت حركة «أمل»، عبر بيان لمكتبها السياسي، ان «يكون هذا الاسبوع اسبوع الحسم الحكومي، وتَبنّي البرنامج الإصلاحي الإنقاذي». واعتبرت «أنّ حسم الملف الحكومي بات حاجة أكثر من ملحّة وضروريّة، وانّ أيّ تأخير تتضاعَف أثمانه على مختلف الصعد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة وحتّى الأمنيّة. وبالتالي، لم يعد أحد من اللبنانيّين والمسؤولين يَمتلِك ترف خسارة الوقت ومخاطره على الوطن والمواطن».
رفع الدعم
من جهة ثانية، شهد لبنان خضّة اجتماعية بعد إعلان نقيب المطاحن والأفران، علي إبراهيم، أنّ «المطاحن لن تسلّم الأفران الطحين غير المدعوم الذي يدخل في إنتاج الكعك والمناقيش وخبز «الهمبرغر» وغيره، لأنّها عزمت على بَيعه بالدولار، بعد قرار وزير الاقتصاد دعم طحين الخبز اللبناني فقط». ما يعني انّ هذه المنتوجات جميعها ستصبح بالدولار، ولن يستطيع الفقير شراء المنقوشة.
وأوضح مدير عام الحبوب في وزارة الإقتصاد جرجس برباري «أنّ ما يتم التداول به حول رفع الدعم عن الطحين غير صحيح»، مشيراً الى «أنه لم يصدر قرار عن وزارة الاقتصاد حتى اللحظة بهذا الموضوع»، مضيفاً أنّ «الأمر مطروح منذ أسبوع، وغداً (اليوم) سيكون هناك اجتماع في وزارة الاقتصاد مع أصحاب المطاحن». وقال: «نحن نركز على الطحين الذي يصنع منه الخبز العربي لأنه أساسي في غذاء المستهلك اللبناني»، مشيراً الى أنّ وزير الإقتصاد سيدعم كميّة 27000 طن طحين مخصصة للخبز العربي، وأنّ هناك آلية لاتخاذ هكذا قرار بناءً على اجتماع الغد (اليوم).
في هذا الوقت، بقي موضوع رفع الدعم مَحلّ أخذ وردّ على المستوى الحكومي المصرفي، بالتوازي مع تحذيرات سياسيّة وشعبيّة من رفض إلغائه قبل وضع آليّات قانونيّة واضحة ومُلزمة لاستفادة «العائلات الفقيرة وذات الدخل المتوسّط».
وقد تحوّل كل الكلام عن رفع الدعم او ترشيده الى واقعٍ حَطّ على طاولة السرايا الحكومية في اجتماعٍ يُعقد للمرة الاولى لمناقشة هذا الامر. وقد استمع رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب وحاكم مصرف لبنان، خلال الاجتماع، الى عرضٍ مفصّل لخطة الوزراء المعنيين بشأن ترشيد الدعم او ما طرح بتبديل تسميته الى تنظيم الدعم.
وعلمت «الجمهورية» انّ حاكم مصرف لبنان عرضَ لأرقام المصرف، واعلن انّ الاحتياط اصبح 17 مليار و650 مليون دولار. كما عرضَ لكلفة الدعم من كانون الثاني من العام 2020 وحتى هذا الشهر على الشكل التالي: مليار و58 مليون دولار للادوية، ملياران و78 مليون دولار للمحروقات، 129 مليون دولار للقمح، ما قيمته 4 مليارات و58 مليون دولار على سعر دعم 1500 ليرة لبنانية. امّا الدعم على السعر 3900 فبلغت قيمته 406 ملايين دولار (دعم المواد الاستهلاكية)، ما مجموعه 4 مليارات و500 مليون دولار، طالباً تخفيض هذا الدعم الى النصف شهرياً.
والبارز في هذا السياق، ما أكدت عليه وكالتان تابعتان للأمم المتحدة بأنّ «إلغاء الدعم في لبنان من دون ضمانات لحماية الفئات الأكثر ضعفاً سيصِل إلى حد كارثة اجتماعية، وحذّرتا من عدم وجود وسيلة لتخفيف الضربة».
وكتبت ممثلة صندوق الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف في لبنان يوكي موكو والمديرة الإقليمية لمنظمة العمل الدولية ربا جرادات في مقال رأي: «سيكون تأثير إلغاء دعم الأسعار على الأسَر الأكثر ضعفاً في البلاد هائلاً، ومع ذلك لا يوجد شيء تقريباً للمساعدة في تخفيف أثر ذلك»، بحسب ما نقلت عنهما وكالة رويترز.
وأضافتا: «من المهم أن ندرك أنّ اجتياز لبنان لمنحدر آخر الآن من دون وضع نظامٍ شامل للضمانات الاجتماعية أولاً، سيُلحِق كارثة اجتماعية بمَن هم أكثر ضعفاً في البلاد، وسيطيح برفاهيتهم ورفاهية البلد ككل لسنوات عديدة مقبلة».
ولفتت موكو وجرادات إلى أنّ تحليلاً تقريبياً يُظهر أنّ ما يصل إلى 80 في المئة من الدعم يستفيد منه النصف الأغنى من السكان، ويذهب 20 في المئة فقط للنصف الأكثر فقراً.
الجمهورية