
مجلة وفاء wafaamagazine
كتب الأمين العام لوزارة الخارجية والمغتربين السفير هاني الشميطلّي في” اللواء “ :
منذ انخراطي في العمل الدبلوماسي، لطالما صادفتُ إسم عبدالله بوحبيب، إمّا من خلال كتابٍ من كتبه أو مقالٍ من مقالاته أو مقابلاته المتلفزة، وربّما أكثر من ذلك بفعلِ أحاديثٍ منقولة عنهُ ومعهُ كانت تردني بالتواتر من أوساط السلك الدبلوماسي اللبناني وسفاراته، كما ومن صالونات المجتمع السياسي اللبناني بكافة تلاوينه والتي كان مشاركا دائماً في نقاشاتها، إنّما دون أن تؤدّي الصدف تلك الى أي لقاء تعارفيّ مباشر معهُ …
إلى أنّ جاءَ اليوم الذي عُيّنَ فيه وزيرا للخارجية والمغتربين في الحكومة التي شُكّلَت في أيلول ٢٠٢١، وهو ما لم يكن تفصيلاً بالنسبة لي كأمين عام للوزارة مُدرِك لأهمّية العلاقة المسؤولة مع الوزير تثبيتاً لنهج العمل المؤسّساتي الرّصين في تلك الوزارة السياديّة الحسّاسة المؤتمنة على مصالح لبنان ورعاياه في الخارج وعلى مرفقٍ عام نوعيّ مترامي الاطراف بفعل انتشار السفارات والقنصليات اللبنانية في العالم، خصوصاً في مرحلة الأزمات المتتالية التي راحت تعصف الواحدة تلوَ الاخرى بالبلد وبمؤسّسات الدولة تزامناً مع ازدياد أعداد المغتربين الواقعة مسؤوليات رعاية شؤونهم من معاملات قنصلية وانتخابات نيابية لغير المقيمين وما سوى ذلك ضمن اختصاص الوزارة، إضافة الى الأعباء الجسام الناجمة عن وجوب استكمال مشروع المقرّ المركزي العصريّ للوزارة الذي كنت قد باشرت العمل على إنجازه إثر خروج قصر بسترس عن الخدمة بفعل انفجار مرفأ بيروت.
علاوةً على ذلك، استلمَ الثمانيني المخضرم مهامه بعد فترة تقلّبات لم تنعم خلالها الخارجية ذاتها بالاستقرار الداخلي بفعل تغيير ثلاثة وزراء بين أصيل ووكيل ضمن حكومةٍ واحدة، ومنذ لحظة دخوله سرعان ما ظهرت قدرته الثاقبة على الفهم الدقيق لمسارات الانتاج في الخارجية في المجالات المتشعّبة التي تتولّاها معطوفة على موهبة لافتة في التفاعل اليومي والحضور في كافة الملفّات وربطها ببعضها البعض واضعاً ثقتهُ اليقظة والمتطلّبة بعقول من وجد فيهم مستوى المعرفة والإنتاجية ليكونوا رافعة لنجاح الوزارة خلال فترة تولّيه لها، وهو ما ادّى الى إحداث نقلةٍ نوعيّة في الاداء العام فيها على امتداد ثلاث سنوات ونيّف جعل من يوم تسليمه لها لخلفه في شباط ٢٠٢٥ يكون يوم تتويجه الفعلي بوصفه الوزير الذي أنجز عن حقّ، نتيجة الفرق الشاسع، الذي نجَمَ عن حسن إدارتِه، بين ما استلَمهُ وما سلَّمهُ.
لا تتسّع تلك السطور لتعداد الانجازات التي حققّناها سويّاً خلال فترته، إنّما الاهم في ما وددتُ تظهيره ضمن شهادتي تلك في الوزير الراحل، أنا الذي كنت الأمين اليومي على أعماله وقراراته، هو إنّ ما استطاع تحقيقه ببراعة المخضرمين لم يأتِ مصادفةً بل جاء نتاج ميزاتٍ يندُر أن تجتمع كلّها في عقلٍ واحد، هو الذي أمضى عقوده الثمانية في لملمتها وإستجماعها على نحوٍ تراكمي لم ينقطع إلاّ لحظة إنقطاع قلبه عن الخفقان خلال مناسبة إجتماعية كان يحضرها، فعبدالله بوحبيب هو من عداد أولئك الشغوفين حتى إنقطاع النفس إذ هوى مثلهم على خشبة المسرح الذي إمتزجوا به وإمتزج بهم.
ميزتهُ الاولى هي شغفهُ الفطري بالشأن العام وقضاياه، هو القائل بأنّ تلك الفطرة تُولَد مع المعني، وهو ما جعلَهُ يكون خارج تصنيف خانة «الوزراء التكنوقراط»، وإلمامه الفطري هذا راح يغذّيه بالتجارب المتنوعّة التي خاضها منذ مقاعد الدراسة وصولا الى موقعه الوزاري مرورا بنشاطه الحزبيّ الفتيّ ومنصبه الدبلوماسي السابق ومساهماته الفكريّة في مراكز الابحاث وعمله في البنك الدولي … فمهما كان يفعل، كان يصبّ فعله هذا في خانة تقوية عودهِ في قضايا الشأن العام، لذا لم يصعب عليه فهم طريقة عمل وزارة الخارجية بوصفها ادارة عامة من إدارات الدولة تُعنى بتحقيق المصلحة العامة على الرغمِ من عدم إختصاصه في مجال الادارة العامة وأنظمتها وقوانينها، فأُنجِزَ تحت إدارته ما أُنجِز بفعل فطرته تلك التي كانت لهُ خير مرشدةٍ الى الخيارات الصائبة.
ميزتُهُ الثانية تكمُنُ في تمتّعهِ بعقلٍ فَطِن وامتصاصي لا يفوّت تفصيلاً معطوفةً على فضولٍ معرفيّ لا يعرف الكَلَل، وهو ما جعَلَ من ثقافته تنعمُ بمتّسعٍ من المساحة لاستيعاب محاصيل تجاربه المتنوّعة ودون أية محاذير، فعقلهُ بقي إسفنجياً ولزجاً لا يعرف الجُمود، يرصد ويلتقط بانفتاح الافكار المفيدة والناجعة التي تلوح أمامه، يغربلها ويتشرّب الناجع منها تمهيداً لحسن استثمارها متى سنحت الفرصة لاحقا، لم آتِ يوماً على ذكر معطى أو فكرة جديرة أمامهُ إلا وعادَ وأخرجها من مخزونه واستخدمَها أو تصرّف على أساسها في الوقت المناسب، ولو بعد حين.
إنّ تلك النعمة جعلت من مشوار ابن المتن الشمالي واللبناني الصّميم، الكثير الاختلاط والترحال داخل لبنان وعبر العواصم، يكون عبارة عن مسارٍ معرفيّ تراكميّ بامتياز، وجعلت من هويّة عقله المركّبة تكون متناسقة بمكتنزاتها دون تعارض بين مكوّناتها ودون أن يتنازل عن أيّ من أساسيّاتها، لذا لم يصعب على الوزير عبدالله بوحبيب حسن قراءة التوازنات بدقّة متناهية، هو العارف بإرباكات المشهد السياسي اللبناني وارتباطه بتعقيدات التوازنات الاقليمية والدوليّة وإختلالاتها، وبصفاء رَحِب لا يعرف غشاوة المحدودية في التفكير أو في رفض ابتداع الحلول بلغة الآخر، وهي أساساً الذهنية الأحبّ على السياسة الخارجية.
كنتيجة لتلك الميزتَين تمتّع عبدالله بوحبيب أيضا بقدرة انسيابية على التواصل الفكري والاجتماعي والدبلوماسي دون حواجز، فكان سلِس المعشر لا بل «عِشراوياً» بامتياز، أنيساً لمن يجالسُهُ، ودوداً يعشقُ اللقاء والجلسات والدردشات، يتنشّق الحديث ويعيش اللحظة مستمتعاً بتمضية الوقت مع من يحبّ رفقتهم، حضور ذهني دائم، نبيه وسريع البديهة، دقيق الملاحظة لا تفوتهُ فائتة، روح النكتة متأهّبة دوماً عنده لاقتناص الفرصة، لا يفوقها جهوزيّةً إلاّ تفاعُله المدوّي مع طرفةٍ ما قد يباغتُهُ بها لمّاحٌ ذكيّ فينفجر ضحكاً،
لهذا السبب كان بو حبيب واسع الانتشار على امتداد مساحة لبنان في المجالس الاجتماعية والصالونات السياسية بمختلف تلاوينها، عابرٌ لتصنيفاتها، مندفعٌ لحضورها، وقد طغى ذلك على أدائه الدبلوماسي بكافة مستوياته إذ إتّسم تواصله المَرِن والمحترف بنفحةٍ إجتماعية تجعلني أقول بأنّه أتقن ما يمكن تسميته بفنّ الدبلوماسيّة الاجتماعية الفَطِنة بمعناها الأرحب، والتي أتت أيضا كنتاجٍ لتضافر العناصر المكوّنة لشخصيته وميزاتها وقدرتها على التحاور والتفاعل الانساني الحيّ والدافئ.
إلاّ انّ هذا الاختلاط المتواصل والمتشعّب لا يعني انّه لم يكن يزِن وينتقي بعناية حلقة رفاقه ومعاونيه المقرّبين، ولا يعني بأنّ بعض الحالات لم تكن لتستنهض نفوره تجاه أشخاصها، إذّ تسلّح بوحبيب بميزةٍ أخرى كنتاج طبيعي لما سبق، ألا وهي موهبة تشخيص وتقييم من يجالس ومع من يعمل بواسطة نظرة ثاقبة قلّما تخيب، وهو ما مكّنه من التعويل والوثوق بدرجة عالية من الدقّة بمن أعانهُ في تولّي مسؤولية وزارة الخارجية والمغتربين بمهنية وإتقان مع تحييد كل من كان أداؤه خلاف ذلك.
لا يفوتني طبعاً أن أشهد على إنتمائه الراسخ قولا وممارسةً الى ثقافة الدولة ومؤسّساتها، حريص على هيبتها وأنظمتها، ضنينٌ بالمصلحة العامة، نظيف الكفّ ومحافظٌ حازم على المال العام بحكمِ تكوينه الاقتصادي الرّشيد، يقدّر البذل والعمل الجاد والمنتج والذكيّ والهادف، يبغض المتذاكين والمخالفين وعديمي المصداقية والانتاجية، مقدامٌ في قراراته إذا ما اقتنع بصوابيتها، ينحاز الى المنطق والى الإقناع بالحجّة فَيَلين ويتجاوب، متمسّكٌ صلب بصلاحياته وبوجوب احترام الاخرين للموقع الذي يتولّاه…
جمعتني به هذه القيَم وهذا الانتماء الصادق الى الدولة وشرف تولّي الخدمة العامة، والتقيت معه على امتداد هذه المساحة المشتركة لنحافظ وننهض سويّاً بالوزارة التي تولّينا مسؤوليتها معاً كلّ من زاوية اختصاصه خلال أحلك الظروف، فنتج عن هذا التماهي الفكري والمؤسساتي نهضة تنظيمية وعمرانية عاشتها الوزارة على نحوٍ معاكسٍ للأجواء التي فرضتها الأزمة على مؤسسات الدولة، فكأنّما الخارجية كانت من زمنٍ آخر منفصل عن الواقع المرير، وقد أرسينا سويّا نموذجاً للتعاون التكامليّ العاقل بين الوزير والمدير العام (الامين العام في حالة الخارجية) قلّ نظيره، فصدر العدد الاكبر من القرارات الهادفة التي أنتجت المفاعيل الملموسة المشهود لها والتي صبّت كلّها في خانة المصلحة العامة حيث ستبقى الوزارة تستفيد منها لسنوات مديدة قادمة.
من بين سائر المزايا التي ذكرتها او تلك الاخرى التي لا متّسع لذكرها هنا، أنحني أمام ما بذله هذا المخضرم الثمانيني ذو العقل النيّر من جهد وما حقّقه من انجازات ملموسة لتستفيد منها الوزارة مستقبلا وليس لينعم بها هو شخصيا أو جهة حزبية ما، وهذا هو بحقّ تفكير رجال الدولة الحقيقيين الذين يبذلون ليستفيد وطنهم بعد رحيلهم.
مع قرب انتهاء مهامي كأمين عامٍ للوزارة بعد فترة قياسية امتدّت لثماني سنوات أدّيت خلالها الأمانة في أصعب الظروف عاصرت فيها ستة وزراء كنت أنت خامسهم، يؤلمني يا معالي الوزير عبدالله بو حبيب أن تطوى برحيلك حقبة سيذكرها تاريخ الوزارة على إنّها كانت مرحلة البنيان التنظيمي والمؤسّساتي والعمراني التي كنتَ أنتَ موجّهها وكنتُ أنا مخطّطها ومنفّذها، وهي ما كانت لتُنجَز لولا تراكُم مزاياك على النحو الذي حاولتُ تظهيره أعلاه، فقد عرفتَ كيفَ ترأس جهاز الوزارة وكيف تستنهضَ الهِمَم حيثما رصدتها،
ولا أنسى يومَ فاتحكَ أحد كبار المسؤولين شاكياً من حزم الامين العام وتمسّكه بالقوانين (ويا لها من تهمة!) انبريتَ لتجيبُهُ بغيابي وبحزمٍ أشدّ: «هو عقلُ الوزارة»،
وها هي اللوحة التذكارية، التي تمتشقُ المقرّ الحديث لوزارة الخارجية والمغتربين الذي أنجزناه معاً، باتت هي اليوم التي تنبض بالحياة نيابةً عن قلبك الكبير، مخلّدةً ذكراك وحاكيةً الحكاية مع كل إشراقة شمس كشاهدةٍ على أنّنا كنّا عقلاً واحداً إتّسعَ ليُنجِز دون كلَل وبعيداً عن أي جاهٍ شخصيّ، فأحدثَ الفرقَ وسلّمَ وزارة عصرية لمن جاء من بعدنا وبعد بعدنا…
ولولا تولّيك لسدّة المسؤولية بحنكة ودراية، لما اكتمل مسار أمانتي العامة ولما أينعت حقبتها، ولما استفادت الوزارة، ولما كنت لأغادرها عمّا قريب مفتخراً بما أنجزتُه مثلما غادرتها أنت، إذ أدرَكنا سريعا بأنّ مسارنا المؤسّساتي كان واحداً، حتى إنّك كنت تعرف بأنّني وصلتُ الى الوزارة صباحاً بفعل حفظكَ وتمييزك لوقع خُطاي عن غيرها، فتقول لمعاونيك بنباهتك المعهودة: «ها قد وصل الأمين العام فأنا أسمع صوت خُطاه»، فقد كانت خطانا التي مشيناها في الخارجية، مكتوبةٌ علينا بهذا الاتجاه، فمشيناها جنباً الى جنب!
عبدالله بوحبيب، برحيلك زاوية من القلبِ انطفأت، إنّما انتقلَ نورها ليضيء كل زاوية اكتسبتُ منكَ فيها من المعرفة وممّا راكمتُهُ أنا ايضاً من خلالك نتاج تجربتنا الحافلة التي أثمرَت حيث قضيت معك الردح الأكثر كثافة فِطرةً وفطنةً من مساري الدبلوماسي، ومن أعلى الهرم الوظيفي كأمينٍ عامٍ للوزارة، أنا المولَع أساساً بكل ما هو فطريّ (ومُتّهَم بهِ عن حقّ) لأنه يتدفّق من نبعٍ إنساني أصيل وصادق غير مُصطَنَع.
عزائي ربما انّني التقيتك منفردا ومطوّلا قبل يومين من رحلتك الأبديّة فأجرينا جردة نوعيّة كالعادة لآخر التطوّرات، ولم أكن أُدرِك حينها أنّنا التقينا لنتودّع، فعساني أجدُ بعض عزائي أيضاً بما أبدع فيه المتنبي شعراً:
وإذا كانَت النفوسُ كباراً تعِبَت في مُرادِها الأجسادُ
عبدالله بوحبيب، يا من تعِبَ جسَدُهُ من مُراد نفسهِ الكبيرة تلك، نفسُكَ بالسماء … وداعاً.