الرئيسية / سياسة / بين فخامة الجبل ودولة الصلابة لبنان لن يكون ورقة للتفاوض عليها

بين فخامة الجبل ودولة الصلابة لبنان لن يكون ورقة للتفاوض عليها

مجلة وفاء wafaamagazine

جورج عبيد

الحوار الصباحيّ مع فخامة الرئيس الجبل العماد ميشال عون مضيء بالرؤى. ثلاث توابت تظهر خلف الكلمات وفي جوفها. الإيمان غير المتزعزع، الثبات الراسخ، والعمل الزاخم.


يدرك فخامته الصعوبات الهائلة بمنسوبها المرتفع. ومع ذلك، فهو لا يلين ولا يستكين. مرفوع الهامة كما رأيناه، ساطع المحيّا كما عهدناه، مقتحم للأسوار كما ألفناه، يسير في قلب الأزمات وعتماتها وعواصفها مواجهًا، ولا يسمح البتّة بانحناءة ذلّ أو سجود باطل لشعب رضع المجد من حليب الأمّهات فتوشّح به وأضاء العالم، لن يسمح بتجويع متعمّد من أين أتى، فالخيارات مفتوحة وها هي تتحرّك من الشرق وبإمكانها أن تفعل فعلها، ولا يعني هذا على الإطلاق فقدان التوازن في علاقات لبنان الدوليّة في القراءة اللبنانيّة، ولكنّها متى فقدت عند الآخرين بحروب متعمّدة حينئذ بإمكانها أن تتحوّل إلى قهر وعسف، إلى جور وظلم، وإلى استيلاء ووصاية أو احتلال أو إلى افتعال حروب فتجدر مواجهتها لكونها تحاول أخذ لبنان إلى نهاية وخيمة وإنهاضه بعد ذلك بحلّة سيراها حتمًا غريبة عنه وتأسره بالتالي بخيوطها الزائفة وأدبياتها البائتة والباهتة مع فقدانه لهويته على كافة الأصعدة.
التصميم على المواجهة واضح في معالمه، عند فخامته، شعب لبنان لن يجوع ولن يركع ولن يذلّ ولن ينغمس في الفتن ولن يبتلعه الفقر. عنده، أنّ الأذرع التي عاثت فسادًا ولعبت بقوت الناس وأفرغت العملة الوطنيّة من هويتها ستلوى نهائيًّا. ومن سلب الأموال سيعيدها وهو صاغر.

فلم يعد ممكنًا الصمت المديد وترك الأمور مفتوحة على فوضى خلاّقة تفرغ سمومها في جسد وطننا وتقتات من حياتنا. هذا نضال عتيد ومرير يصرّ الرئيس عليه بشموخه وأنفته، وأية تسوية ستبدو مشبوهة لن تكون على حساب اللبنانيين وكرامتهم أو كرامة الوطن، وهي في الجوهر والشكل مرفوضة، فقد بلغ السيل الزبى.


هذا الاستنتاج انطلق من بعد جلسة منعشة للنفس والقيم. ميزة الرجل أنّه يدخل أعماق نفسك المبعثرة والخاشية والرانية في آن، يلملم الحطام بلطفه المعهود وكياسته الطيبة ومحبته الفائضة وبحزم وطيد ويجمعه فيك ويطلقك بحب وكبر إنسانًا جديدًا. الانكباب على الجلسات معه ارتواء من فكر استشرافيّ بجوهر مشرقيّ وببعد استراتيجيّ مطلّ على آفاق واسعة وكبرى من لبنان إلى المنطقة، ومستند على بلاغة لاهوتيّة وحصافة فكريّة وقراءة فلسفيّة تؤهلّه لبث الرؤى وجعلها مادّة للحوار ومن ثم للوجود ليتكوّن بها بالنسبة إليه ولمن عاصره ويعاصره وجود جديد.
رؤية ميشال عون بتجلياتها غير منفصلة عن الموقف الذي أطلقه رئيس الحكومة حسّان دياب في مجلس الوزراء أمس. لم يقل كلمته ليمشي حتى يسمع الآخرون ومن بعدها يسيرون وينسون، بل ليفهموا جوهر الواقع المعيش، لا سيّما أولئك الواقفين على أطلال بابل بظنّ أن من دفعهم للوقوف سيعيد الأطلال في القفار إلى قصور وعمارات مليئة بالقناطر والعقد، وسيخلع من موقعه من اقتحم “النادي العتيق” المحصور بمن والوا ويوالون ثنائيّة دوليّة-عربيّة فاغرة الفم وفاجرة الوجه.


أمس، وضع حسان دياب إصبعه على جوهر القضيّة بعمقها. لم تداهمه فزعة في الليل لم يدغدغه شيطان نصف النهار لينهيه عن المواجهة أو يثنيه عن قول الحقّ وينأى به عن وضع الإصبع على الجرح. لقد بدأ العهد ينطلق أبى من أبى وشاء من شاء. فالحرب على العهد، والحكومة جزء منه، حرب على لبنان بهدف إسقاطه ودفنه في وادي النسيان ليصير وكرًا للبوم والغربان أو مقرًا لعفاريت الزمان. سنة 2011 حين شنّت الحرب على سوريا، ظهرت الرؤية كاملة بأهدافها غير المعلنة والتي غدت معلنة. ليست الحرب لإسقاط الرئيس بشّار الأسد حصرًا، وقد بات معروفًا بأنّه متى سقط الرجل سقطت سوريا من الشرق إلى البحر وسقط معها العراق ولبنان. لم تسقط سوريا من سوريا، ففشلت الحرب عليها من داخلها وخارجها، وبدأ النصر يكسو جزءًا يسيرًا من جسدها، ويكسر من أحرق أرضها.


لأنّ الحرب فشلت في سوريا وعليها. نقلوها إلى لبنان بعد سنة 2016. كلمة السرّ المقول، “وصل العماد ميشال عون إلى الحكم ولكنّنا لن ندعه يحكم”. تحت هذا الستار تكتّل الجميع بوجهه، فحاكوا المؤامرات وعملوا على نصب الفخاخ. استهلك الأميركيون أذرعتهم، تحالفوا من جديد مع السعوديّة لتطويق العهد وتقويض المقاومة التي كسرت إسرائيل في تمور سنة 2006 وكانت سببًا جوهريًّا في تحقيق النصر في جزء كبير من سوريا. وعلى الرغم من ذلك قرّر فخامته ببادرة طيبة افتتاح عهده بزيارة المملكة العربيّة السعوديّة، ودعا منها إلى المصالحات العربيّة-العربيّة، وكرّر الدعوة غير مرّة، لأنها السبيل الوحيد للنجاة من السقوط في الوحول وإنقاذ العالم العربيّ من الانقسام المذهبيّ والصراع مع الجوار والسقوط في المخطّطات الإسرائيليّة. كلام غاي بيتشر لم يغب عن الأذهان والعيون حين قال في صحيفة إيديعوت أحرونوت سنة 2015 لقد انتهى عصر النفط العربيّ وبدأ عصر العقل الإسرائيليّ. لقد ابتلع العقل الإسرائيليّ معظم العرب ما خلال لبنان وسوريا والعراق، هذا المثلّث المشرقيّ الدائب على منع تهويد القدس وبيع فلسطين.


لم يفهم السعوديون ذلك وظلّوا ممعنين على تأليب الحالة السياسيّة في لبنان مذ استدعوا بفظاظة سعد الحريري وذاق مرارة الإهانة في “مملكة الخير”. (مش هيك يا سليم صفير؟؟!! يبدو إنّك نسيت…) وانهمك الرئيس بإعادته صونًا لكرامته وحفاظًا على سيادة لبنان. واعتبره خطفه من قبل “مملكة الخير” قضيّة وطنيّة سياديّة واعتداءً على لبنان إلى أن عاد. فردّ سعد جميل الرئيس الحبيب الذي دمعت عيناه لحظة لقياه بعاطفة نبيلة عبّرت عن القيم الأخلاقية المتجليّة والمتجسّدة فبه، بخروجه الطوعيّ من العهد والتفافه عليه بعدائيّة سافرة ومطلقة، فكيف يعمد أحد الأحبّاء على تعويمه وهو الفاقد الجوهر الخصيب؟ ومن قال أنّه لا يزال يمثّل الوجدان السنيّ بأكثريته المطلقة وقد لاحظنا انشطارًا دائريًّا وأفقيًّا وانقسامًا عموديًّا فيه؟ ثمّ ياتي الحواب من مصدر جازم: “لقد انتهى عصر حكومات الوحدة الوطنيّة التي تحولت إلى حكومة سمسرات وسرقات باسم الوحدة الوطنية في لبنان وعليه. هذا النوع من الحكومات هو من قاد نحو الإفلاس وكلّ رهان من أي نوع تبديه أية جهة ساقط لا محال.


رئيس الحكومة الدكتور حسّان دياب وحين رأى بأنّ الحملة قد بلغت حدًّا لا يطاق بقيادة أميركيّة-سعوديّة وحراك أمنيّ تركي في طرابلس ومنها إلى بيروت، وقف في وسط الأزمة وأمسك بيد الجبل الشامخ وقال: “إنّنا في لحظة الاصطدام، وهناك جهات محليّة وخارجيّة عملت وتعمل حتّى يكون الاصطدام مدويَّا، وتكون النتيجة حصول تحطّم كبير، وخسائر ضخمة”. ووصّف التماهي البليغ بين الداخل والخارج معتبرًا بأنّ ثمّة جهات في الداخل تنطلق من مصالحها الشخصيّة مغلفة بحساباتها الطائفيّة محلّلاً وضعها “إمّا هي أدوات خارجيّة لإدخال لبنان في صراعات المنطقة وتحويله إلى ورقة تفاوض، أو هي تستدرج الخارج وتشجّعه على الإمساك بالبلد للتفاوض عليه على طاولة المصالح الدوليّة والإقليميّة”.


ثمّ أكمل قائلاً بأنّه اختار المواجهة على الرغم من قرار كبير بمحاصرة البلد، ويمنعون أيّ مساعدة عن لبنان ويمعنون بتجويع اللبنانيّ بهذا الحصار الممارس. ثم انتقد كما بات معروفًا الممارسات الخارقة والهاتكة للأعراف الدولية والدبلوماسية، وبعضها أصبح فاقعًا مشيرًا بصورة غير مباشرة إلى دور السفيرة الأميركيّة دوروثي شيا والقائم بالأعمال السعوديّ وليد البخاري.


لقد بدأت المواجهة. السفير الصينيّ ظهر على الخطّ واجتمع برئيس الحكومة ووفد وزاري والتصميم ظهر من الجانبين للتعاون الوثيق. واليوم كانت زيارة الوفد الوزاري العراقيّ مثمرة ضمن نيّة عبّر عنها رئيس حكومة العراق مصطفى الكاظمي بالتواصل مع الجوار المشرقيّ، وسوريا على الرغم من تلويح شيا بقانون قيصر لن تكون بعيدة عن لبنان، ذلك أنّ الجغرافيا أكبر ديكتاتور، وسوريا مدخل لبنان إلى العالم العربيّ برمّته، إنها الرئة الباقية للتنفّس.


حزب الله من جهته أكّد بأنّ الحكومة باقية ولن يسقطها شيء والوزير السابق جبران باسيل أكّد بدوره بانّه لم يطالب بتغيير الحكومة، وسعد الحريري نفسه نفى بأنّه عامل للعودة. فيما الآمال معقودة على لقاء هام يجمع بين فخامة الرئيس وسماحة السيد لرسم استراتيجيّة إنقاذيّة للبنان يخرق الحجب ويحطّم الأغلال.


حكومة حسان دياب باقية. وكل ما يقال خارج هذا السياق من قبيل استمرار أو ديمومة الحرب على العهد برمته وبهدف إسقاط لبنان أو كما قال دولته بهدف إمساكه للتفاوض عليه.


البداءة تنطلق من إقالة رياض سلامة من حاكمية المصرف حتى لا يسود الزنى مالنا من جديد، ومحاكمة سليم صفير على التواءاته وولاءاته الخارجيّة ومطالبته المتكررة ببيع مؤسسات الدولة بكلام جارح وغير مسؤول، إلى أن قال مستهزئًا وهو داخل إلى مجلس الوزراء: “أنا جايي على الاجتماع حتى إشرب كاس”. وهذا التصميم على الإقالة عاد جديًّا ونهائيًّا وهو مشتهى خلاصيّ للبنان. فكيف إذًا وبعيد كلام رئيس هيئة الصندوق الدوليّ الذي حمّل سلامة بلوغ لبنان بالواقع الماليّ هذا المنحدر؟ إقالته مطلب حيويّ واستراتيجيّ لنهوض لبنان وعودة الحياة إليه.


لقد انتهى عصر الزنى السياسيّ وبدأنا بمرحلة العفاف مع رئيس جمهوريّة جبل ورئيس حكومة صلب الإرادة صخريّ الإيمان. ستطوى بجهودهما صفحة آكلي اللحوم البشريّة بتعدياتهم الوحشية، وعربداتهم اليوميّة. بمجونهم الداعر وفجورهم الفاغر تحت رماح الحقّ الثائر ونعاله. لن يفرض أحد على لبنان خيارات شريرة. لبنان سيسير إلى الضوء ليشرق به، وسيعلو وجهه كالشمس في تجلّ بهيّ لا يعروه مساء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التيار