مجلة وفاء wafaamagazine
عندما يتعلق الأمر بالمتوقّع من التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، تنقسم الآراء سريعاً. من عايش سلامة يدرك أنه بالرغم من إبداء استعداده للتعاون، إلّا أنه لن يسلّم رقبته لأحد، خاصة أن الغطاء السياسي الذي يحميه لا يزال ثابتاً. لكن في المقابل، في وزارة المالية من يؤكد أن القطار انطلق، وأن السرية المصرفية لن تكون عائقاً أمام الوصول إلى كشف كل عمليات المصرف المركزي
رسمياً، انطلقت رحلة التدقيق الجنائي والمحاسبي والمالي في حسابات مصرف لبنان. شركتا «مارسال أند فاريس» و«كي بي أم جي» قدّمتا لائحتين بالمعلومات والبيانات التي تحتاجان إليها لإجراء التدقيق إلى وزارة المالية يوم السبت، ثم تلتهما شركة «أوليفر وايمن» أمس. بدورها، حوّلت الوزارة هذه الطلبات الممهورة بعبارة «سرّي» إلى مصرف لبنان. وبالرغم من أهمية التدقيق المحاسبي والمالي، إلا أن التدقيق الجنائي هو الذي يستحوذ على الاهتمام المحلي كما الدولي. أمام مصرف لبنان أسبوعان، بحسب العقد، لتسليم البيانات المطلوبة إلى شركة «مارسال أند فاريس». لكن هل سيُسلّمها فعلاً؟ هنا تتقدم وجهتا نظر، لكل منهما حجّتها. الفريق الأول يعتبر أن التدقيق، ولا سيما الجنائي، لا يمكن أن يتم في ظل وجود رياض سلامة على رأس المصرف. من البديهيات، بحسب وجهة النظر هذه، أن تكون الخطوة الأولى لبدء أيّ تدقيق مالي أو محاسبي، ولا سيما جنائي، أن يُزاح المشتبه فيه من سدة المسؤولية، إذ لا يمكن التدقيق أو طلب المعلومات من الجهة المتّهمة بإجراء عمليات غير قانونية أو على الأقل غير مدروسة، أسهمت في مفاقمة الأزمة وصولاً إلى الانهيار. الإشارة الأكبر هنا تتعلق بالهندسات المالية التي بدأت عام 2016، واستمرت في السنوات الثلاث التي تلت.
الخطوة الأولى لإنجاح أي تدقيق مفترَض لم تتحقق، لكن ذلك لا يعني بحسب وجهة النظر الثانية أن التدقيق لن يصل إلى كشف المخالفات المرتكبة. قوة الدفع هذه المرة هي العين الدولية المفتوحة على لبنان، والتي دفعت باتجاه إجراء التدقيق. القيادة الفرنسية تؤكد مراراً اهتمامها بهذه المسألة ودعمها لها، وكذلك صندوق النقد الدولي الذي أصدر بياناً، رحّب فيه بانطلاق التدقيق الجنائي. ماذا بعد؟ هل سيؤدي هذا الدفع الدولي إلى القفز عن المعوقات التي ستقف في وجه التدقيق، وأبرزها: الحائط المرفوع سياسياً من قبل ثلاثي نبيه بري وسعد الحريري ووليد جنبلاط ضد المسّ بسلامة، وتمسك مصرف لبنان بحرفية القوانين التي تسمح له بعدم تلبية طلبات شركات التدقيق، ولا سيما منها قانون السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف؟
مَن تعاملوا مع رياض سلامة يجيبون سريعاً بالنفي. تجربتهم معه تقول إنه لطالما رفع الفيتو بوجه طلبات وزارة المالية بحجة السرية المصرفية. وهو نفسه كان يرفض إعطاء وزراء المالية أسماء الجهات المكتتبة بسندات الخزينة بحجة السرية المصرفية، متغاضياً عن بديهية حق المُقترض في معرفة اسم من أقرضه.
حتى الطلبات الرسمية التي وصلته من الإدارة الضريبية لمعرفة المصارف المستفيدة من الهندسات المالية تمهيداً لتكليفها بالضريبة على أرباحها المستجدّة، كانت تُرفض بذريعة السرية المصرفية. وليس بعيداً، دأبت الحكومة المستقيلة، كما رئيس الجمهورية، على طلب الرقم الفعلي لموجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية، لكن أياً منهما لم يحصل عليه حتى اليوم، من دون أن تكون لهما القدرة على إلزامه.
تأمل مصادر مطلعة أن يكون كل ذلك تغيّر اليوم. الحضور الدولي طاغٍ على ما عداه من معادلات. ولهذا الحضور هدف واضح: كشف حسابات مصرف لبنان. للمناسبة، منذ أكثر من أسبوع يُداوم ممثلون لمصرف فرنسا المركزي في مصرف لبنان. ماذا يفعل هؤلاء؟ المصادر تعتبر أن وجودهم هو تأكيد إضافي على أن سلامة لم يعُد مطلق اليدين في عمله. وهي تشير إلى أن الفرنسيين عبّروا عن استعدادهم للقدوم إلى لبنان ومساعدة المصرف المركزي على تحديث عمليات الاحتساب، والتأكّد من كيفية تسجيله لهذه العمليات، خاصة بعد الخلاف الذي امتد لأشهر بين الحكومة وصندوق النقد من جهة، ومصرف لبنان ولجنة المال النيابية على تقدير الخسائر. المصادر تشير إلى أن سلامة وافق فوراً على الطلب، وبدأ التعاون على هذا الأساس!
لكن في المقابل، فإن مصادر أخرى تشكّك في الدور الذي يلعبه الفرنسيون في هذا السياق، كما تشكك في أسباب فتح سلامة لأبواب المصرف لهم، من دون أي عقد، وهو ما لم يفعله حتى مع الحكومة، التي تملك بحسب قانون النقد والتسليف حقّ الرقابة على أعمال المصرف المركزي، عبر مفوّضها لديه. وتسأل: هل يعني ذلك أن الفرنسيين دخلوا على خط تعويم سلامة أو الالتفاف على التدقيق الجنائي؟
لم تُعطَ شركة «ألفاريز» حقّ الاطلاع على النظام المعلوماتي لمصرف لبنان
لا أحد يملك الإجابة بعد. لكن حتى الآن، لا رابط بين المهمّة الفرنسية ومهمّة شركات التدقيق. مصادر وزارة المالية تؤكد كذلك أن القوانين اللبنانية لن تكون عائقاً أمام حصول الشركات على المعلومات التي تريدها. هنا تبادر مصادر مطلعة إلى تأكيد أن وجود مفوض حكومة قوي يمكن أن يقفل كل أبواب الماضي، إذ كان سلامة لا يعير أهمية لا لمفوّض الحكومة ولا للمجلس المركزي ولا حتى لوزراء المالية. كان يدرك أن السلطة المطلقة في أمور النقد معقودة له، وكان يدرك أنه فوق المحاسبة، ليس لشيء سوى لأن كل الطبقة الحاكمة كانت مستفيدة منه.
هل تغيّر ذلك اليوم؟ عملياً، القوى السياسية لا تزال نفسها. والمستفيدون هم أنفسهم، لكن ثمة من يؤكد أن الانهيار غير المسبوق الذي تلته وصاية دولية واضحة، يمنعان الاستمرار بطريقة العمل السابقة.
النسخة الأولى لعقد التدقيق الجنائي كانت تتضمن السماح للشركة بالحصول على البرامج المحاسبية للمصرف بشكل كامل. تقول المصادر إن مستشارين قانونيين معنيين اقترحوا إزالتها، بحجة أن المصرف سيملك الحجة حينها لرفض تسليم الداتا، على اعتبار أن احتواء هذه البرامج على كل حسابات المصرف وحسابات الغير، يجعلها خاضعة للسرية المصرفية. هذا الموقف يناقض الموقف الذي كان تبنّاه مستشار رئيس الجمهورية سليم جريصاتي، الذي اعتبر أن وصول التدقيق الجنائي إلى النهاية الصحيحة، يتطلّب إعطاء شركة «ألفاريز» صلاحية الاطلاع على العمليات المالية في نظام المعلوماتية، بما يسمح بمتابعة كل ما دخل إلى مصرف لبنان وخرج منه.
من دون ذلك، تؤكد مصادر مقرّبة من رئاسة الجمهورية أن التدقيق قد لا يصل إلى نتائج فعلية. لكن في المقابل، فإن لوزارة المالية رأياً آخر. هي تؤكّد أن أغلب المعلومات التي تحتاج إليها الشركة غير خاضعة للسرّية المصرفية (أغلب عمليات المصرف المركزي المتعلقة بعمله أو بعلاقته مع الإدارات العامة والمصارف). كما أن مصرف لبنان لن يستطيع الاستنساب في تسليم المعلومات المطلوبة، انطلاقاً من أنه يمكن كشف أيّ محاولة لحجب المعلومات.
«الموافقة الاستثنائية» للقفز فوق ديوان المحاسبة!
وزير المالية غازي وزني وقّع العقود مع شركات التدقيق الثلاث، والأخيرة بدأت عملها بالفعل. بحسب هذه العقود، يتوجّب على الوزارة أن تدفع دفعة أولى لكلّ منها، خلال مهلة محدّدة تلي بدء العمل. لكن بحسب قانون ديوان المحاسبة، فإنّ دفع النفقة يتطلّب موافقة الديوان، وهو ما لم يحصل. تقرّ مصادر وزارة المالية أنها تخطّت موافقة الديوان، لكنها تعتبر أن الضرورة فرضت ذلك. إذ «كان لا بدّ من توقيع العقود قبل وصول الرئيس الفرنسي في ٢ أيلول، فالضغوط من القصر الجمهوري كما من المجتمع الدولي لم تسمح بتأخير التوقيع يوماً واحداً». وبحسب المعلومات، فقد تواصلت وزارة المالية مع الديوان لسؤاله عن المدة التي تحتاج لها الموافقة، فكانت الإجابة أن القانون يعطي الديوان فترة 10 أيام للبتّ بالموافقة المسبقة، على أن تُمدّد هذه المهلة إذا استدعى الأمر طلب مستندات إضافية.
بناء عليه، فضّلت المالية القفز عن الموجب القانوني لدفع النفقة، بحجة الظرف السياسي، فوقّعت العقود، على أن تلجأ إلى الخطة باء بعد ذلك. فالتوقيع لا يعفي من العودة إلى الديوان للحصول على موافقته على تسديد النفقة، لكنه يعني أن الرفض سيكون حتمياً لأن الديوان لم يطّلع على العقد مسبقاً. ذلك سيقود إلى احتمال من اثنين. الاحتمال القانوني هو اللجوء إلى عقد مصالحة بين وزارة المالية والشركات. لكن لأن هذا الطريق طويل، فإن مصادر «المالية» تؤكّد أنها ستلجأ إلى الخيار الثاني، أي الحصول على موافقة استثنائية من كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، انطلاقاً من عُرف بدأ يتكرّس بحكم الأمر الواقع، ومفاده أن توقيع الرئيسين في فترة تصريف الأعمال، يشكل بديلاً عن موافقة مجلس الوزراء.
تجدر الإشارة إلى أن ما حصل ليس الأول من نوعه. وزارة المالية سبق أن تجاوزت الموافقة المسبقة للديوان عند توقيعها العقد مع شركة «لازارد»، المستشار المالي للدولة. وعندما راسلت الديوان للحصول على موافقته على دفع النفقة رفض الأمر. حينها لم تكن الوزارة تملك أيّ مبرّر لتخطّي الموافقة المسبقة للديوان. لكنها بعد ذلك، عمدت إلى السير على طريق الموافقة الاستثنائية التي وقّعها رئيس الحكومة.
الاخبار