مجلة وفاء wafaamagazine
في كل مرة تسعى مجموعات انتفاضة 17 تشرين و«المجتمع المدني» والاحزاب المعارضة الى بناء جبهة ائتلاف معارض، تصطدم بعدم قدرتها على التوافق ولو على لون السماء. منذ العام 2011 تكرر الأداء نفسه، تتلهى بما تخلقه السلطة لها، وتقفز فوق المسألة الأهم: الاستسلام للاحتفالات والانطلاق الى إنشاء أحزاب سياسية ذات برامج واضحة. والحصيلة: تحالف «التحالف» الذي مات قبل أن يولد
السؤال الرئيسي هنا: أين كانت تلك المجموعات حين جرى النقاش في هذه المسائل المصيرية بالنسبة إلى الناس وإلى بناء دولة جديدة بعد محاسبة مرتكبي الموبقات بحقها؟ لماذا لم يؤمّن هذا الائتلاف دفعاً شعبياً لخطة التعافي المالي الحكومية التي أسقطها حزب المصرف والتي تتوافق مع كل البرنامج المالي المطروح من التحالف؟ لماذا وقفت المجموعات تتفرج على إفراغ عقد التدقيق الجنائي في مصرف لبنان؟ ما الذي حال دون الضغط في الشارع لإقرار قانون رفع السرية المصرفية والكابيتال كونترول؟ تطول لائحة الأسئلة هنا، الا أن أحداً لا يملك جواباً شافياً عن ترك الساحة خالية أمام مدمري الاقتصاد وناهبي أموال الشعب، لسرقة الشعب مرة أخرى وإحباط فرصة بناء اقتصاد منتج؛ إذ يقول بعض الناشطين في مجموعات التحالف إن الوقت سبقهم، وإن الاختلاف في الرأي تجاه العناوين السياسية الرئيسية في ما بينهم أدى الى رفض بعض الأحزاب والمجموعات التوقيع على البيان، كالحزب الشيوعي و«مواطنون ومواطنات في دولة» و«تقدّم». وقبيل إطلاق التحالف بيومين، أطلق معدّو الجبهة ورافضو التوقيع والتنظيم الشعبي الناصري والمفكرة القانونية وتحالف وطني واتحاد الشباب الديمقراطي وغيرهم، ما سُمّي «المبادرة» – درابزين 17 تشرين. المبادرة التي ضمت نحو 85 مجموعة وهيئة مناطقية وتجمعات نقابية هدفت الى العمل لتوفير الملتقى الديمقراطي الضروري والقادر على استقبال كل من أعادت إليه 17 تشرين الأمل. قيل يومها إن مشروع بناء «القوّة الثالثة» في الحياة السياسية اللبنانية قد انطلق، قبل أن تتوقف عجلاته بعد يومين ويتفرق معدّوه. مات «التحالف» على مسرح في ساحة الشهداء، لحظة جلوس ممثليه للتعريف عنه على أنه محاولة لبناء جبهة سياسية جامعة في الأيام المقبلة.
الاتفاق على عدم الاتفاق
افتراق المجموعات عند الانتقال الى الحديث الجدّي عن مشروع بناء الدولة، اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وسياسياً، ليس مفاجأة ولا يحصل للمرة الأولى. عايشته المجموعات نفسها خلال تحرك إسقاط النظام في العام 2011، وخلال تحركات عام 2015، وصولاً الى انتفاضة 2019. تتركز هذه النقاط على أربع مسائل:
1- الموقف من النظام القائم، أي الإبقاء على اتفاق الطائف وتطبيقه بحرفية عبر إنشاء مجلس شيوخ وهيئة إلغاء الطائفية السياسية أم الذهاب نحو تغيير جذري ودولة مدنية علمانية؟ لم تستطع المجموعات التوافق على أي صيغة ترضي الجميع.
2- النظام الاقتصادي: اقتصاد حر أم تنافسي ضمن أطر محددة؟ وما هي خطوط كل من النموذجين؟ الإبقاء على الاتفاقيات الخارجية أم إلغاؤها؟ تلك معضلات أخذت حيزاً كبيراً من النقاش، من دون أن تصل الى نهاية سعيدة.
3- السياسة الخارجية، أي الاطار الذي يحدد علاقات لبنان مع محيطه والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والخليج وايران. وتطرق الحديث الى مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكيفية التجاوب معها. ثمة من رأى ضرورة التحاور، وثمة من رفض أي وصاية أو إملاء خارجي، وأصرّ على عدم التقاء أي مسؤول أجنبي، وشدد على عدم التمثل في أي حكومة تتمثل فيها السلطة. هذا الملف أدى الى انقسام المجموعات وتمسك كلّ بفكرته، فطار النقاش.
4- السياسة الدفاعية: هل الأولوية للصراع مع إسرائيل أم تحييد لبنان؟ ترسيم الحدود أم تحرير الأرض؟ السلاح أم الدبلوماسية؟ خلال التشاور في هذه المفاهيم، جرى الربط بين القرار المتخذ وتأثيره على الاقتصاد والأمن. هنا اختلف المجتمعون طويلاً حول جملة أراد البعض ذكرها في البرنامج وهي «عدم زج لبنان في الحروب الاقليمية»، كذلك الأمر بالنسبة الى «احتكار قوى طائفية لحق الدفاع عن الأرض». تمت صياغة الجملة الأولى بطريقة مختلفة: «رفض ارتباط أحزاب السلطة الطائفية بمرجعيات إقليمية ودولية، وإدخال لبنان في صراعاتها وحروبها»، بينما أبقي على الثانية. النقاش في السياسة الدفاعية أدى الى انسحاب بعض المجموعات. رغم ذلك، أشارت المصادر الى أن هذه الاجتماعات كشفت عن ميزة لدى الجميع، وهي عدم انحيازهم لصالح كل من قوى 8 و14 آذار، و«عدم تشبّثهم بأي حلول متطرفة». فمن ينتمي الى معسكري السلطة السياسية لم يحاول المشاركة أصلاً، وحسم خياره منذ البداية بإيجاد سبل مشتركة مع من يشبهه.
5- انتخابات نيابية مبكرة: بعض المجموعات رأى ضرورة التركيز على الانتخابات، قبل مناقشة أي تفصيل آخر، لأن الأساس هو في إعادة تكوين السلطة، بينما رأت مجموعات وأحزاب أخرى أن لا طائل من انتخابات ستعيد إنتاج السلطة نفسها، ويفترض تحقيق انتقال للسلطة بقوة الشعب.
النقاش في السياسة الدفاعية أدى الى انسحاب البعض وعدم توقيعه على البيان
العناوين الخمسة السابقة من المفترض أن تفرض على أي تحالف أن يتفكك ويفتش عن بدائل لإنتاج برنامج عمل جدّي يعكس رؤيته للحل ويفند وجهة البلد الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية. وذلك بالضبط ما فعلته حركة «مواطنون ومواطنات في دولة». وربما هذا ما يدفع المجموعات الى عدم الاتفاق مع الحركة التي تخيّرهم بين الانضمام الى مشروعها أو التحالف معها وفق مبادئها. الوضوح وجدية البرنامج الذي يفصل كل الملفات الرئيسية المفترض معالجتها لبناء دولة لدى «ممفد» – بصرف النظر عن تنوّع الآراء حيال هذا البرنامج – غير موجودَين لدى أي مجموعة أو هيئة أو تنظيم مدني أو حزب، الأمر الذي يخلق تفاوتاً واسعاً في طريقة النقاش والأهداف؛ فبدلاً من أن تقتنع المجموعات المدنية منذ 9 سنوات أن نقطة ضعفها الأساسية تكمن في هذا الشق بالذات، وفي التلهي الدائم بإنتاج ائتلاف مستحيل، فيفوتها القطار في كل مرة ويتضاعف إحباط الناس التي توليها ثقتها، فإن جلّ ما تحققه هو الاتفاق على عدم الاتفاق. «هي الخرطوشة الأخيرة»، يقول أحد رؤساء المجموعات الساعية إلى التحالف، «إما ننجح في إنتاج ورقة سياسية واحدة أو نفترق».
لكن، أليس السعي الى إعداد مشروع مشترك بالقوة بين الأضداد، تضييعاً لفرصة تغييرية بدفع من الشعب؟ «لا بدّ من المحاولة، فليس ثمة خيار آخر أمامنا». تتفق الغالبية مع كلام الأخير، بينما فهم بعض المجموعات أن سلوكه طريقاً مختلفاً، هو وحده الكفيل بتعويمه انتخابياً عند الاستحقاق المقبل، فانطلق للتحول الى حركة سياسية، وإعداد ورقة سياسية واضحة تفسر رؤيته في القضايا الاقتصادية والمالية والسيادية، كحزب «مسيرة وطن» قيد الإنشاء. وثمة أحزاب في المقابل تعمل على نقاط توافق في ما بينها، كالتنظيم الشعبي الناصري والحزب الشيوعي. فباعتقاد البعض أن الجبهة الموحدة لعدد كبير من المجموعات تفيد حصراً في حال كانت مرحلية وهدفها انتخابياً، ولكنها لا تنفع إذا كان المطلوب مواجهة سياسية وتغيير سلطة.
النواب المستقيلون: جبهة مواجهة سياسية
يعمل النواب المستقيلون، سامي الجميّل وبولا يعقوبيان وميشال معوض ونعمة افرام على عقد تحالف مع بعض مجموعات الانتفاضة كـ«عامية 17 تشرين» و«تَقَدُم» و«لقاء تشرين» و«أنا خط أحمر» الى إنشاء جبهة سياسية. يجري التباحث حالياً في برنامج مشترك. ما زالت النقاشات في بدايتها. لكن أساسها التوافق على ضرورة المواجهة من خارج المؤسسات بدعم شعبي فاعل، لتنفيذ خطة انتقالية للسلطة توصل الى إجراء انتخابات متتالية لعدد كبير من المناصب والسلطات. هنا أيضاً، ظهرت اختلافات في الأجندات بين النواب السابقين الطامحين إلى تسويق نظرية الحياد والمشددين على إجراء انتخابات لافتراضهم أنهم سيضاعفون نتائجهم وينجّحون أنفسهم ومن ينتقونه ضمن لائحتهم، وبين المجموعات التي تريد حرباً مع المصارف وترفض الرهان على الخارج، وترى في الانتخابات المبكرة استعجالاً، وأنها لن تؤدي سوى الى خسارتهم تماماً كما الانتخابات السابقة. يبقى خوف المجموعات أيضاً من أن تغلب الطموحات السياسية والمطامع الشخصية للنواب على ما عداها، فيسعون الى ابتلاع تمثيل المجموعات للفوز بـ«شرعية» الانتفاضة.
الأخبار