مجلة وفاء wafaamagazine
تُجمع الأوساط السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة، باستثناء دونالد ترامب، على اتهام روسيا بالمسؤولية عن الهجوم السيبراني الواسع الذي تعرّضت له مؤسّسات رسمية أميركية مهمّة، كوزارة الطاقة وإدارة الأمن النووي الوطنية، التي تدير مخزون الأسلحة النووية في البلاد. حجم الهجوم وطبيعة المؤسّسات التي استهدفها، وما سبقه من عمليات سيبرانية مشابهة في بلدان مختلفة، بينها الصين وروسيا وإيران والكيان الصهيوني، جميعها معطيات تؤكد أن هذه الهجمات في صدد التحوّل إلى أحد الأوجه الرئيسة للحرب الهجينة التي يشهدها العالم. تعيد التطوّرات الأخيرة تسليط الضوء على وظيفة رئيسة من وظائف الفضاء السيبراني، الذي أشرف المجمع العسكري – الصناعي – العلمي الأميركي على بنائه، ووقَعت بقية بلدان المعمورة في شرك “شباكه”، وهي ترسيخ سيطرة واشنطن على تلك البلدان. غير أن دولاً عديدة، كبيرة ومتوسّطة، كرّست خلال العقدين الماضيين جهوداً وإمكانيات ضخمة لمواجهة سيطرة واشنطن، واستخدام “الأداة” نفسها، الأميركية المنشأ، ضدّ مخترعيها. محطّة حاسمة في هذا الإطار كشف عنها مقال لافت على موقع “فورين بوليسي” بعنوان “الصين استخدمت معلومات مقرصنة لكشف عملاء الاستخبارات المركزية في أفريقيا وأوروبا”، لزاك دورفمان، أحد كبار الباحثين في برنامج “أسبين” الرقمي، المخصّص لقضايا الأمن الوطني والسيبراني في معهد “أسبين” الأميركي. وفي الواقع، فإن عنوان المقال، الذي يركّز على أحد التفاصيل الواردة فيه، لا يعكس غنى المعطيات الأخرى التي يزخر بها، والتي حصل كاتبه عليها من مقابلات مع عشرات العاملين الحاليين أو السابقين في الأجهزة الأمنية الأميركية. ربّما كان عنوانه الأنسب هو خلفيات الحرب السيبرانية الأميركية – الصينية، وهي خلفيات مشابهة للحروب الدائرة كذلك بين أميركا ودول كروسيا وإيران.
كيف اخترقت أميركا الدولة الصينية؟
يقول زاك دورفمان، إن المسؤولين الصينيين تيقّنوا عام 2010 من أن الاستخبارات الأميركية اخترقت لسنوات طويلة المؤسّسات العسكرية والأمنية لبلادهم، وكذلك “الحزب الشيوعي” ومواقع أخرى في الدولة الصينية. “استغلّت الأجهزة الصينية خللاً في نظام الاتصال عبر الإنترنت الذي استخدمه عملاء الاستخبارات المركزية، وهو خلل كشفه الإيرانيون أولاً وأطلعوا الصينيين عليه، لمعرفة هوية المخبرين داخل مؤسّساتهم واجتثاثهم بلا رحمة بين عامي 2010 و2012”. المثير للانتباه هو أن دورفمان يعترف بأن الفساد المستشري في الصين مع بداية الألفية الثانية هو الذي مكّن الاستخبارات المركزية من تجنيد العملاء المحليين: “كانت الأموال القذرة تتدفّق بحرّية. بقي متوسّط الراتب دون 2000 يوان شهرياً، أي ما يوازي 240 دولاراً، لكن المداخيل الفعلية للموظّفين الرسميين كانت أعلى بكثير من رواتبهم. وكان يُنظر إلى الموظف غير المتورّط في الفساد كأبله أو كتهديد من قِبَل زملائه. المال كان قادراً على شراء أيّ شيء، بما فيه المستقبل المهني، وكان لدى الاستخبارات المركزية الكثير منه”. أظهرت الاستخبارات المركزية كرماً بالغاً مع مخبريها. بحسب مسؤول سابق فيها تحدّث مع دورفمان، “فإن كنت رئيس محطة الاستخبارات في إحدى سفارات الأهداف الصعبة، أي الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، كان بإمكانك أن تحصل على مليون دولار سنوياً لقاء عملك معنا”. دعمت الاستخبارات المركزية عملاءها في الصين لتمكينهم من دفع الرشى التي تسمح بترقيتهم في المؤسّسات التي يعملون فيها، وذهبت في العديد من الحالات إلى حدّ تحمّل أكلاف تعليم أبنائهم في جامعات أجنبية، وكذلك تلك الخاصّة بإقامتهم.
مع اتّضاح مدى الاختراق، اعتبرت القيادة الصينية أن مكافحة الفساد أولوية مرتبطة بالأمن القومي، وهو ما يفسّر عشرات آلاف المحاكمات لهذا السبب بعد وصول شي جينبينغ إلى السلطة، على الرغم من مساعي الإعلام الغربي لتصوير عمليات التطهير التي شرع فيها كجنوح نحو المزيد من الاستبداد. وقد اتّضح مع تسريبٍ لإدوارد سنودن، في عام 2013، مستوى اختراق المركز الرئيس لشركة “هواوي” في الصين من قِبَل وكالة الأمن القومي الأميركية. أدركت القيادة الصينية، وفقاً لمصدر إضافي في الاستخبارات المركزية ذكره دورفمان، أن “ما لم تتنبّه إليه هو أن نظام الإنترنت الذي اخترعه غيرها بات سلاحاً ضدّها”. بدأ الهجوم الصيني المضادّ عام 2010 مع تطوير الصين لبرنامج مراقبة لرحلات السفر عبر العالم، يتضمّن بنوكاً للمعلومات عن المسافرين والرحلات. وهي عزّزت، في موازاة ذلك، قدراتها على قرصنة المعطيات الشخصية عن المسافرين، الموجودة في عدّة مطارات في العالم، كمطار بانكوك الدولي مثلاً. هي نجحت في مرحلة تالية في قرصنة “مكتب إدارة شؤون الموظفين الأميركي”، ما أتاح لها الحصول على معلومات شخصية حسّاسة عن 21,5 مليون موظّف رسمي أميركي وزوجاتهم، وعن الأشخاص الذين تقدّموا بطلبات للعمل في المؤسّسات الرسمية، وبينها معلومات تتعلّق بأوضاعهم الصحّية وأماكن إقامتهم ووظائفهم وبصماتهم وبياناتهم المالية.
اعترفت الولايات المتحدة بوقوع هذا الاختراق في عام 2015. ولا شك في أن المجابهة الأميركية – الصينية تزداد احتداماً منذ ذلك التاريخ، وأن التعاون الجدّي بين الدول المتضرّرة من سياسات السيطرة والاختراق الأميركية أصبح أمراً واقعاً، وهو ما يؤكده المقال.
التصدّي للاختراق ومكافحة الفساد
ما لا يشير إليه كاتب المقال هو أن السعي الأميركي إلى تجنيد شبكات ضخمة من المخبرين في الصين تمّ في حقبة لم تكن الأخيرة فيها مصنّفة خصماً للولايات المتحدة، أي قبل عام 2012 وخطاب باراك أوباما الشهير عن الاستدارة نحو آسيا. هي، أي الصين، دخلت الحرب السيبرانية وباتت تتفوّق في ميادينها ضمن منطق دفاعي أساساً، أي الدفاع عن سيادتها وعن مؤسّساتها في مقابل المحاولات الأميركية للنيل من هذه السيادة. الأمر نفسه ينطبق على روسيا وإيران. وعندما أكّد الرئيس الصيني أن الفساد أضحى تهديداً وجودياً للدولة ولوحدة بلاده، نجم ذلك عن اقتناعه بأن الفساد يفسح المجال لاختراق مؤسّساتها الأمنية والعسكرية والسياسية من قِبَل الأعداء قبل أي اعتبار آخر. ما ينطبق على الصين، العملاق الصاعد، ينطبق أكثر على الدول والشعوب المناضلة من أجل التحرّر والاستقلال الحقيقي. مكافحة الفساد واجتثاث المفسدين هما مهمّة راهنة لِمَن يسعى إلى التحرّر، لأن الفساد هو الثغرة التي يتسلّل الأعداء منها إلى الداخل، وكثيراً ما تؤخذ القلاع من داخلها!
الاخبار