الإثنين 21 تشرين الأول 2019
كتبت لينا فخر الدين في جريدة الجمهورية:
ينثر المتظاهرون الفرح في وسط بيروت. هذه ليست حركة احتجاجيّة فحسب، بل»كرنفال» بكلّ ما للكلمة من معنى. رقصٌ وأغنيات وحتّى «نرجيلة» في الشوارع. يظهر هؤلاء كما لو انّهم استردّوا مدينتهم للتوّ.
هنا، وسط بيروت. المواطنون يملأون الساحات. يصعب الانتقال من مكان إلى آخر، لشدّة الازدحام. يضع البعض يده على كتف الآخرين لمدّ جسر عبور بين المتظاهرين. من يريد أخذ قسط من الراحة يجلس على حافة الطرقات وداخل حديقة رياض الصلح، وحتى أنّ بعضهم اعتلى بعض المباني المُجاورة، أو حتى المحال التجارية التي كُسرت أبوابها وواجهاتها.
مواطنون من جميع الفئات العمريّة والطبقيّة والمناطقيّة والطائفيّة والحزبيّة تصرخ «ثورة… ثورة». بيروت بجميع أطيافها مجتمعة في مكانٍ واحد. يسهُل التعرّف الى المجموعات التي تنادي بحقوقها، كلّ على طريقته. اليساريّون هنا. هؤلاء يلفّون الكوفيّة حول أعناقهم ويطالبون باسترجاع الأموال المنهوبة وإسقاط النظام الطائفي. يرقصون على أنغام أغنية مصريّة تتحدّث عن حكم عبد الفتاح السيسي. بالنسبة لهم، لا فرق بين السيسي وحكّامنا. تنتهي الأغنية، فيحمل أحدهم مكبّر الصوت ليكيل الشتائم للسياسيين، مطالباً بإسقاط حكم المصرف والسياسات الاقتصاديّة. يردّد الواقفون في الساحة الشّعارات. يرفع هؤلاء قبضاتهم عالياً صارخين: «هيلا هيلا هيلا هو… جبران باسيل…». يمكن ملاحظة حماسة المتظاهرين عندما تأتي سيرة باسيل!
قليلةٌ هي الأمتار التي تفصل اليساريين عن حلقة أخرى. هي مجموعة شعبيّة لشبّان وشابّات يرقصون على أنغام أغنيّة شعبيّة. وليس بعيداً عنهم، حلقة من النسويّات. يمكن الاستدلال عليهم بسهولة، ليس فقط ممّا خطّ على مكبّر الصوت التي تحمله إحداهنّ: «للنسويّات فقط»، وإنّما للأغنيات التي تردّدها: «طالعة عالشارع تتظاهَر… طالعة…».
يختلف المشهد كلياً عند الاقتراب من شارع اللعازريّة: شبّان وشابّات فوق آليّة كبيرة يرقصون، بينهما اثنان حوّلا العصي التي يحملانها إلى سيفٍ وترس. مُغنٍ أتى خصّيصاً لهذه المناسبة. المتظاهرون يتحلّقون حول الآليّة رافعين العلم اللبناني. يرقصون على وقع أغنية: «لبنان رح يرجع والحق ما بيموت»، يصدح صوتهم عالياً في الساحة وهم يرددون الأغنية. تهزّ طفلة، لم تبلغ عامها الأوّل، يديها يميناً ويساراً على أنغام الأغنية. الفرح بادٍ على الوجوه. هنا مشهديّة 14 آذار تُعاد بحذافيرها.
جوليا «محظورة»
تتداخل الاغاني، لاقتراب الآليّات المُحمّلة بالصوتيّات، ببعضها البعض. يدخل صوت النشيد الوطني على بُعد أمتارٍ قليلة من مكبّر صوت بأغنية لفيروز: «بيقولوا زغَيّر بلدي». وحدها جوليا كانت «ممنوعة» في هذه التظاهرة، بعدما أعلن عدد من المتظاهرين رفضهم لأن تكون أغنية زوجة وزير في الحكومة، هي شعار إسقاط هذه الحكومة!
مجموعة أخرى تقف بالقرب من ساحة الشهداء، يتحلّق هؤلاء في حلقات الدبكة. المغني آلان مرعب يبدو أنّه نجم هذه المجموعة التي تُعيد بعضاً من أغانيه المَنسيّة. فوقهم مباشرةً يصفّق بعض الشبّان الذين اعتلوا لافتة إعلانيّة كبرى لإحدى شركات السفر والسياحة لتسهيل الهجرة إلى كندا. لا يعير أحدهم الانتباه إلى هذا الإعلان. هم، وكأنهم نسوا الهجرة لأيّام معدودة. فوطنهم عاد إليهم.
يفترش البعض الأرض. يتمايلون على أنغام الأغاني. يرفعون بيد العلم اللبنانيّ وباليد الثانية «نربيج النرجيلة». عشرات الشبّان والشابات حملوا «نرجيلاتهم» وأتوا إلى الساحات، تجمّعوا بالقرب من مبنى اللعازريّة. فيما البعض الآخر جلس في الساحة المواجهة لساحة الشهداء، من دون أن ينسى حمل بعض الكراسي والطاولات من منزله!
مَن جاع يجد له محلّاً في الشارع المُحيط برياض الصلح. النّاس ينتظرون دورهم لشراء بعض الحاجيّات. إستعادت هذه المحال التجاريّة «عزّها» الذي خسرته منذ أكثر من 8 أعوام. أمّا من فَضّل البقاء في الساحات، فإنّ البائعين أتوا إليهم: عشرات العربات تقف عند ناصية الطرقات لبيع قناني المياه و»عرانيس» الذرة، وحتّى كعكة جبنة ساخنة. علامات الرضى تعلو وجوه البائعين. هؤلاء أيضاً «معتّرين»… ولو أنّهم يربحون من جيوب الثوّار.
وإلى جانب العربات، ركنت حافلتان ملوّنتان. لا أحد يعلم كيف دخلتا أمام تدفّق المتظاهرين، تماماً كما لا أحد يعلم ما إذا كان السائقون اختاروهما كرمزيّة لبوسطة عين الرمّانة. ولكن من فيها غير آبهٍ بكلّ هذا. هم يرقصون على سطحها. يحاول أحد السائقين شق طريقه وسط الجموع. يصرخ أحد المتظاهرين، يرشقه ولدٌ بعبوة مياه فارغة. يبتعد المتظاهرون ظنّاً منهم أنّ إشكالاً سيقع. تبعد الأم ولدها، معتذرةً من المتظاهرين… «وتنتهي على خير».
في المقلب الآخر، إمرأة تأتي بقالب حلوى احتفاء بعيد ميلاد زوجها. يتحلّق حولها بعض المتظاهرين، ويغنّون له.
لا يختلف اثنان داخل الساحات أنّ هذه ليست حركة احتجاجيّة وإنّما هي أشبَه بـ»كرنفال الثورة». الجميع هنا يرقصون ويغنّون. وحتى من لم يتخلّ عن مظاهر جديته، حدّق بسرور بمظاهر الفرح هذه. يتصرّف الموجودون هنا كما لو أنّهم استردّوا مدينتهم من المسؤولين، كما لو أنّهم استعادوا ذواتهم التي فقدوها من جرّاء حكم السلطة. فما عاد شيئاً نافعاً. هنا، كُسرت هيبة المسؤولين، وصارت الأمور تسمّى بمسميّاتها الفعلية: «الفاسد والسارق والحرامي والكاذب»… لكلّ سياسيّ هنا لقبه.
إكتشاف المدينة
بعض هؤلاء المتظاهرين قرّر اكتشاف مدينته، قلّة من الشبّان سمعوا عن «دار أوبرا» في وسط العاصمة، تماماً كمبنى «الدوم» البيضوي (نسبةً لشكله الهندسي). مبانٍ ما زالت مُدمّرة منذ الحرب الأهليّة، دخلها المتظاهرون بعدما كسر بعض المحتجّين أبوابها، وخَطّوا عليها: «الفقير قبل الزعيم».
داخل هذين المبنيين، مواطنون يصوّرون الأعمدة المتدليّة، كما لو أنّهم في نزهة سياحيّة. آخرون حملوا «الدربكّات» لإطلاق الشتائم في حق فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وجبران باسيل، طالبين من الآخرين التقدّم نحوهم. هنا، يبدو الصوت أعلى. في حين أنّ آخرين اعتلوا هذين المبنيين ليشاهدوا بيروت من فوق: حجافل من المتظاهرين في كلّ مكان.
بلا ضربة كف
ولكن يبقى الأهم من كلّ ذلك، أنّ التجمّع الأكبر الذي حصل أمس لم تتخلّله ضربة كفّ واحدة. هذا ما حَمّس بعض المترددين بالنزول إلى الشارع. السيارات المتوقفة الى جانبي الطريق، وتمتد من أمام السراي الحكومي وصولاً إلى شارل حلو، تؤكّد حجم المشاركين. وكذلك شوارع بيروت، حيث حركة السير خفيفة كيوم أحد عادي، ولكن المارّين كُثر. هؤلاء كانوا يتوجّهون كعائلات من كبيرهم إلى صغيرهم. لفّوا أنفسهم بالعلم اللبناني، حملوا عبوات المياه وتوجّهوا سيراً على الأقدام إلى وسط بيروت.
كلّ شيء هنا يطمئهم، لا إقفال للطرقات. مظاهر إشعال الإطارات المشتعلة غابت عن المشهد، ولو أنّ سائقي الدراجات النارية أبقوا على عاداتهم فجابوا شوارع العاصمة مُطلقين الزمامير ومرددين «الشعب يريد إسقاط النّظام».