مجلة وفاء wafaamagazine
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، قداسا إلهيا في المطرانية في بيروت، في حضور عدد من المؤمنين.
بعد القداس، ألقى المطران عودة عظة قال فيها: “نعيد اليوم، في الأحد الذي يلي عيد العنصرة، لجميع القديسين. هذا لا يعني أننا نعيد فقط للذين أعلنت الكنيسة قداستهم، بل أيضا لجميع المؤمنين الأحياء الساعين إلى القداسة، والذين نذكرهم في كل قداس إلهي قائلين: “القدسات للقديسين”. كل مؤمن معمد لديه جهاد مقدس، هو الوصول إلى التأله، أي إلى القداسة التي فقدناها عندما سقط آدم الأول في الخطيئة. يدعونا الكتاب المقدس، على لسان الرسول بطرس، إلى أن نكون قديسين: “لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأني أنا قدوس” (1بط 1: 16). يذكرنا قول الرسول بطرس بما طلبه الله منا في سفر اللاويين قائلا: “إني أنا الرب إلهكم فتتقدسون وتكونون قديسين، لأني أنا قدوس” (لا 11: 44). إذا، جهاد المسيحي الحق هو أن يتقدس، متشبها بأبيه السماوي، لا أن يعادي إخوته البشر من أجل مصالح ومآرب. الواجب الوحيد للمسيحي هو أن يحمل صليبه ويتبع المسيح، أن يتألم من أجل الآخر، لا أن يؤلم الآخر”.
أضاف: “سمعنا في الإنجيل: “من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني، من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني”. إن قديسي الكنيسة أحبوا المسيح أكثر من كل ما في العالم، ومحبتهم هذه لا تنتمي إلى الطبيعة المخلوقة، إنما هي هبة من الله. لقد أحبوا الله حتى أبغضوا ذواتهم، وهذا أمر يعبر عن كمال المحبة حسب قول القديس المعاصر البار صوفروني سخاروف. القديسون هم الذين وصلوا إلى مقت الأنا، عندما قارنوا أنفسهم بيسوع الإنسان الحقيقي والإله المتأنس. لقد تعلموا منه، كيف يتركون كل ما لديهم ويتبعون الله، محبين وطائعين. القديسون هم الذين أقاموا علاقة شخصية مع المسيح من خلال الصلاة وأسرار الكنيسة. فقد أحبوا وصاياه، وبحفظهم لها عرفوه معرفة أعمق. فضيلتهم الأساسية هي التواضع، الدواء الشافي لعلة الشر الأولى، أي الكبرياء. التواضع المقرون بالصلاة يشدد الإنسان بقوة الروح القدس، لذلك نعيد في الأحد الذي يلي العنصرة لجميع القديسين معا، لأنهم ثمار قوة الروح القدس المقدسة”.
وتابع عودة: “في إنجيل اليوم، بعد أن أظهر لنا المسيح الرب بوضوح أن محبتنا تجاهه لا تتوقف عند حدود الطبيعة، بل تفوق المحبة الطبيعية القوية تجاه الأب والأم والأولاد، كشف لتلاميذه المجد العظيم الذي سيملكه من ترك كل شيء وتبعه. فإلى جانب عدم عبورهم الدينونة، سوف يدين الرسل العالم مع المسيح. لقد سأل بطرس المسيح: “ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟” (مت 19: 27)، فأجابه الرب: “متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضا على إثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر” (19: 28).
يسمي المسيح نفسه “إبن الإنسان”، وهو اللقب الذي نقرأه في إنجيل يوحنا، حيث أعطى الله الآب لابنه سلطانا أن يدين أيضا لأنه ابن الإنسان (يو 5: 27). لقد استخدم المسيح عدة طرق ليصف لسامعيه سر دينونة العالم. إن وصف يوم الدينونة في إنجيل متى قائم على فصل الجداء عن الخراف (25: 31- 46)، أما اليوم فينكشف لنا تفصيل مهم جدا من هذا السر. فدينونة العالم ستعلن الإنسان الحقيقي “بمجد” في شخص ابن الله، كما سمعنا في الإنجيل: “متى جلس ابن البشر على كرسي مجده”.
وأردف: “الدينونة في جوهرها هي مقارنة، بما أن الجميع سيخرجون إلى النور. لن تتم المقارنة بين المسيح والناس فقط، بل بين القديسين، تلاميذ المسيح الأبديين، وبين الناس. سوف يديننا الناس الذين يعيشون معنا، أو الذين عاشوا معنا بحسب العادات الخارجية نفسها، لكنهم لم يتكاسلوا، كما فعل كثيرون، بل حفظوا وصايا المسيح. هؤلاء سيسحقون كل ما سنقدمه لضمائرنا، نحن الخطأة، من أعذار لكي نسكتها. هكذا، بحسب القديس سمعان اللاهوتي الجديد، “سيدان آباء من آباء، أصدقاء وأقارب من أصدقاء وأقارب، إخوة من إخوة”، وكل إنسان خاطئ “سيرى إزاءه من يشبهه وسيدان منه” في يوم الدينونة الرهيب.
خلال المجيء الثاني للمسيح، لن يعبر القديسون في الدينونة، لأنهم عبروا فيها خلال حياتهم. قد نستغرب عندما نسمع هذا الكلام، لكن علينا أن نتعلم كيف عبروا الدينونة المستقبلة قبل رقادهم. إن مخافة الموت ترتبط أساسا بمخافة الدينونة التي تتبعه، تاليا تتغير حياتنا إذ ننفض عنا ثقل الخطايا. يتغير موقفنا من الموت عندما نعيش على الأرض دينونتنا المستقبلة. يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث إن نعمة الله تنكشف للعائشين وفق مشيئته. هذا الكشف الإلهي هو دينونة للإنسان، لذلك نرى أن أبرار العهد القديم وقديسي الكنيسة لديهم فكر متواضع عن أنفسهم. أما الكبرياء، فتدل على أن نعمة الله غائبة عن الإنسان، لذا فإن حفظ الوصايا يجعل من الإنسان مسكنا لله، واكتشافه لذاته يحقق الدينونة”.
وقال: “من خلال هذا كله، يظهر لنا أن الكنيسة تدخلنا في شركة مع الله، وتقودنا إلى عيش الدينونة قبل المجيء الثاني، عندئذ يتجدد العالم وينتصر على الموت نهائيا. عمل الكنيسة يأخذ أبعادا أوسع من التي نعطيها له عادة، فهو يقود الإنسان إلى حرية لا تعرف حدودا، إلى حرية تكون ثمرة الطاعة لمشيئة الله، وتتخطى أيضا حد الدينونة الأخيرة. فكيف نسلم أنفسنا إلى حكم الله ضمن الأعمال اليومية؟ يجيب القديس يوحنا السلمي: “بالصلاة”، لأن الصلاة الحقيقية “هي محكمة الرب وميزانه وعرش دينونته، الذي يسبق العرش الآتي”. بالصلاة تكشف نعمة الله خطايانا وتقودنا إلى التوبة الصادقة وإلى تغيير نفوسنا. من هنا، لا تتوانى الكنيسة عن الإضاءة على العثرات، لأن همها خلاص البشر، على عكس ما يقوم به البشر بعضهم تجاه بعض. فالزعيم والمسؤول همه أناه، ومصلحته، حتى لو تعارضت مع المصلحة العامة. لذلك، لو قام كل مسؤول بمساءلة نفسه يوميا ومحاسبتها، لكانت المسكونة بخير وسلام. الدينونة الذاتية، أي محاكمة النفس، مهمة جدا، وعندما لا يمارسها الإنسان، المسؤول بخاصة، تجد الكنيسة نفسها مضطرة على الإضاءة على الهفوات من أجل خير الجميع. ففي بلدنا يموت البشر بحثا عن رغيف خبز أو صفيحة بنزين، وقد هزنا، كما كل الرأي العام، خبر مأساة العائلة التي قضت بسبب البحث عن وقود من أجل الوصول إلى المطار، لاستقبال رب العائلة الذي هاجر بحثا عن لقمة عيش لم يؤمنها له بلده. مع هذا، لم يتحرك ضمير المسؤولين، بل أبقوا على نهجهم السياسي التدميري في إطلاق البيانات والبيانات المضادة، متجاهلين مآسي شعب هلك رجاؤه، وساعين نحو مصالح ضيقة شخصية فقط. ما عدد الشبان الذين يجب أن يهاجروا بعد؟ ما عدد الأطفال الذين سيجوعون بعد؟ أو المرضى الذين سيعانون بلا دواء أو طبابة؟ وما مدى الذل أو اليأس الذي يتحمله المواطنون بعد؟ نحن في بلد يخلو من أدنى حقوق الإنسانية، والتناكف والتناحر إلى ازدياد. الأزمات تتفاقم، والمشكلات تتضاعف، والفراغ أصبح قاتلا. نحن نعيش خواء سياسيا وتدهورا إقتصاديا وانحطاطا أخلاقيا يستغل بموجبه الإنسان، تاجرا أو مستوردا أو محتكرا، أخاه الإنسان. لقد مرت بلاد أخرى بالإمتحان الصعب الذي نمر فيه، لكن الفارق بيننا أن المسؤولين فيها سارعوا إلى المبادرة وإيجاد الحلول، أما عندنا فقد أسقطت كل المبادرات، وعطلت كل الوساطات الداخلية والخارجية، وكأن الحلول ممنوعة والإنقاذ مرفوض”.
ولفت الى أن “القطيعة وحدها تجوز عندنا، والخلافات على المكاسب والحصص تؤدي إلى التعطيل، فيما الطبيعي أن يجتمع المسؤولون، كل المسؤولين، عند المصائب والأزمات، ويتكاتفوا لإيجاد المخارج، متناسين أنفسهم ومصالحهم. إن خطورة الأوضاع الإقتصادية والمالية والإجتماعية والإنسانية تستوجب عملا إنقاذيا سريعا، لكن المؤسف أن المخاض طال كثيرا وتكاد الأم والجنين يموتان معا ولا أحد يبالي، الخارج لا يريد للبنان أن ينهار ومسؤولوه لا يعملون شيئا لمنع الإنهيار. الإتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية متضامنة مع لبنان وشعبه، تتحسس معاناته وتريد مساعدته، شرط أن يسرع المسؤولون بتشكيل حكومة تقوم بخطوات إصلاحية، ولا أحد يبالي. ماذا سيفعلون إذا خرج الوضع عن السيطرة؟ ما زلنا نعول على يقظة الضمائر وصحوة الحس الوطني عند الجميع. نحن محكومون بالتعايش والحوار وقبول الآخر والتفاهم معه وتقرير مصير بلدنا معا، مدفوعين أولا بمحبتنا له وتعلقنا به، ولأن مصيرنا فيه واحد مهما حاول البعض فصل نفسه عن الآخرين. فكما أن الشمس تشرق على الجميع، هكذا الكهرباء إذا استعصى حلها يعيش الجميع في الظلام، وإذا شحت المحروقات أو أغلقت المستشفيات أو انقطع الدواء فجميعنا نعاني. لذلك على الحكماء في هذا البلد، والمسؤولين الحقيقيين الذين يهتمون لمصيره، أن يسارعوا إلى الإجتماع والبحث عن مخارج للأزمة تنقذ الجميع، مهما كانت التضحيات. والممر الإلزامي هو تشكيل حكومة تتولى زمام الأمور”.
وختم عودة: “نحن نحمل صليبا كبيرا، ونعي أن الخلاص لا يأتي إلا من فوق، من لدن المسيح الإله. التجارب والآلام تضع الشعب على طريق القداسة، أما الدينونة، فسيكون هذا الشعب المتقدس كله جالسا فيها يدين السياسيين والزعماء على ما جنت أيديهم. دعوتنا اليوم أن نسعى إلى القداسة، من خلال السير وراء الرب فقط، والتمثل به فقط، لا ببشر قد شوهوا الصورة والمثال، آمين”.