مجلة وفاء wafaamagazine
الحلول الرسمية المطروحة لأزمة المحروقات وضمان وصول المعلمين والتلامذة إلى مدارسهم ليست مستدامة، ولا توفر الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لهم. ويبدو أن ارتفاع كلفة النقل ستعيد تموضع السكان والانتقال إلى أماكن قريبة من المدارس أو تغيير المدرسة أو النزوح من التعليم الخاص إلى التعليم الرسمي القريب، ما يعيد إلى الواجهة طرح تشريع التعليم المنزلي كخيار أساسي للتعليم
خلال العقدين الأخيرين، انتقل عدد كبير من المدارس الخاصة إلى ضواحي المدن الكبرى، إما بسبب بيع العقارات في المدن وجني أرباح من ارتفاع أسعارها من جهة، أو لتوسعة المباني وتجديدها استجابة لحاجات التعليم الحديث واستيعاب عدد أكبر من التلامذة في مناطق متاخمة لمدينة بيروت (عرمون، خلدة، الشويفات، الفنار، عين سعادة، اللويزة، بعبدا…) وطرابلس (الكورة وزغرتا) وصيدا (عبرا ومجدليون).
اليوم، مع اندلاع أزمة المحروقات وارتفاع كلفتها، ماذا سيفعل المعلمون والتلامذة لبلوغ مدارسهم التي تقع خارج نطاق سكنهم؟ وهل ستنعكس الأزمة على المدارس الرسمية والمجمعات المدرسية في الأرياف المبنيّة خارج القرى؟
الوقائع تشير، بوضوح، إلى أن الوضع ذاهب إلى التأزم، فيما الحلول الرسمية المطروحة ليست مستدامة ولا تؤمن الحدّ الأدنى من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لغالبية مكونات المجتمع. فأسعار المحروقات إلى ارتفاع، والتكيّف مع هذا الواقع شبه مستحيل في غياب البدائل مثل النقل العام ودعم سيارات الأجرة أو سعر المحروقات للمعلمين أو رفع بدلات النقل أو غيرها من الحلول.
وفي الواقع، فإن رفع بدلات النقل للمعلمين من 8 آلاف إلى 24 ألفاً، أي إعطاؤهم مبلغاً شهرياً لا يتعدى 500 ألف ليرة أو ما يقارب صفيحة ونصف صفيحة من البنزين، لا يكفي لأكثر من أسبوع، وثمة حاجة هنا لأن يتشارك المعلم مصاريف النقل مع ثلاثة من زملائه لتأمين الكلفة.
أما بالنسبة إلى سكان المدن الكبرى من أهالٍ أو معلمين، فالأزمة أكبر، إذ تقارب كلفة الانتقال اليومية 100 ألف ليرة أو أكثر، بحسب المسافة، أي بزيادة مليون ليرة شهرياً إلى القسط السنوي في المدارس الخاصة، بما يعادل قيمة البطاقة التمويلية المزعومة.
الأزمة بدأت بالظهور في العام الدراسي 2018-2019. وبحسب النشرة الإحصائية للمركز التربوي للبحوث والإنماء، انخفض عدد التلامذة في التعليم الخاص، حتى نهاية العام الدراسي الماضي 2020-2021، أي خلال عامين دراسيين فقط، نحو 73124 تلميذاً من كل الجنسيات، منهم 68392 لبنانياً (بينهم 48798 تلميذاً من المدارس الخاصة غير المجانية، و19594 من المدارس شبه المجانية)، فيما ارتفع عدد التلامذة اللبنانيين في التعليم الرسمي 62754.
اللافت أن أعداد التلامذة اللبنانيين في كلا القطاعين الرسمي والخاص تناقص خلال السنتين المذكورتين، وكأن الولادات توقفت في هذا البلد، بينما تزايد عدد التلامذة بمعدل 8 آلاف تلميذ بين العامين 2015 و2017.
انعكس هذا النزوح على أعداد المعلمين الذين تركوا العمل في التدريس أو أٌقيلوا أو أنهوا عقودهم أو غادروا البلد في السنتين الماضيتين لتصل أعدادهم إلى 9590 معلماً، منهم نحو 2000 بلغوا السن القانوني (2276 معلماً في القطاع الرسمي، و6067 في القطاع الخاص غير المجاني و1247 في القطاع الخاص شبه المجاني). عدا ذلك، غادر نحو 4 آلاف معلم لبنان خلال الصيف بعد توقيع عقود في الخارج، فيما لا تزال وزارة التربية والسلطة السياسية ترفضان النظر إلى الوقائع والأرقام وتداعياتها على التعليم بصورة عامة، وتتخبطان لتأمين اللوجستيات مثل الكتب وصفيحة البنزين المدعوم للمعلمين والقرطاسية، في وقت نشهد تداعيات ديموغرافية تتعلق بتوزيع السكان والمدارس قد تحول دون استكمال العام الدراسي، كون كلفة الانتقال من المدارس وإليها تتعدى كلفة التعليم أو الرواتب والبطاقة التمويلية، حتى لو تعاضد الأهالي والمعلمون في جماعات صغيرة لتأمين الانتقال.
كلفة الانتقال من المدارس وإليها تتعدى كلفة التعليم والرواتب والبطاقة التمويلية
ستفرض هذه الكلفة الباهظة إعادة تموضع السكان والانتقال إلى أماكن قريبة من المدارس أو تغيير المدرسة أو النزوح من التعليم الخاص إلى التعليم الرسمي القريب، وقد يكون الحلّ الأنسب هو إيجاد بديل عن شكل المدرسة المتعارف عليه، وإعادة تفعيل المدارس الصغيرة في الأحياء وتشريع التعليم المنزلي، وتعاضد الأهالي والمدرسين لتعليم أولادهم، ضمن آلية حماية اجتماعية واقتصادية وصناديق تعاضدية وغير ذلك من التقديمات التي تضمن وتحفظ حقوق المعلمين وتوفر على الأهالي هدر المداخيل على النقل والانتقال.
لنأخذ مثالاً عما يمكن فعله في المشروع التعاضدي. إذ يمكن 6 تلامذة من المستوى التعليمي نفسه ويقطنون في الحي أو الشارع أو المبنى نفسه أن يجتمعوا في منزل واحد، ويأتي إليهم معلّم أو أكثر يسكنون في منطقة قريبة، ليدرّسوهم أربع أو خمس حصص في اليوم، فيما يبلغ راتب كل معلّم مع التقديمات نحو 4 ملايين ليرة في الشهر، ما يعني أن على كل تلميذ أن يدفع 660 ألفاً في الشهر (أقل من صفيحتي بنزين!)، أي أقل من نصف كلفة مواصلات تلميذ واحد. ويمكن اختيار رفع عدد أسابيع التدريس إلى 30 أسبوعاً لتعويض الفاقد التعليمي الناتج من الحجر الصحي، فتكون الكلفة الإجمالية السنوية لـ 12 شهر تدريس فعلي 8 ملايين ليرة.
لا حاجة لهدر الأموال على الكتب والقرطاسية والألبسة و«الخرجية». كل المجموعة بما فيها المعلّم تحتاج إلى نسخة واحدة من الكتاب ولوح صغير وبعض الدفاتر والأوراق القديمة التي يمكن استخدامها. ويمكن توفير الأدوات من المنزل كشاشة التلفزيون بدل اللوح التفاعلي والطعام المنزلي بدل الدكانة، والمكتبة العامة والإنترنت بدل مكتبة المدرسة، ويمكن الكهرباء والإنترنت أن تكون مؤمنة في المنزل أو يمكن تقاضي كلفتها من الأهالي.
يتطلب هذا الترتيب لتفعيل التعليم المنزلي ثلاثة شروط، أولاً: تشريع التعليم المنزلي ووضع أطر وآليات وقوانين تضمن الترفع والتقييم وغيره من خلال تقديم امتحان سنوي في نهاية العام بإشراف وزارة التربية، ثانياً: شرعنة هذا النوع من التعليم لجهة الحفاظ على حقوق المعلمين وحفظ حقهم في التعويضات كما تنصّ عليها القوانين، بما فيها تنسيق البرمجة الأسبوعية وتغطية مواد التدريس وتوزيع الساعات، ثالثاً: قبول الأهالي وتعاضدهم وإدارة شؤونهم بما يتوافق مع مصالحهم كجماعة وأفراد والتخلّي عن هيمنة المؤسسات التربوية على أفكارهم ووهم العجز والجرأة في تغيير أنماط التعليم.
مع تأزم الوضع الاقتصادي، صار لزاماً على وزارة التربية التعامل مع متغيّر «كلفة النقل» بجدّية لناحية توزيع المعلمين والتلامذة، بحسب مناطق السكن، وتشريع التعليم المنزلي كخيار للتعليم وضمان نوعيته. فالأرقام تشير إلى أزمة كبيرة لدى المدارس الخاصة. وقد تنشأ أزمة مضاعفة لدى التعليم الرسمي، وهما حتماً في أزمة لجهة قيمة الرواتب وكلفة النقل والتعليم.
الأخبار