مجلة وفاء wafaamagazine
غسان سعود – الميادين نت
تَحركُ القوى الأمنية اللبنانية صباح يوم الخميس الماضي لتوقيف شاحنة النيترات تبعه تحرك قضائي وسياسيّ تمثل بالكشف الميداني لوزير الداخلية اللبنانيّ على الشاحنة قبل لقائه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لهذه الغاية. موقع “لبنان 24” الإلكتروني الخاص برئيس الحكومة أشار حرفياً في مطلع تغطيته للحدث إلى كشف “المعلومات الأمنية الجديدة” له أنَّ “نيترات الأمونيوم المصادرة هي في الأصل لشخصيتين معروفتين في المنطقة، أحدهما أثير لغط حول أعماله أخيراً، ما دفعهما إلى بيع هذه الكمية لتاجر من آل الصلح من بعلبك”.
وبالتالي، إن رئيس الحكومة اللبنانية استقبل وزير داخليته فور عودته من البقاع، ليطّلع منه على نتائج التحقيقات الأولية، قبل أن يؤكّد الموقع الإلكتروني الخاص برئيس الحكومة أن نيترات الأمونيوم المضبوطة تعود إلى شخصين، أحدهما أثير لغط حول أعماله أخيراً.
قبل ذلك بعدة أسابيع، وتحديداً حين داهمت القوى الأمنية مزرعة آل الصقر (أحدهما قياديّ في القوات اللبنانية، والآخر ملتزم ومؤيد للقوات) بتاريخ 16 آب/أغسطس، وجدت كمية هائلة جداً من النيترات والأسمدة المدعومة المخزنة لأهداف تجارية.
الكميات المخزنة تكفي السوق اللبناني لعدة سنوات. ومع رفع الدعم، كان واضحاً أن أرباحاً مالية خيالية سيحقّقها من يحتكر الاستيراد على السعر المدعوم والتخزين، ثم البيع بسعر غير مدعوم، وهو ما يرفع الكلفة بالنسبة إلى المزارع، ويرفع الأسعار بالنسبة إلى المواطن، ما دفع النيابة العامة المالية إلى الادعاء على الصقر.
ومع ذلك، فإنَّ القوى الأمنية (التي تصدر بيانات واضحة حين تداهم مخزن أدوية أو مواد غذائية أو محروقات) رفضت إصدار بيان واضح بالمضبوطات، ولم تعلن عن النتائج المخبرية لنسبة الأزوت في النيترات المخزنة، لمعرفة ما إذا كان يستخدم للزراعة حصراً أو لأشياء أخرى، ولم تشر أبداً، رغم كل المناشدات، إلى وجود أو عدم وجود تطابق في النوعية بين نيترات الصقر ونيترات المرفأ، مع العلم أنَّ كمية كبيرة من نيترات المرفأ كانت قد سُرقت قبل التفجير.
أما “القوات اللبنانية” التي تسارع إلى الادعاء عادةً على كل من يذكرها خارج نطاق البروباغندا الموجّهة، فقد التزمت الصمت المريب في ما يخصّ النيترات، لعدم إفساح المجال أمام تفاعل الموضوع أكثر، وسعت إلى “ضبضبته” بكلِّ الوسائل الممكنة.
الأسبوع الماضي، توافرت معطيات عن تحرك شاحنة محملة بالنيترات بقاعاً أيضاً، فما كان من القوى الأمنية سوى التحرك بسرعة لإيقافها واقتيادها بموجب توجيهات مركزية إلى سهل بعيد عن الأحياء السكنية. وفي ظلِّ الصخب الكبير الذي أحدثه توقيف الشاحنة، كان يمكن تسجيل ملاحظات أساسية:
أولاً، من يحقق ويتابع ويلاحق هو فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وهو فرع يفترض أنه موثوق به من قبل “القوات اللبنانية” وتيار “المستقبل” والمجتمع المدني، ولا يمكن أن “يركّب تركيبات” لهم أو “يخترع قصصاً” أو “يسرّب معلومات مضلّلة”، كما ينشط الذباب الإلكترونيّ لـ”القوات اللبنانية” في القول في مواقع التواصل الاجتماعي في معرض الدفاع عن النفس.
ثانياً، من الطبيعي جداً أن يقول مارون الصقر في هذه المرحلة أن لا علاقة له بالنيترات المصادرة، بل من غير الطبيعيّ أن يقول غير ذلك. ولا شكّ في أنَّ “القوات اللبنانية” تستنفر كلّ علاقاتها الخارجية والداخلية للضغط حيث يجب من أجل تثبيت ادعائه، لأن إثبات الاتهام عليه يطيح كل ما حصل منذ انفجار المرفأ.
ثالثاً، نسبة تركيز الأزوت (34.7) في نيترات البقاع هي نفسها نسبة تركيز الأزوت (34.7) في نيترات المرفأ، في انتظار أن تحسم التحقيقات قريباً جداً ما إذا كانت البصمة الصناعية لنيترات بعلبك هي نفسها البصمة الصناعية لنيترات المرفأ: المُصنع وبلد المنشأ نفسهما. وهنا أيضاً، لا توجد سلطة موثوقة تدقّق في عمل الأجهزة الأمنية لتتأكد من صحة ما سيعلنون عنه.
رابعاً، تدقيق الأجهزة الأمنية بيَّن أنَّ عمر التخزين لا يتجاوز عامين، إذ نُقلت النيترات قبل أقل من عامين من أكياس قديمة إلى أكياس جديدة.
خامساً، مكان ركن القوى الأمنية للشاحنة أثار لغطاً كبيراً، نتيجة ربط الإعلام والناشطين في حزب “القوات” بين “حزب الله” والمكان الذي ركنت القوى الأمنية الشاحنة فيه، وهو ما يستوجب التنبيه إلى أنّ خطّ سير الشاحنة ومكان التوقيف غير المكان الذي ركنتها القوى الأمنية فيه.
سادساً، موقع “أساس ميديا” الخاص بوزير الداخلية السابق نهاد المشنوق أشار في سياق مواكبته الخبرَ إلى أن “النيترات المصادرة لا يمكن أن تدخل إلا بطريقة شرعية بترخيص من وزارة الدفاع أو بطريقة غير شرعية من سوريا التي تصنع هذه المواد”. وما سبق ليس تفصيلاً عادياً ينشره موقع المشنوق، إذ قامت نظرية “طويلة عريضة” لإقناع الرأي العام بعد انفجار 4 آب/أغسطس بأنّ هناك من استورد هذه النيترات لمصلحة النظام السوري، وإذا بالموقع الإلكتروني للنائب نهاد المشنوق المتطرف في عدائه لسوريا يقول اليوم إنَّ “سوريا تصنع هذه المواد”.
مرة أخرى، إن موقع نهاد المشنوق (والد صالح المشنوق) هو الذي يتحدث هذه المرة، لا مواقع محسوبة على فريق الممانعة. هذا الموقع هو من يؤكد المؤكد بأنَّ سوريا تصنع نيترات الأمونيوم، وأنها وحلفاءها لا يحتاجون بالتالي إلى تكبّد مشقة استيرادها أو سرقتها أو تخزينها في مرفأ بيروت، بعكس المجموعات التكفيرية (النصرة) التي كانت تتمركز في البقاع، وكانت تستخدم نيترات الأمونيوم لتصنيع العبوات.
سابعاً، أثبتت تحقيقات فرع المعلومات وجود فتيل بطيء يستعمل مع النيترات في تفجير الصخور في الكسارات والمقالع، وهو ما يؤكد استخدام النيترات على نطاق واسع في الكسارات واستيرادها أو سرقتها من العنبر 12 لهذه الغاية، في ظل النفوذ الكبير لأصحاب الكسارات، وبعضهم زعماء سياسيين، وهي واحدة من الفرضيات التي سعى بعض الأفرقاء السياسيين إلى دحضها منذ اللحظة الأولى للتفجير، بهدف الحفاظ على الاتهام السياسي فقط، عبر القول إن نيترات الأمونيوم تستخدم في صناعة المتفجرات حصراً، فإذا كان المسؤول عن إبقائها في المرفأ لسرقتها يريد استخدامها في المتفجرات، فهناك متهمان فقط: “حزب الله” والمجموعات التكفيرية (وكان لديهم في تلك المرحلة عدد كبير جداً من الأصدقاء النافذين في الدولة اللبنانية والسفارات العاملة في لبنان). أما إذا كان المسؤول عن إبقاء النيترات في المرفأ لسرقتها يريد استخدامها في الكسارات والمقالع، فهناك متهمون كثر.
ثامناً، تمثّل الكمية المصادرة تهديداً جدياً لأمن البقاع، لكن الحكومة والقضاء والأجهزة الأمنية تتعامل مع تخزين النيترات بالخفة نفسها التي تعاملت معها مع تخزين المحروقات، من دون أن تأخذ بالاعتبار ما كان يمكن أن يحصل لو وقع انفجار، كأنَّ جريمة المرفأ لم تحصل، رغم أن القوانين واضحة بهذا الشأن.
المؤكد في هذا السياق أنَّ التطابق في النوعية بين نيترات المرفأ ونيترات البقاع يفترض أن ينقل قضية الشاحنة فوراً إلى طاولة المحقق العدلي في جريمة انفجار المرفأ طارق البيطار. ولا يمكن في هذا السياق فهم أو تفهّم تأخّر الأخير أكثر من 3 أيام في التدخل السريع لسحب الملفّ والإشراف على التحقيقات مع المعنيين، وخصوصاً أنَّ معرفة من كان يسرق النيترات من المرفأ أشبه بطرف حبل يوصل إلى معرفة من كان يعمل لإبقاء النيترات في العنبر 12 لمواصلة السرقة والبيع، سواء للمجموعات التكفيرية أو لأصحاب الكسارات، فالقضية المطروحة اليوم أكبر من الأخوين صقر وقواتهما اللبنانية.
القضيّة يمكن أن تخرج التّحقيق في انفجار المرفأ من الزواريب السياسية وتصفية الحسابات ليبدأ من المكان الصحيح: إذا كان موقع المشنوق الإلكتروني (أساس ميديا) يقول إن سوريا تصنع نيترات الأمونيوم، فلماذا تم تسويق غير ذلك سابقاً من فريق المشنوق السياسي؟ ولحماية من؟ من أدخل النيترات؟ من فعل كلّ ما يلزم مع المؤسسات الأمنية والقضائية لإبقاء النيترات في العنبر 12؟ من كان يسرق من العنبر 12؟ لماذا يواصل طارق البيطار التفرّج عن بعد؟ والأهم: من يتمتّع بالمصداقية اللازمة لمراقبة عمل الأجهزة الأمنية والقضائية، التي لا شكّ في أنها أظهرت شجاعة كبيرة حتى الآن في هذا الملفّ، لكنَّ نسف الرواية التي سوّقتها وسائل الإعلام الممولة سعودياً بعيد دقائق قليلة من تفجير المرفأ يتطلّب من هؤلاء أكثر بكثير من هذه الشجاعة.