مجلة وفاء wafaamagazine
كما نبت العشب على جانبي «خط الغاز العربي» بعد تجميد العمل فيه لعقد من الزمن، أطلق الحديث عنه «جدلاً بيزنطياً» سياسياً وديبلوماسياً حاول أصحابه استغلال الحدث، كل في الإتجاه الذي يخدم نظرته الى مستقبل العلاقة بين لبنان وسوريا، وما تتجّه اليه المنطقة، بمعزل عن الظروف التي أدّت الى إحيائه والأسباب الخفية الكامنة وراءه. وعليه، ما هو الجديد الذي يمكن التوقف عنده؟
كتب جورج شاهين في الجمهورية
قبل البحث في الظروف والأسباب التي قادت الى الجدل الذي رافق إحياء العمل بـ «خط الغاز المصري» بين مصر ولبنان، لتزويده الغاز لزوم معامله لإنتاج الطاقة الكهربائية، توطئة لاستيراد كمية إضافية من الكهرباء الاردنية الإضافية، لا بدّ من الإشارة الى تاريخ «خط الغاز العربي» كما عُرف عند انطلاق العمل به لمدة عام 2001، الى 6 دول عربية في المشرق، ومنها الى أوروبا، عندما تمّ التوصل بين كل من الدول الاربع، مصر والأردن وسوريا ولبنان، للتوسع بمدّه في اتجاه العراق، لاستغلاله بضخ الغاز المنتج هناك في اتجاه الحدود التركية والرومانية، تمهيداً لربطه بالخط المعروف بـ»خط نابكو» الممتد من بلاد القوقاز في اتجاه الدول الاوروبية.
ولمن لا يعرف تاريخ هذا الخط، فقد أُنجز الجزء الأول منه عام 2003، والذي امتد من أولى امتاره في مصافي الغاز في مدينة العريش في سيناء الى مدينة العقبة الاردنية، بتكلفة قُدرّت بـ 220 مليون دولار اميركي وبطول 390 كيلومتراً. وامتد الجزء الثاني منه بطول 390 كيلومتراً الى مدينة الرحاب الاردنية الواقعة على بعد 24 كيلومتراً من الحدود مع سوريا، فوصل اليها عام 2005 بكلفة قُدّرت بـ 300 مليون دولار اميركي. أما الجزء الثالث منه، والذي نُفّذ في غضون سنة بطول 324 كيلومتراً، فوصل الى مدينة دير علي في سوريا قبل ان يجري إيصاله عبر محطة الدبوسية الى الحدود اللبنانية فمعمل دير عمار لإنتاج الطاقة، فوصل اليها عام 2008، وهو ما مهّد الى بدء استخدامه عام 2009.
ليس في ما سبق محاولة لتأريخ المراحل التي قطعها المشروع الذي لم يكتمل فصولاً بفعل الحرب السورية التي اندلعت في 16 آذار من العام 2011، فتجمّدت مختلف الخطط التوسعية الى ان حلّت محلّه خطوط أخرى انطلقت من روسيا ودول اخرى، فجعلته على لائحة الخطوط المنسية حتى الأمس القريب. فقد تمّ استبداله بخطوط اخرى، رُبط مصير البعض منها بأسباب اندلاع الحرب في سوريا، بعدما كانت ارضها مركزاً لالتقاء مجموعة منها، وهي الآتية من قطر ودول شرق آسيا، وفي سباق مع خطوط اخرى من روسيا في اتجاه القارة الاوروبية وحوض البحر المتوسط، لتكون مصدراً لتسويق كميات تفيض على 60 % من مصادر الطاقة العالمية.
اما وقد تمّ التفاهم على إحياء ما سُمّي الربط الرباعي بين مصر والأردن وسوريا ولبنان، بعد استثناء دولتي العراق والسلطة الفلسطينية، فقد أعاد الى الضوء استحالة اي فكرة تمدّده في الاتجاهات الدولية الاخرى، وحصره بهذه الدول. مع الإشارة الى أنّ المشروع لم يكن بهدف مساعدة لبنان فقط، لأنّ للدول الأربع مصالح مختلفة كل لحاجاتها الداخلية. فمصر ستزيد من تصدير إنتاجها، والأردن الذي تحوّل دولة منتجة للطاقة، يحتاج الى مزيد من الغاز لزيادة إنتاجه وبيعه للبنان وسوريا. وسوريا كما لبنان تحتاج الى كميات كبيرة لتعزيز قدراتها الإنتاجية، بعدما فقد النظام السيطرة على مصادر الغاز والنفط من مخزون ثرواته في منطقة الجزيرة وغرب الفرات، والتي باتت في ايدي القوات الكردية والاميركية، بعد سيطرة «داعش» عليها لسنوات عدة، امتدت طوال فترة سيطرتها على المنطقة قبل طردها منها.
وعليه، كان لا بدّ للأردن من ان يتحرّك بعد مصر، من اجل إحياء هذا الخط بعيداً من اي ضجيج اعلامي، فجاءت القمة الاميركية – الاردنية في 18 تموز الماضي بين الرئيس جو بايدن والملك عبدالله الثاني، لتطلق الخطوات التنفيذية بعد إسقاط واشنطن المشروع من لائحة العقوبات على سوريا بموجب «قانون قيصر»، ليبدأ الاهتمام به وفق خطط سريعة لاستخدامه مجدداً. وهو ما أثار جدلاً واسعاً في لبنان دون غيره من مجموعة الدول المعنية، وخصوصاً عندما تمّ تصويره على انّه جاء رداً على اعلان الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله في التاسع عشر من آب الماضي، عن بدء استيراد الفيول الايراني تحت شعار فك «الحصار المضروب على لبنان»، بدلاً من القول انّه «لفك العقوبات على إيران»، في خطوة بدت سابقة لساعات قليلة عن إعلان السفيرة الاميركية في بيروت دوروثي شيا عن نتائج المساعي الجارية لتأمين الغاز المصري للبنان، فاعتُبرت ردة فعل اميركية على اعلان نصرالله، فيما الحقائق كانت في مكان آخر.
والدليل كما بات ثابتاً، أنّه لم يكن من الممكن إحياء مثل هذا المشروع بين ليلة وضحاها. فقد امتدت التحضيرات ما لا يقل عن 5 اشهر، بعدما أثارت مصر إمكان أحياء المشروع اولاً، فتبنّته المملكة الاردنية. ولذلك تبين لاحقاً انّ السيد نصرالله هو من استفاد من تلك اللحظة، بعدما علم قبل غيره بالمشروع، فكان ما كان من جدل بيزنطي لم ينتهِ بعد، وإن تراجع الحديث عنه في الساعات الماضية ايذاناً بوقف عملية استجرار المازوت الايراني، مع قرب وصول الباخرة الثالثة التي قد تكون الاخيرة، ميناء بانياس السوري.
على هذه الخلفيات، يمكن القول انّ الجدل الدائر اليوم لم يعد يتوقف عند مصير الغاز المصري، فهو بات على قاب قوسين أو أدنى، في انتظار توفير التمويل عبر البنك الدولي كما وعدت واشنطن بذلك، والتفاهم على مجموعة البروتوكولات التي ستكون مدار بحث بين وزير الطاقة اللبناني ونظيريه المصري والاردني مطلع الاسبوع المقبل، قبل العودة الى اللقاء الرباعي الذي سيعلن عن ساعة الصفر لوصول الغاز، وهو امر مرتقب في غضون أسابيع. لكن ما يجب التوقف عنده، يتركّز حول محاولات قوى مختلفة لاستغلال المشروع، من أجل تبرير مواقفه الداعية الى تطبيع العلاقات بين لبنان وسوريا، والإيحاء انّ العقوبات عليها باتت على مسافة قصيرة من سقوطها النهائي.
ومن هذه النقطة بالذات، فقد جدّدت السفيرة الاميركية في جولتها الاخيرة التي لم تستثنِ احداً، من رئيس الحكومة الى مجموعة الوزراء المعنيين بالملف وصولاً الى لقائها امس مع وزير الطاقة، التأكيد انّ العقوبات على سوريا لم ولن تخرج عن مشروع الغاز وحسب. وإنّ التوسع في تحليل هذه الخطوات لن يفيد قبل تقدّم التسوية السياسية في سوريا، وهي عملية ما زالت بعيدة المدى. وانّ المفاوضات الجارية على أكثر من مستوى لم تصل بعد الى مبتغاها، في انتظار مزيد من المشاورات مع روسيا، والتي ستكون في نهاية المساعي الروسية التي شملت قبل ايام تركيا بعد لقاء القمة الروسي ـ السوري، ليتسنّى بعد كل هذه المحطات الحديث عن متغيّرات كبرى تعيد النظر في المشهد السوري الحالي.
وإلى تلك المرحلة، وطالما انّ اللبنانيين يهوون الجدل البيزنطي، فإنّ البعض سيستمر في الاعتقاد انّ العالم يتحرك في مداره، وهو أمر دون وقفه معوقات كثيرة، الى ان يقضي الله امراً كان مفعولاً.