مجلة وفاء wafaamagazine
هل تُسهم «ثقافة الإلغاء» (cancel culture) في تدمير الكوميديا؟ يبدو أنّ عدداً لا بأس به من الكوميديين المكرّسين حول العالم يعتقدون ذلك. مسألة برزت إلى الواجهة أخيراً بعدما أطلقت «نتفليكس» في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي عرض «ستاند أب كوميدي» جديد للنجم الأميركي ديف شابيل بعنوان The Closer، أثار جدلاً عالمياً واتُّهم من قبل مروحة واسعة من المتحوّلين جنسياً بأنّه «مسيء ومهين»، نظراً إلى إصرار الفنان البالغ 48 عاماً على أنّ «الجندر حقيقة» معتبراً أنّ أفراد «مجتمع الميم» حسّاسون «زيادة عن اللزوم».
يشعر الممثل الإنكليزي جون كليز بالقلق من أنّ الأمر سـ«يخنق الإبداع»، فيما يعزو الأميركي كريس روك جميع «البرامج التلفزيونية غير المضحكة» التي يراها إلى حقيقة أنّ «الجميع خائفون من التحرّك واتخاد خطوات جديدة». أما البريطانية من أصل إيراني شابي خورسندي، فلطالما أكّدت أنّ «الخوف من الإلغاء حقيقي» وسيصيب الـ «ستاند أب كوميدي» كما نعرفها «في مقتل». وليس خافياً على أحد موقف ريكي جيرفايس من الموضوع، إذ خرج في صيف 2020 على تويتر بعبارة شهيرة أوضح فيها رأيه بأنّ «الأشخاص الذين يتحدون مَن يقولون أشياء لا يتفقون معها، لا يحترمون حرية التعبير»، مشدداً على أنّ «ثقافة الإلغاء» هي «ممارسة أو رفض أو تجاهل أو معارضة آراء أو أفعال شخص ما بشكل علني من أجل حرمانه من الوقت والاهتمام». غير أنّ جيرفايس لا يوافق على أنّ ما يحصل يضيّق الخناق على المحتوى الكوميدي، بل على العكس: «إنّه يقود المضمون إلى أماكن أفضل وأذكى… لطالما كان الوضع كذلك». ومن ناحيته، يُعدّ جو روغان من أبرز منتقدي «ثقافة الإلغاء» معتبراً أنّه «سيأتي وقت لن يتمكن فيه الذكور البيض من التحدّث أو الخروج».
هنا، من الضروري الإشارة إلى أنّ «الإلغاء» الذي يتحدّث عنه هؤلاء يشمل كل شيء، بدءاً من النقد من قبل حفنة من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي مروراً بخسارة وظيفة وليس انتهاءً بتجاهل المجتمع.
لا شكّ في أنّ القلق من هذه المسألة قد يكون ضبابياً، لكنّه قائم بوضوح. يبدو الأمر منطقياً إلى حدّ ما، فالكوميديا أشبه بصمّام تنفيس (pressure valve)، وعملية تحرير قصيرة وممتعة من التحديات اليومية (خصوصاً الفاقعة والسلبية وتضخيمها بهدف الإضحاك) والرهبة الوجودية. يعتمد هذا الجنر على الصدمة و«التخريب» والقليل من «الانتهاك» لمجموعة أو فئة ما، ويدور في فلك التنميط في غالبية الأحيان. لكن كيف يمكن للكوميديا أن تفعل هذا إذا سُمح لها فقط أن تكون ببغاءً للآراء التي تحظى بموافقة أقلية غامضة؟ عندها، لن تكون كوميديا على الإطلاق!
بالنسبة إلى الممثلين الكوميديين أنفسهم، فإنّ نظرتهم مفهومة على المستوى الإنساني: أن تكون حساساً تجاه مشاعر الآخرين طوال الوقت يمكن أن يكون صعباً ومرهقاً، كما أنّ التعرّض للنقد على السوشال ميديا ليس ممتعاً أبداً. لكنّ التجربة أثبتت أنّ هذا النوع من الحملات الافتراضية نادراً ما يكون أداة للقمع. صحيح أنّه يشكّل خطراً في العديد من المهن، لكنّه لا يقضي عليها.
في هذا السياق، تشبّه منسقة شبكة دراسات الفكاهة الأسترالية والأستاذة المساعدة الفخرية في جامعة سيدني، جيسيكا ميلنز ديفيس، الكوميديا والسخرية بـ «القوّة النووية». بمعنى أنّه يمكن استخدامها بطريقة «جيّدة» أو استغلالها لإيذاء الناس. هنا، لدى ميلنر ديفيس نظرة لافتة. فهي تعتقد أنّ الدعابة المؤذية يمكن أن تسفر في الواقع عن تأثير إيجابي: «داخل مجموعة صغيرة، للمزاح حول أشخاص من خارجها تأثير إيجابي… إنّه يقرّب الناس من بعضهم».
لصانعي الكوميديا الحقّ في ملامسة العديد من المحظورات بهدف الإضحاك
هناك معادلة بديهية في الكوميديا تتمثّل بـ «punching up vs punching down». وهي مرتبطة بديناميات السلطة الاجتماعية. الفكرة بسيطة: يتعيّن على قوّتك وتأثيرك أن يبدّلا الفئة التي «تهينها» علناً، لأنّ هذَيْن العنصرَيْن يرخيان بظلّهما على النكتة. القاعدة بالنسبة إلى كثيرين من العاملين في هذا المجال بسيطة: عليك دائماً اعتماد منهج الـ punch up ــ بمعنى التصويب على ذوي القوّة والنفوذ الأعلى منك ـــ والابتعاد عن الـ punch down ــ إهانة شخص مهمّش أوّ أقلّ قوّة وتأثيراً منك.
وفقاً للأستاذ المساعد في الفلسفة في «جامعة سيراكيوز» في نيويورك، لوفيل أندرسون، فقد سخر الفنانون من المجموعات الضعيفة لمئات السنين. لكنّ الخيط الرفيع الذي يفصل الـ punching up عن الـ punching down ليس واضحاً دائماً. في هذا الإطار، يقول إيلوت: «رأينا في السنوات الأخيرة بعض الأفراد يحاولون تبنّي حالة الحرمان والتهميش حتى يتمكّنوا من لعب دور الضحية». وبينما تعزّز بعض الكوميديا الصور النمطية السلبية والمواقف الاجتماعية، يمكن أن تدعو الأنواع الأكثر «تخريبية» ــ أي التي تذهب أبعد من ذلك ــ الجمهور إلى التشكيك في مروحة واسعة من الأعراف الثقافية المكرّسة.
حرية التعبير بالنسبة إلى المبدعين ليست محلّ نقاش، وهي مكفولة بكل المقاييس. أما ألف باء الكوميديا، فتمنح صانعيها الحقّ في ملامسة العديد من المحظورات بهدف الإضحاك. مسألة قد تولّد جدلاً واسعاً حتى في أكثر بلدان العالم ادّعاءً للحرية. فكيف إذا كانت في هذه البقعة من الأرض التي ننتمي إليها، حيث المعادلات الصعبة والحساسيات الشديدة والتقاطعات والاعتبارات الثقافية والمناطقية والدينية والعشائرية؟ لعلّ النقاش المحموم الذي شهده الفضاء الافتراضي قبل أسابيع بسبب اسكتشات للفنان الكوميدي اللبناني حسين قاووق ضمن برنامج «شو الوضع؟» (تأليف وإخراج محمد الدايخ) على «الجديد» تتناول حزب الله وسكّان ضاحية بيروت الجنوبية، خير دليل على ذلك. انقسم مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي بين مدافع عن المضمون الذي اعتبروه مضحكاً وبين معارض لمس فيه إساءة وتطاولاً، ما ترافق مع حملات تخوين وتهديد وإهانة وإسفاف بشعة من قبل الجانبَيْن.
خلال تجربتهما الكوميدية الساخرة الممتدة منذ سنوات، خصوصاً على المسرح (عروض «ستاند أب كوميدي» أو مسرحية «عم بقولوا اسماعيل انتحر»)، حصد الثنائي شعبية واسعة ولا سيّما في أوساط «البيئة» التي ينتميان إليها ويحاولان التعبير عنها، بخلفية سياسية واضحة وأسلوب مغاير للسائد محلياً. شعبية لعبت السوشال ميديا ويوتيوب دوراً أساسياً في تغذيتها، إلى أن قرّرا نقل تجربتهما (والشخصيات التي ابتكراها، على رأسها «كوثراني» و«أبو حميد») إلى الشاشة الصغيرة ومن بوّابة قناة «الجديد» التي اختارت، منذ عام 2019، نهجاً سياسياً واضحاً قائماً على أبلسة المقاومة. هكذا، راحت المحطة التي يديرها تحسين خيّاط تستثمر كلّ أدواتها في سبيل هذه الغاية، بما في ذلك البرامج الساخرة والترفيهية (آخرها برنامج «فشّة خلق» لداليا أحمد). إذاً، اختار الشابان الموهوبان اللذان يؤكدان على أنّهما يصوّبان «على كلّ الأطراف»، خوض مغامرة مهنية جديدة عبر شاشة لن تتوانى عن توظيف ما يقدّمانه في غايات في نفسها لم تعد خافية على أحد. لكن يبدو أنّهما سرعان ما استدركا الوضع بعدما حذفت «الجديد» استكتشاً من الحلقة التي عُرضت أوّل من أمس الإثنين (اُنظر مقال الزميلة زكية الديراني) من دون مراجعتهما. فما كان منهما إلا أن نشراه على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما يعيدان حالياً النظر في تعاقدهما مع القناة.
لا شكّ في أنّ للتوظيف والاستغلال السياسي للكوميديا (أو أي محتوى إبداعي) تبعات لا تُحمد عقباها دائماً. كلّنا نذكر ما حدث مع الكوميدي الفرنسي الساخر المثير للجدل، ديودونيه مبالا مبالا (1966)، حين مارس اللوبي الصهيوني ضغوطاً كبيرة عليه، تمثّلت في حصار سياسي وإعلامي قاسٍ في بلاده، بسبب ما كان يقدّمه من مضمون زُعم يومها أنّه «معادٍ للسامية» (ولم يكن كذلك). أمام هذه الحملة الشعواء، ذهب صاحب عرض «الوحش النجس» إلى «المحظور»، إذ راح يقدّم محتوى مسيئاً ومتطرّفاً، كالسخرية من ضحايا المحرقة اليهودية!
الاخبار