الخميس 28 تشرين الثاني 2019
مجلة وفاء wafaamagazine
التطورات الخطيرة التي شهدتها بعض المناطق اللبنانية في الساعات القليلة الماضية، بدا فيها لبنان وكأنّه على حافة السقوط، وصاغت سؤالاً يؤرق كل اللبنانيين: من هو صاحب الريشة السوداء التي تحاول ان ترسم خريطة الفتنة والفوضى في لبنان؟ ومن يُلقي بهذا البلد في مهبّ مسلسل توتير متنقل بين منطقة وأخرى، ويدحرج كرة النار على الأرجاء اللبنانية، ويضع اللبنانيين بكل فئاتهم بين فكّي مقص يهدّد بقطع الاوصال في ما بينهم ويزرع فيها الغام الطائفية والمذهبية وكل موبقات الصراع السياسي القائم؟
من جسر الرينغ الى بكفيا الى الكولا الى قصقص الى عين الرمانة والشياح، حلقات متتالية في هذا المسلسل المرعب، الذي يبدو انّه يتغذّى من فتات الصراع المزدوج المحتدم بين الحراك الشعبي والسلطة الحاكمة، وبين شركاء السلطة انفسهم، الذين صنّفوا انفسهم بين ملائكة وشياطين، ومن فلتان يبدو منظّما، لـ«زعران»، إن في الشوارع، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يعيثون في البلد تخويفاً وشحناً وإثارة للنعرات الطائفية والمذهبية.
عفوية
واذا كانت صورة الناس التي تداعت بعفوية امس، الى التلاقي وعلى وجه الخصوص ما بين الشياح وعين الرمانة، هي النقطة البيضاء التي تبدّت في عتمة الأزمة الراهنة، للتعبير عن الخوف من مسلسل الفتنة والفوضىى، والتأكيد على العيش المشترك بين اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، ورفض ما يفرّق بينهم ويعود بهم الى زمن الانقسام الكريه، فإنّها في الوقت نفسه شكّلت إدانة إضافية للقوى السياسية التي غطّت الزعران، وكذلك للسلطة الحاكمة التي يتسلّل هذا المسلسل من تراخيها وانكفائها إلى خلف المسؤولية، وكأنّها تقف على الحياد وغير معنية بما يجري.
شينكر
في السياسة، مراوحة ولا تفاهمات، والحكومة عالقة في متاهة التباينات على كل الخطوط، فيما برز موقف اميركي لافت جاء على لسان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى ديفيد شينكر، حيث قال في مؤتمر صحافي عُقد في وزارة الخارجية الاميركية: «رأينا إعلان رئيس الوزراء اللبناني المستقيل سعد الحريري حول عدم تشكيله حكومة جديدة، ورأينا التقارير الصحافية عن حركة «أمل» و«حزب الله»، وموقفنا يبقى نفسه، وهو أنّه لا يجب على أي طرف القيام بأعمال عنف».
وقال شينكر في معرض تعليقه على الحراك الشعبي اللبناني، إنّ الولايات المتحدة «تدعم المطالب المشروعة للشعب اللبناني بتشكيل حكومة تقوم بإصلاحات اقتصادية، وتحارب الفساد. وسنرى ما إذا كان الشعب اللبناني سيقبل بحكومة مشابهة للحكومة السابقة التي تظاهر ضدها».
وأضاف مساعد وزير الخارجية: «لقد أظهر الشعب اللبناني أنّه طفح الكيل معه، ويريد حكومة جديدة، لكنّ الأمر يتعلق باللبنانيين بالكامل، وسنرى ماذا سيحدث».
ونوّه شينكر إلى أنّ الحكومة الأميركية «لا تتخذ موقفاً شخصياً من أحد، وعلى الشعب اللبناني أن يقرّر».
الحكومة ملحة.. ولكن؟
اما في الداخل، فيبدو انّ ثمة محاولات مقصودة لتضييع الوقت، وعدم فتح الآفاق نحو اي حلّ داخلي، يفتح طريق الحكومة المعطلة، وخصوصاً انّ ثمة علامات استفهام مريبة تُطرح حول هذا التصلّب والمواقف المتباينة على الخط الحكومي، والذي يبقي الامور جامدة في النقطة ذاتها، من دون اي خطوة الى الامام. وهو امر يحرّك تساؤلات عمّا اذا كان في خلفية هذا الجمود السلبي، قرار غير مُعلن بانتظار ما ستؤول اليه نتائج «لقاءات خارجية» عُقدت او ستُعقد حول لبنان.
وفي الوقائع المتسارعة في لبنان، بدا جلياً انّ الحراك الشعبي، وإن كان يعبّر عن نفسه في بعض المحطات بوتيرة اضعف مما بدأه، صار خلف المشهد. فالأحداث التي نبتت الى جانبه، قفزت أبعد من مطالب شعبيّة وتغييرات وإصلاحات في بعض المواضع، الى حدّ صارت المسألة تتعلّق بمصير بلد مهدّد بالتداعي أمام أعين الجميع، والسقوط في هاوية الندم.
على انّ ما يزيد من مستوى القلق، هو ان ليس من أصحاب الحلّ والربط في هذا البلد، وعلى وجه الخصوص من هم معنيون بالملف الحكومي، من هو مصرّ على الاّ يرى أبعد من أنفه ومساحة مصالحه. وهو الامر الذي يصعّب تشكيل حكومة جديدة، بات التعجيل بها أكثر من ضرورة ملحة.
وبحسب ما يتسرّب من الغرف السياسية المغلقة، فإنّ الاولوية ليست لتلبية مطالب الحراك الشعبي، بل انّ مقاربتها تتمّ كعنوان عريض يقول بـ«حكومة تراعي المطالب المحقة»، بل انّ الاولوية لدى القوى السياسية المعنية ما زالت تدور في المربّع الاول، حيث يصرّ كل طرف على محاولة تسجيل نقاط على الطرف الآخر والحفاظ على مكاسبه السياسية في الحكومة الجديدة.
اتصالات
وعلمت «الجمهورية»، انّ حركة الاتصالات لم تنقطع في الساعات الماضية، على خط «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وحركة «أمل»، وكذلك على خط بيت الوسط و«الثنائي الشيعي»، وإن بشكل غير مباشر. على انّه لم تؤد هذه الاتصالات الى اي ايجابيات تفضي الى التعجيل بالاستشارات النيابية الملزمة، التي ما زال رئيس الجمهورية ميشال عون يتريّث في تحديد موعدها، ريثما تتوصل المشاورات الجارية الى حسم اسم الشخصية التي سيتمّ تكليفها تشكيل الحكومة الجديدة، وكذلك التوافق على شكل هذه الحكومة، مع التأكيد على الحكومة المختلطة من الاختصاصيين والسياسيين.
التوافق اولاً
وقالت مصادر وزارية معنيّة بحركة الاتصالات لـ«الجمهورية»: «لا شيء حتى الآن يوحي بأنّ الاستشارات باتت قريبة، فثمة اسماء عديدة تمّ تداولها، واحترقت، او بالاحرى أُحرقت جميعها عمداً، ومن هنا يأتي تريث رئيس الجمهورية. ذلك انّ الدعوة الى الاستشارات، بمعزل عن التوافق المسبق بين الكتل النيابية على اسم رئيس الحكومة، يمكن ان تؤدي الى فوضى في هذه الاستشارات، وتعلق في بازار أسماء قد لا يحقق اي منها اكثرية مطلوبة لتكليفه، عندها نكون في مشكلة فنصبح امام مشكلة جديدة، وواضح انّ رئيس الجمهورية يدرك ذلك، ولذلك وجد انّ من الأسلم التريث وعدم الدعوة الى استشارات مسلوقة، الى حين التوافق على رئيس الحكومة».
اضافت المصادر: «يُضاف الى ذلك، انّ الظرف الحالي وتعقيداته، لا يتطلب التوافق فقط على اسم رئيس الحكومة بل على شكل الحكومة، وذلك لكي يأتي التكليف والتأليف متزامنين، أو يفصل بينهما وقت قصير جداً لا يتعدّى اياماً معدودة، وهذا ما لم يحصل حتى الآن».
على انّه في اجواء الانسداد الحكومي، و»شواية» حرق اسماء المرشحين لرئاسة الحكومة، قال عاملون على خط الاتصالات لـ«الجمهورية»: «انّ الرئيس سعد الحريري لم يخرج من نادي المرشحين لإعادة تشكيل الحكومة الجديدة، بل أنّه على الرغم من بيانه الاخير، فإنّه لا يزال المرشح الأوحد والاقوى حتى الآن. ويؤكّد ذلك نواب من كتلة تيار «المستقبل»، الذين قال بعضهم علناً امس، ان ليس لدى كتلة «المستقبل» سوى مرشح وحيد هو الرئيس الحريري».
وينقل هؤلاء العاملون على خط الاتصالات عمّن سمّوها «اجواء عميقة» في بيت الوسط، تفيد بأنّ الحريري لم يسبق له ان سمّى كبدائل له سوى اسمين، الاول نواف سلام والثاني سمير حمود، وكل ما طُرح من اسماء اخرى لا علاقة له بها. وبحسب معلومات هؤلاء العاملين، فإنّ بعض من تردّدت اسماؤهم في الساعات الاخيرة، لم يوفّقوا في الاستحصال على موعد للقاء رئيس الحكومة المستقيل، لمحاولة الحصول على دعمه وتغطيته السياسية والسنّية لهم.
وتفيد المعلومات، انّ الرئيس الحريري على موقفه واشتراطه بترؤس حكومة اختصاصيين، تلاقي مطالب الحراك الشعبي وتنفّذ خطة انقاذية سريعة للاوضاع المالية والاقتصادية، الّا انّ هذه «الاجواء العميقة» عكست امكان حصول ليونة لدى رئيس الحكومة المستقيل حول القبول بحكومة تكنوسياسية، إذا كانت لن تضمّ بعض الاسماء المستفزة للحراك الشعبي. وما زال يتردّد في هذا الاطار اسم الوزير جبران باسيل. علماً انّ الحريري يؤكّد ان لا شيء شخصياً بينه وبين وزير الخارجية.
عون
الى ذلك، كانت التطورات الاخيرة وما حصل من اشكالات في الساعات الاخيرة، محل متابعة من قِبل رئيس الجمهورية، الذي شدّد على تدخّل الجيش ومنع التعدّيات على الأفراد والممتلكات، مؤكّداً انّه لن يسمح بتكرار ما حصل بالأمس والعودة إلى ما عشناه في خلال حرب السنتين. لافتاً الى أنّ هذه الأمور ولّت إلى غير رجعة.
واللافت في بعبدا، الموقف البابوي الذي تبلّغه رئيس الجمهورية من عميد السلك الدبلوماسي في لبنان السفير البابوي المونسنيور جوزف سبيتري، وعكس فيه دعم الكرسي الرسولي «للجهود المبذولة لمعالجة المشاكل الراهنة، والتضامن الذي يبديه الاب الاقدس البابا فرنسيس تجاه اللبنانيين، ولاسيما اولئك الذين يعانون من ظروف اقتصادية قاسية».
واعرب سبيتري عن «امل الكرسي الرسولي بالاسراع في تشكيل حكومة تنصرف الى الاهتمام بالاوضاع في البلاد، ولاسيما منها الوضع الاقتصادي ورعاية المواطنين، ومشجعاً على استمرار الحوار بحثاً عن حلول مرضية».
بري
في السياق ذاته، أكّد رئيس مجلس النواب نبيه بري امام نواب الاربعاء امس، أنّ الأمر بمنتهى الخطورة ولا مجال للترف. مستغرباً عدم قيام الحكومة المستقيلة بواجباتها. سائلاً: «ألّا تفرض الضرورات إجتماع الحكومة لتسيير امور البلاد والعباد بدلاً من أن تبقى معلقةً في الهواء الطلق»، مطالباً بعودة اموال البنوك الى لبنان التي أُرسلت الى الخارج والتي تقدّر بمليارات الدولارات، مؤكّداً انّ الوضع الإقتصادي قابل للتحسّن بمجرد وجود حكومة.
واكّد بري انّه يحق لرئيس الجمهورية دعوة المجلس الأعلى للدفاع للإنعقاد، لأنّ الشأن الإجتماعي والإقتصادي خطير، «وماذا تنتظرون في عدم تشكيل لجنة مالية للتواصل مع المؤسسات الدولية، وكأنّ المؤامرة من داخلنا على أنفسنا، فالمطلوب العودة الى المؤسسات واولها الحكومة وبأسرع وقت».
وردّ مصدر مقرّب من الحريري على بري بالقول: «حكومة تصريف الاعمال تقوم بواجباتها وفقاً لما ينصّ عليه الدستور وبعيداً عن الضجيج الاعلامي ومحاولات استفزاز التحرّكات الشعبية. وما هو أهم عدم تعليق الوضع الحكومي بالهواء وبدء الاستشارات الملزمة وتشكيل حكومة تتصدّى للمشكلات التي تتفاقم يوماً بعد يوم والوضع يتحسن، كما قال الرئيس بري، بمجرد وجود حكومة».
الى ذلك، اكّدت مصادر سياسية انّ موضوع دعوة المجلس الاعلى للدفاع الى الانعقاد، تمّت مناقشته، الّا انّ رئيس الحكومة المستقيل لم يبد حماسة لحضور هذا الاجتماع.
إضراب لم يبدأ
شكّل سقوط الاضراب العام لمدة ثلاثة أيام، الذي أعلنته الهيئات الاقتصادية، وكان يُفترض أن يبدأ اليوم، مفاجأة من العيار الثقيل، تفرّعت عنها تأويلات وتفسيرات متعددة، من ابرزها ما يلي:
اولاً- قرار الاضراب اتُخذ بالاجماع، ليتبيّن منذ بعد ظهر امس انّ المواقف بدأت تتفاوت بين قطاع وآخر، وبدأت سبحة الانسحابات تتوالى بذرائع متعددة.
ثانياً – انّ المصارف التي قيل في السابق انّها تقف في الواقع وراء الاضراب، كانت سبّاقة الى اعلان عدم مشاركتها فيه، واعتبارها ايام الخميس، الجمعة والسبت ايام عمل عادية.
ثالثاً- كانت ذريعة الوضع الصعب الذي قد يزيد الأضرار في حال الاضراب، هي الراجحة في العلن. لكن البعض تساءل، لماذا لم يلاحظ اصحاب القرار هذا الأمر عندما قرّروا الاضراب قبل حوالى الاسبوع؟
رابعاً- اعتبر البعض ان هناك رائحة تدخّلات سياسية في فرط الاضراب. وكان لافتاً انّ الاتحاد العمالي العام أصدر بياناً اعتبر فيه انّ اضراب الهيئات مثل قطع الطرقات يضرب الاقتصاد.
في النتيجة، رضخت الهيئات للوضع المستجد، وفي سبيل تحاشي التشرذم والظهور في مظهر العاجز عن تنفيذ إضراب كامل، أصدرت الهيئات بياناً اعلنت فيه رسمياً تعليق الاضراب.
عودة أزمة المحروقات
واذا كان فرط إضراب الهيئات الاقتصادية شكّل مفاجأة، فانّ بدء الاضراب المفتوح الذي اعلنته محطات الوقود، شكّل بدوره مفاجأة من العيار الثقيل. خصوصاً انّ هذا الاضراب جاء مباغتاً، بعدما كان يسود اعتقاد انّ اضراب الهيئات لن يشمل المحطات.
وفي هذا السياق، اوضح جورج البراكس، باسم محطات المحروقات لـ«الجمهورية»، انّ «الاضراب سيكون مفتوحاً ولن يقتصر على ثلاثة ايام فقط نتيجة الاوضاع التي وصلنا اليها، اذ لا يجوز انّ جعالة المحطات، والتي هي 1900 ليرة، بتنا ومع فرق سعر صرف الدولار نخسر منها ما يفوق الـ1800 ليرة، بما يعني ان جعالتنا طارت وعملنا بات خسارة بخسارة».
الجمهورية