مجلة وفاء wafaamagazine
منذ قرنين تقريباً، أي مع ظهور مفهوم القانون الدولي و»الحرب الشرعية»، أصبح الكلام عن الحروب والغزو صعباً ومحبطاً. لا أحد يسمّي الأمور بأسمائها وكل فعل له تخريجة قانونية تموّهه؛ ولا أحد يواجه أعداءً وخصوماً، بل دوماً إرهابيين ومجرمين ومارقين وقاطعي طرق. هذه من مشاكل الحروب الأميركية في القرن الماضي، حيث لا يمكن للأميركي أن يقول لك ببساطة «لدي مطامعٌ في هذه البقعة من العالم وأنوي غزو هذا البلد وضمّه إلى نطاق نفوذ الإمبراطورية»، أو «هذا نظامٌ أخاصمه ولدي فرصة لكي أسقطه، وهذا سيخدم موقعي في العالم» لكي يبدأ النقاش من هنا ويكون له معنى.
عامر محسن
الحرب ليست حرباً بل دفاع، الغزو ليس غزواً بل تحرير، وأنت هنا لست تقوم بقلب نظام تخاصمه، بل تزيح ديكتاتوراً وترسي الديموقراطيّة وتحمي الأقليات والبيئة.
المسألة نفسها تنطبق على الغزو الروسي لأوكرانيا. في وسعك أن تبرّر الغزو، أو تعتبره اجبارياً واضطرارياً، أو حتى أن تدافع عنه، ولكن هذا لا يغيّر في حقيقة أنّه «غزو». هذا هو جنس المولود. لدينا بلدُ يقول لآخر: «سياسات نظامك تهدّدني وتعاديني، وأنت أصبحت رأس حربةٍ ضدّي، وأعتقد أن لدي القوة الكافية لكي أغيّر هذا الواقع بالقوة العسكرية». هذه هي الحال ببساطة والباقي تحليلٌ واجتهاد، ينطلق من وجهة نظرك وأولوياتك ورؤيتك للعالم. المسألة هنا لا علاقة لها بالأخلاقيات و»الحقّ»، فهذا نقاشٌ مختلف تماماً، بل هي حول منهجية التحليل والنزاهة الفكرية وأن تنطلق من تفسير العالم كما هو. على الهامش: خداع النفس قد يكون استراتيجية مفيدة وضرورية في المجال الشخصي؛ ربّما أنّ لا زواج كان سيستمرّ، ولا أحد سيحبّ نفسه وأولاده ومن حوله، بلا قدرٍ ما من ايهام النّفس؛ وتزييف المصطلحات والواقع هو عمل السياسيين ووظيفتهم، غير أنه عادةٌ بالغة الخطورة إن كنت تريد التحليل والتفسير والفهم ـــــ هنا أخطر التعاطي هو تعاطي الأوهام.
كانت الأمور مختلفة في الماضي. لدى الرّومان نظريّة قانونية كاملة عن قواعد الحرب والخصومة، وهي تتّصف بقدرٍ هائل من «الواقعية» والاعتراف بالخصم كنظير، وبالمصالح التي تسبّب الحرب، من غير اضفاء هالةٍ أخلاقية أو تبريرية على فعلٍ هو بطبيعته غير أخلاقي. كان الرومان يرسلون، بكلّ احترام، وفداً لخصومهم (إن كانوا دولاً سيّدة) ويبلغوهم ما معناه أنّ الإمبراطورية تنوي ضمّهم لأنّها تقدر على ذلك، ثمّ يقدّمون لهم خيارات (كالتحول إلى دولةٍ تابعة)، ويخبروهم بما سيفعلون إن لم يقبلوا بها. لهذا السّبب كان الرومان يقدرون، رغم شراستهم الفائقة في ساحة القتال، أن يتفاوضوا مع خصمهم، بين المعارك، بكلّ عمليّة وبراغماتيّة؛ ويلتقون ويعقدون المعاهدات ويناقشون التفاصيل ببرود («أعيدوا لنا رايات الفيالق الرومانية التي غنمتوها منذ سبعين عاماً، نعيد لكم كرسي الشّاه»، إلخ).
قد تكون الخطة هي في التقدّم، في مرحلة أولى، بأقصى سرعة ومن عدة اتجاهات داخل أرض العدو، لخلق ما يشبه شبكةً من «الممرات الآمنة» تنتشر وتتمدّد حيث لا مقاومة جدية
أمّا المغول، فعلى الرغم أنهم كانوا يعتبرون أن «تينغري»، إله أهل السهوب، قد أعطاهم الحق بحكم الأرض واستيطانها، إلّا أنه كان لهم «ناموس» معيّن في إعلان الحرب، يعود إلى الأعراف البدويّة. حتّى لو انتوى الخان أن يغزو بلداً وحسم أمره في هذا الشأن، فهو لا يريد أن يبدو أمام نفسه وخصمه بمظهر المعتدي. هنا كانوا يرسلون إلى الخصم وفداً ديبلوماسياً، مع طلبات تعجيزية ومهينة (كأن يتنازل الملك عن عرشه، أو نصف مملكته، أو يعطيه الخان «فرصة أخيرة» للرضوخ)، وذلك بهدف استفزاز الملك حتى يخرج عن الأعراف أو يهين الخان ويهدّده، أو يؤذي أعضاء الوفد. هنا يصبح الخان المغولي هو في موقع الضحيّة ومن يحتاج إلى استرداد كرامته ولديه حجّةٌ للحرب. وهذا التكتيك كان، أقله في جيل جنكيز خان وأولاده وأولادهم، ينجح على الدّوام: قام شاه خوارزم بقتل رئيس السفارة المغولية، وحلق ذقون باقي أعضاء الوفد، وأرسله إلى جنكيز خان مع تهديدٍ بأنه سيأتي إليه ويفعل له الأمر نفسه. الملك الهنغاري بيلّا قتل كامل الوفد الذي أرسله الخان، وهو أيضاً ما فعله المماليك حين أوفد إليهم كتبغا مهدّداً، فعلّقوا رؤوس السفراء المغول على باب زويلة (حين أقرأ هذه الأمور، أتساءل دوماً عن ذاك المغولي الشجاع الذي كان يقبل بدور السفارة).
عودةٌ إلى موضوعنا، هناك غزوٌ روسي لأوكرانيا، وحربٌ بين «المجموعة الغربية» (ومعها اليابان وكوريا وتايوان) وروسيا؛ نحن لسنا جزءاً منها بالمعنى المباشر، وإن كان خلف روسيا هنا الصّين، وخلف الصين ما تبقى من تهديدٍ للنظام الأميركي المهيمن. الناس في بلادنا لا ترى الحرب كالغربيين؛ في أوروبا هذه حربهم، وهم يتصرّفون (حتى على المستوى الشعبي) على هذا الأساس حرفيّاً. هنا بعض الناس تقف مع روسيا والبعض مع أوكرانيا، ولا أحد يزايد على الآخر أو يتّهمه بالخيانة لأنّه لم يردّد الموقف «الصحيح» ويستنسخ خطاب «الناتو». ولكن، في المنطق العام، هذه حربٌ هائلة في بداياتها، وفي أوكرانيا غزو. لهذا، وهنا المفارقة، لا يمكنك أن تقول للأوكراني الذي يقاتل ضدّ الرّوس، وإن كان نازيّاً أو فاشيّاً أو يكره العرب، شيئاً. حتى وإن كانت حربك، وكان عدوّك عميلاً للغرب ونازيّاً في الوقت نفسه، وسليلاً لهتلر وبانديرا، وتعتبر أنّ هزيمته ضرورةُ وواجب ودفاع عن النّفس، فإن جلّ ما يمكنك فعله هو أن تذهب إليه، وأن تعطيه فرصة للقتال، وأن تهزمه.
بركانُ في أوروبا
في الغرب، إذاً، هم يتعاملون مع أوكرانيا كأنها حربهم الخاصّة، لا قضية بعيدة يأخذون منها موقفاً فحسب. هذه المرة الأولى منذ عام 1991 التي يقف فيها «العالم الحرّ» (الغربي) متّحداً في وجه خصمٍ في حربٍ شاملة. حتى سويسرا قرّرت أنها لن تعود «سويسرا» المحايدة التي نعرفها، وستدخل إلى الخندق مع «الناتو». ولأنّ الإمبريالية تتحكّم بالكثير من مفاصل العالم، قد يبدو وكأنّ «العالم» بأسره يواجه روسيا ويعزلها (النظام المالي، الشركات الكبرى، الإعلام المهيمن، الاتحادات الرياضية، «نتفلكس»، لعبة «فيفا» لكرة القدم، إلخ). ولكن العالم ليس أوروبا وأميركا. هناك صينٌ وهند وغالبية على هذا الكوكب لا ترى الأمر من هذا المنظار، ولا تجد بوتين يهددها، ولن تخوض حرب الغربيين ضدّه. حتى دول الخليج أخذت موقفاً بمعنى أنها في الوسط ولا مصلحة لها في الاشتباك على الطريقة الغربية (كنت أقول لأصدقاء أن البوادر الحقيقية لفكرة «التعددية القطبية» تجدها هنا بالتحديد، في موقف السعودية والإمارات. أن تقوم «محميات» أميركية بالبحث عن موقفٍ يمايزها عن الحلف الغربي هو لا يعني أن لديها علاقةً سرّية مميزة مع روسيا، بل أنها – بحكم موقعها وتبعيتها – أول من يتحسّس بأن العالم الذي نعرفه قد بدأ يتغيّر.
من هنا أيضاً، لا معنى للوم الأوروبيين على تعاطفهم اللامشروط مع أهل أوكرانيا «الشقر». أو المقارنة بين اهتمام الجمهور هناك بحرب أوكرانيا مقارنةً، مثلاً، بحرب اليمن؛ فهذه حربهم. هل تهتمّ أنت بحربٍ تخصّك كما تهتمّ لحربٍ يخوضها أغراب؟ هل تتأثّر لحدثٍ في فلسطين أو العراق كما تتفاعل مع أحداثٍ في غرب افريقيا أو اثيوبيا؟ وهل تتابع مأساة أوكرانيا اليوم كما تابعت التسونامي المدمّر في تونغا؟ «الاتّساق» هو ليس في أن تخضع الواقع لنظريتك، أو أن يتّسع قلبك للجميع بالتساوي، ولا هو لعبة لغوية، بل هو ببساطة أن تكون متّسقاً مع نفسك ومصالح شعبك. هي أيضاً حربٌ «مثالية» بالنسبة إلى الجمهور الغربي، يخوضها الغربيون شعورياً كأنها تخصّهم، وهي من أنماط «حروب الدفاع عن الوطن»، بتعتبير لينين؛ ولكن من يخوضها ويتحمّل كلفتها هو بلدٌ آخر، وشرار النار لن يصلك (بل هم، حتى الآن، يرفضون حتى أن يقفلوا الباب على بيع الغاز والنفط الروسي، لكي لا تعاني الأسواق وأوروبا ــــ مادياً ــــ وتخسر مورداً من الطاقة الرخيصة، أو يضطرّ المواطنون إلى التقتير والتقنين، فيما الأوكران يموتون وينزحون). الخلاف الذي لا يكلّفك شيئاً، بتعبير أوسكار وايلد، هو الخلاف الذي يمكنك أن تذهب فيه إلى النهاية بلا وجل. لهذا نجد الدول الاسكندينافية تشحن الصواريخ و»فيالق أجنبية» تتشكّل لقتال روسيا في أوكرانيا، وسط تصفيق الجمهور وحصار لروسيا يفوق أيّ حدٍّ من المقاطعة والعزل تعرّض له بلدٌ ما من جانب المجموعة الغربية (بما في ذلك العراق وإيران، أو الاتحاد السوفياتي بعد دخول أفغانستان). مجدّداً، المسألة هنا لا علاقة لها بـ»الموقف الأخلاقي»، أو الدفاع عن الأوكرانيين ومصالحهم: النظرية الشائعة اليوم في الغرب تقوم كلها على تحويل أوكرانيا إلى أفغانستان أو سوريا جديدة، ونحن نعرف ما كان معنى ذلك بالنسبة إلى هذه الشعوب والدول ـــــ ولدى الغربيين و»الناتو» وسائل أفعل من أجساد الأوكرانيين لو أرادوا فعلاً مواجهة بوتين «بأي ثمن».
أمّا بالنسبة لنا، لمن هو ـــــ إلى الآن ـــــ خارج الحرب ولكنه سيعيش لأمدٍ طويلٍ مع مفاعيلها، فإنّ المغزى الأساسي هنا هو أنّ «النظام العالمي» قد تغيّر إلى ما لا عودة. طوال العقدين الماضيين، كانت روسيا هي «العامل المرجّح» في تشكيل النظام الدولي الجديد. المواجهة مع الصين قد حسمت ولا رجعة عنها، السؤال هو: هل يعقد الغرب «صفقة» مع روسيا، يضمّها إلى طاولة القرار الغربي ومؤسساته، مقابل أن تعزل الصين ويتمّ تطويقها؟ وما سيكون شكل هذا الترتيب؟ اليوم هذا لم يعد مطروحاً، والخيار الوحيد عند الغرب أصبح في اخضاع روسيا أو تدميرها (بحربٍ اقتصادية وحرب استنزاف). في خطاب الحرب على روسيا الذي ألقاه المستشار الألماني، ذكر أنّ من أهمّ أسباب مواجهة بوتين وهزيمته هو منع عودة «عصر امبراطوريات القرن الـ19». المعنى المضمر الذي لم ينتبه إليه شولتز في كلامه هو أنّه هنا لا يرفض فكرة الإمبراطورية والهيمنة في ذاتها، بل هو يحارب لكي لا تكون هناك «إمبراطوريات»، بالجمع. هذا هو جوهر المعركة اليوم، وليس سيادة واستقلال أوكرانيا.
عودة إلى مقولة لينين عن حرب «الدفاع عن الوطن» وحماس الغربيين اليوم لحرب أوكرانيا. المقولة جاءت في نصٍّ شهيرٍ له من عام 1915، حين كانت الحرب الأولى تستعرّ وتفكّك الاشتراكية الدولية. قال لينين إن مفهوم «حرب الدفاع عن الوطن» هو خطابٌ حديث نسبياً في أوروبا، ولكن لم يعد له معنى فيها بعد عام 1871. بين الثورة الفرنسية و1871، يكتب لينين، كانت أغلب الحروب الأوروبية عبارة عن دفاعٍ عن مصالح برجوازية تقدميّة صاعدة تسوق خلفها الملايين، وتواجه الاقطاع وبقايا القرون الوسطى والهيمنة الأجنبية، وهذه المصالح كانت بمثابة «مصالح الشعب» و»حروب تحرّر وطني». بعد ظهور الإمبريالية، يضيف لينين، لم يعد هذا المفهوم وهذه الصفات تنطبق على حروب الأوروبيين، أو «دفاع» فرنسا ضدّ ألمانيا، أو بريطانيا ضدّ روسيا، بل إنّ «الدّفاع عن الوطن» يحصل حصراً حين تدافع دولٌ مثل الصين وتركيا وفارس، بحسب لينين، ضد دولٍ مثل ألمانيا وروسيا وإيطاليا (أو أيّ بلدٍ اليوم ضدّ الـ»ناتو»).
«غشاوة المعركة»
في الأسبوع الأوّل نظلّ في مرحلة «غشاوة الحرب»، حيث لا يمكنك أن تعرف بالضبط ما يجري، والإعلام الحربي كلّه بروباغاندا وكذب. لا يمكن أن تفهم ما يجري على مسرح عمليات واسع بناء على صورٍ وأخبارٍ متفرّقة، غير أنّ الأيّام الأولى حملت مفاجآت، وكان نمط الهجوم الروسي وشكله يختلف عمّا افترضه الجميع مسبقاً. بدلاً من غزوٍ على الطريقة «التقليدية» (حرب جوية لاسكات دفاعات الخصم، يليها اجتياح بري بقوات ثقيلة تخترق خطوط العدو، تتبعها أنساق أخرى خلفها «تنظّف» وتمسك الأرض) بدا وكأن روسيا لم تنتظر اسكات سلاح الجو الأوكراني بالكامل، ودفعت بقوات روسية لتخترق على محاور عديدة وتتمدّد في العمق داخل الأراضي الأوكرانية. وهذه القوات لم تقم بالامساك بالأرض بشكلٍ منهجي، بل تقدّمت على الطرقات الرئيسية بسرعةٍ نسبياً، لتبقي معرّضة للهجمات من الخلف والأطراف، فنقع خسائر كثيرة، وتجد بعض الوحدات والقوافل قد تعطّلت أو تمّ تركها على الطريق. فوق ذلك، ظهر أن الكثير من هذه القوات لم يكن مكوّناً من وحدات ثقيلة ودبابات كالتي تتقدّم الاجتياح عادةً، بل من مدرعات خفيفة ومصفحات مدولبة صغيرة، من السهل نسبياً تدميرها. ولم تدخل هذه القوات إلى أيٍّ من المدن الرئيسية المستهدفة مثل كييف أو خاركيف وتسيطر عليها بعد (المدينة الوحيدة الكبيرة التي أمسكها الروس إلى الآن هي خيرسون في الجنوب).
الناس في بلادنا لا ترى الحرب كالغربيين؛ في أوروبا هذه حربهم، وهم يتصرّفون (حتى على المستوى الشعبي) على هذا الأساس حرفيّاً
في الغرب، تمّ وضع هذه الأحداث مباشرة ضمن سردية «الفشل الروسي» و»الصمود الأوكراني» غير المتوقّعين، وارتفعت الآمال في أن تتحوّل أوكرانيا اإلى مستنقعٍ وحرب استنزافٍ طويلةٍ للروس. ولكن هذا لا يفسّر العديد من الأمور التي تبدو «غريبة» في مسار الأيام الأولى ويصعب فهم دوافعها: لماذا لا تستكمل روسيا تدمير القوة الجوية والمطارات الأوكرانيّة منذ البداية؟ هل هذا لنقصٍ في القوة النارية؟ بالطبع لا. لماذا ترسل قوات «جلدها رقيق» نسبياً في الموجة الأولى، وهي تمتلك آلاف الدبابات والمدرعات الثقيلة؟ لماذا تُخاطر بانزالات جوية، وعشرات الحوامات التي تنقل الجنود وتطير على ارتفاعٍ منخفض، وهي عمليات لا يمكن أن تجري بلا خسائر معتبرة؟ لماذا ترسل قواتاً لتخترق في العمق من غير تأمين، بدلاً من التقدّم المنهجي التدريجي؟
في الأوساط الغربية، هناك اجمالاً اليوم اجابتان على هذه الأسئلة: الأولى تعتبر أن الجيش الروسي، ببساطة، تنقصه الكفاءة، وجنرالات بوتين يستخدمون التكتيكات الخطأ ويرسلون وحداتٍ في مهمات لا تناسبها، وتنقصهم الذخائر الذكية، إلخ. الرأي الثاني يعتبر أن بوتين قد قلّل من تقدير الجيش الأوكراني (الكبير) وإرادته على القتال، إلى درجة أنه اعتبر أن القوات الأوكرانية ستذوب ببساطة أمام تقدّم الطوابير الروسيّة ولا حاجة إلى خطّة واضحة. المشكلة هي أني أميل إلى رفض التفسيرين. لا يمكن مقارنة الجيش الروسي بالجيوش الغربية، ولكني لا أصدّق أنّ قادته لا يعرفون بديهيات نعرفها أنا وأنت، أو أنّ جيراسيموف كان ثملاً ليلتها فقرّر ارسال الجيبات بدلاً من الدبابات. أنا أيضاً لا أصدّق أن الرّوس لا يعرفون الأوكرانيين (الذين يقاتلون جيشهم وحلفائهم منذ ثماني سنوات) لهذه الدرجة، أو أن بوتين سيأخذ مخاطرةً بهذا الحجم اعتماداً على افتراضٍ ورهانٍ أوحد. أخيراً، حين تجد الاعلام الغربي بأكمله قد أجمع على رأيٍ ما، وبخاصّةٍ في أيام الحرب، فمن الآمن عادةً أن تأخذ مسافة منه وتتفحّصه بنقديّة (أعرف، ليس من المستحيل أن تجمع المؤسسة على شيءٍ صحيح، الكوفيد مثلاً، ولكنّي أفضّل أن أكون ظالماً وشكّاكاً في تلك الحالة النادرة على أن أتبعهم في باقي الأكاذيب التي ينشرونها ــــ وللإمام علي قولٌ قريبٌ من هذا المعنى في «نهج البلاغة»).
سوف تظهر الأيام طبيعة الحملة والخطّة الروسيّة، وقد يكون ما رأيناه في الأيام الأولى هو، بالفعل، مجرّد سوء تخطيط وتقدّمٍ روسي غير مدروس. إلّا أن هناك فرضيّة أخرى سوف أقدّمها هنا باقتضاب: الفكرة هي أنّ العقيدة الروسية قد لا تكون قائمة على الهجوم الجبهي الذي يدمّر، مباشرة، القوات الرئيسية للعدو أو يجبرها على التراجع إلى خطوطٍ خلفيّة؛ ولا هو يحاول الالتفاف عليها عبر «كمّاشات» تشكّلها قوات مدرّعة ثقيلة تخترق دفاعات العدو وتناور على مساحات كبيرة. قد تكون الخطة هي في التقدّم، في مرحلة أولى، بأقصى سرعة ومن عدة اتجاهات داخل أرض العدو، لخلق ما يشبه شبكةً من «الممرات الآمنة» تنتشر وتتمدّد حيث لا مقاومة جدية أو خطوط دفاع (حتى وإن لم تتمّ السيطرة على الأرض والمدن من حولها). وفي المرحلة الثانية، تستخدم هذه «الشبكة» قوات ثقيلة، هدفها أن تقفل أطواقاً متعدّدة على القطعات الأساسية للجيش الأوكراني، وتضع كلاً منها ضمن جيبٍ محاصرٍ أو شبه-محاصر.
مجدّداً، لا يوجد دليل مادّي أو توثيقي على أن هذه هي طريقة التفكير الروسية، ولكنها تفسّر عدداً من الأمور. مثلاً، لماذا تمّ ارسال قوات خفيفة في الموجة الأولى، حيث أن الحاجة هي للسرعة، وقوات خاصة وانزالات تمسك نقاطاً أمامية ضرورية للتقدم، وجسور ومطارات، إلخ. وهذه عمليات، بالضرورة، تستدعي خسائراً ومخاطرة قد لا يتحملها جيشٌ مثل الجيش الأميركي، الذي يملك خيار الحملة الجوية الشاملة، وتدمير قوات الخصم من الجو قبل ارسال مدرعاتك لاحتلال الأرض. ولكن روسيا لا تمتلك سلاح الجوّ الأميركي، والمناورات على الطريقة «التقليدية» تستلزم أعداداً كبيرةً جداً من القوات (وجيش روسيا، أيضاً، لم يعد الجيش السوفياتي)، وتستخدم في الموجة الأولى الدبابات الثقيلة، التي يسهل تدميرها بالصواريخ الموجهة الخفيفة ـــــ والتي تمّ تزويد الأوكرانيين بها بكثافة. أخيراً، فإنّ نمط «الجيوب» هذا يضمن أن يتم حصار أغلب القوة المقاتلة للجيش الأوكراني وتحييدها، بدلاً من خوض حرب مواجهةٍ معها، وتراجع من خط دفاعي إلى آخر (أغلب الوحدات الأوكرانية الفاعلة هي متمركزة في الخطوط الأمامية في الشرق والجنوب، قرب جبهات دونتسك ولوهانسك والقرم وأوديسا وكييف، ولو تمّ حصارها أو اجبارها على الاستسلام، تكون أكثر القوة الرسمية للجيش الأوكراني قد عُزلت. وحدود الجبهة مع دونتسك ولوهانسك، التي تعجّ بالوحدات الأوكرانية، هي ـــــ للمفارقة ـــــ الوحيدة التي لم يتم التقدّم فيها والاصطدام بها، بينما تتقدم الطوابير الروسية حولها وفي كلّ مكانٍ آخر).
طبيعة أوكرانيا وأراضيها المفتوحة تناسب هذا النوع من العمليات، ولا جبال تعيق التقدّم، ولا مكان يمكن لقطعات كبيرة أن تختبىء فيه من المدفعية والطيران إن تحركت في مناطق مفتوحة. والروس وحلفائهم قد مارسوا هذا الأسلوب («المرجل») بكثرة في حرب الدونباس، وحققوا نجاحاتٍ كان أشهرها في ديبالتسيفا، فليس من الغريب أن يتعلموا من هذه التجارب ويطوروها على مستوى جيشٍ أكبر وله قدراتٌ تفوق قوات «جمهوريتا دونتسك ولوهانسك». وفي كلّ الأحوال، سوف تتمّ دراسة هذه الحرب لسنوات طويلة قادمة، هذا إن انتهت بسرعةٍ و»بأقلّ الخسائر»، ولم تتوالد الحرب حروباً تنسيك ما قبلها.
خاتمة
تقول زميلةٌ لي إنّ كلّ شيءٍ في لبنان معلّق، بما في ذلك الشؤون السياسية المحليّة، «في انتظار ما سيحصل في أوكرانيا». وهذا هو حال العالم بأسره، حتى الجزء الأوسع منه الذي لا يشارك في الحرب، فالعالم قد انكسر وانشطر، ولا زلنا ننتظر كيف ستستقرّ أجزاؤه، وما ستكون شروط العالم الجديد. بعد الصين وروسيا، العالم بدأ يضيق على «النظام الدولي»: أن تعزل بلداً مثل كوبا أو إيران أو كوريا هو شيء، ولكن أن تعزل معهم بلاداً في حجم روسيا والصين هو أمرٌ مختلفٌ تماماً. ولهذا السبب يتحوّل الغرب اليوم إلى معسكر، ولكنه لا يقاتل من أجل «الدفاع عن الوطن»، أو الدفاع عن أوكرانيا، بل للدفاع عن الإمبراطورية.
قد يكون أفضل ما يمكن أن يحصل بالنسبة إلينا هو تحديداً ما يخشاه المستشار الألماني ويحشّد ضدّه: أن نعود إلى عصر الإمبراطوريات التي تتنافس وتحدّ من نفوذ بعضها البعض، ونحن لا زلنا بعيدين عن ذلك. كما كتب وولفغانغ ستريك مؤخّراً، فإنّ الاتحاد الأوروبي بعد اليوم قد أصبح «ناتو» ولا يمكن التفريق بينهما، و»ناتو» فعلياً، يضيف الباحث الألماني، يعني «أميركا». «التعددية القطبية»، إن تحققت، ليست ضمانةً بشيءٍ أفضل أو عادل، ولكن النظام العالمي الذي تحكمه أميركا اليوم لن يتغيّر عبر التحوّل، بضربةٍ واحدة، إلى «حكومة عالمية» ديموقراطية أو يوتوبيا تشاركية. وصعود قوىً جديدة وصمودها وتقاربها هو السبيل الوحيد لكي تجد الهيمنة ما يحدّها، وهي ستفعل أي شيءٍ لمنع ذلك. هذا ما توقّعه، منذ سنواتٍ طويلة، الراحل سمير أمين حين قال بأن النظام الدولي قد يفضّل الحرب النووية على السماح بصعود الصّين واستقلال روسيا. في انتظار أن تصل إلينا «موجات الصّدم»، وهي آتية لا محالة، نستعدّ جميعاً لأن نعيش في عالمٍ أكثر عنفاً بكثير فالإمبراطورية الغربية، كلّها، قد شهرت سيفها وهي تسير إلى الحرب.
الاخبار