الأخبار
الرئيسية / آخر الأخبار / أقدم مخطوطة دينية أثّرت في الفنّ الكنسي حول العالم : «المسيح المصلوب»… أيقونة ولدت في الشرق!

أقدم مخطوطة دينية أثّرت في الفنّ الكنسي حول العالم : «المسيح المصلوب»… أيقونة ولدت في الشرق!

مجلة وفاء wafaamagazine

مع دخول الطوائف المسيحية الغربية «أسبوع الآلام»، تليها الطوائف التي تتبع التقويم الشرقي، نتوقّف هنا عند «إنجيل رابولا» الذي كان رائداً في فنّ الرسم المسيحي، تأثّر بالفن الفينيقي الذي ترك بدوره بصماته على الفنَّين السرياني والبيزنطي. تكمن أهمية هذا الإنجيل في كونه تراثاً سريانياً ومارونيّاً، ومن أقدم المخطوطات الدينية التي تتضمن الأناجيل الأربعة بالسريانية نسخها الراهب رابولا عام 586 بمعاونة رفاقه في «دير مار يوحنا» الواقع بين إنطاكية وحلب

Monetized by optAd360
فنّ الأيقونة إبداع تصنعه يد ذهبية. قواعده ثابتة وراسخة تاريخيّاً لا تعديل، ولا تطوير فيها إلّا بالرؤى الخاصة والأساليب المنفردة. الموضوع محدَّد ومثله المعالجة، بل إنّ الضوابط اتخذت شكلاً يداني القمعيّة حيال عدم جواز تخطّي الموضوع وأبعاده الليتورجيّة، أي أنّ لفنّان الأيقونة حرّية الانفراد بالأسلوب والتقنية، إنما لا بالموضوع وشروطه.

 

 

منذ القرن السابع عشر لغاية اليوم، جاءت ‏الأيقونة فعل تأمّل وصمت، تعزيزاً للجانب الفني من دون المسّ بالجانب الديني، فالكنيسة ترفض أيّ «وظيفة» للأيقونة سوى الوظيفة الدينية، وفي مقدّمتها الأيقونات التي تروي الإنجيل بالصورة كي يكون متاحاً للناس جميعاً على اختلاف مستوياتهم التعليمية.

 


نقع على رسم مماثل لمسيح رابولا في كنيسة Santa Maria Antiqua في روما، يعود إلى القرن الثامن

أمّا رسم الصليب، فقد ظهر علانيةً في القرن الرابع، عَهْدَ الملك قسطنطين الذي أوعز بصنع تمثال له في روما، حاملاً صليباً مرصّعاً بالأحجار الكريمة كعلامة على انتصاره. مع ذلك، كانت الكنيسة تمنع أي رسم للمسيح مصلوباً، علماً بأنّ هذا الفنّ الديني كان قد بدأ يشق طريقه تشبيهاً وتصويراً لواقعة الصلب، والمنحوتة الأولى في هذا الموضوع تعود إلى القرن الخامس وهي محفوظة في المتحف البريطاني. وهناك منحوتة أخرى من القرن السادس، عند مدخل «كنيسة القديسة سابين» في روما تشبه سابقتها، ويظهر فيها المسيح كأحد المصارعين اليونانيّين مزنّراً بحزام رفيع، ما أثار استهجاناً واسعاً في الغرب.
شرقاً، تأتينا أول الرسوم والمنحوتات التي تجسّد المصلوب من سوريا، حيث انتشرت الكنائس والأديرة في شمالها وفي بلاد ما بين النهرين. ازدهر هذا الفن على أيدي الرهبان وامتدّ تأثيره إلى القسطنطينية وروما عبر إنطاكية والبحر المتوسط، وبقيت لنا عنه وثيقة بالغة الأهميّة من القرن ‏السادس حول رسم المسيح المصلوب على غلاف أناجيل «القداس الإلهي» لرابولا (L’évangéliaire de Rabbula) لفنان سوري أنجز رسمته هذه لـ «دير مار يعقوب». هنا، ظهر المسيح المصلوب متسربلاً بثوب طويل بلا أكمام يشبه ثوب الكاهن (colobium)، وتظهر فيه العينان واسعتين ومفتوحتين، والرأس مائلاً إلى اليمين بانحناءة خفيفة، واللحية كثيفة تغطّي الوجه، والذراعان مفتوحتين أفقياً إلى الحدّ الأقصى وفي الكفّين مسماران، والإبهام ملتوياً كأنّه خارج راحة اليد، والقدمان متوازيتين ومسمّرتين على خشبة الصليب من دون مسند. يبدو المسيح في هذه الوضعية المأساوية كأنّه لامبالٍ، بل محلّق في الأعالي، ضحيّة مثالية تحمل خطايا العالم كلّه بسلام عميق. إذ أريد للصليب هنا أن يكون رمز الانتصار على الموت، رمز القيامة.


على الرغم من الرفض القاطع في القرنين السادس والسابع لرسم أيقونة الصلب، كان لنموذج رابولا ذاك تأثير كبير في الفن الكنسي. إذ أعيد إحياؤه في العصور اللاحقة بلوغاً إلى القرون الوسطى. ونقع على رسم مماثل لمسيح رابولا في كنيسة Santa Maria Antiqua في روما، يعود إلى القرن الثامن، في حين أنّ النموذج الأساسي المقبول في القرنين السادس والسابع كان رسم الصليب فقط، وتظهر صورة المسيح أو الحَمَل في الوسط، عند نقطة المركز في الصليب.

 

الألم والفقر والمجاعة والضياع وسمت القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فظهر إكليل الشوك في لوحات الصلب (اللوحة لدوتشيو من القرن الرابع عشر)

على ‏إثر تتويج شارلمان إمبراطوراً على الغرب، واندلاع سجالات حول فن الأيقونة، ومن ثمّ مع انعقاد «مجمع نيقية» عام 787 الذي كرّس تكريم الأيقونات، تعمّقت الهوّة بين الشرق والغرب لناحية المفهوم اللاهوتي للأيقونة، وللروحانية المعبّر عنها في المفهوم الشرقي، إذ رأى فيها الغرب مجرّد موضوع تعليميّ وكتاب للذين لا يعرفون القراءة (غريغوريوس الكبير). هكذا، ترك الغرب للفنانين حرية التعبير في رسومهم الدينية، ومن ثمّ تغلّبت النظرة الجمالية شيئاً فشيئاً على المفهومَين الروحي واللاهوتي الشرقيَّين.
‏ركّز الشرق جلّ اهتمامه الفني على وجه المسيح، لينتقل لاحقاً إلى تفاصيل وضعية جسد المسيح على الصليب، فيما انكبّ الغربيون بين القرنَين التاسع والثاني عشر على تصوير المئزر الذي يلفّ الوركين (perizonium)، إذ تذكر الأناجيل أن الجنود أخذوا ثياب المسيح عندما صلبوه (يوحنا 23:19)، محافظين على نمط موحّد للوجه والجسد العاري، بينما ظهر المئزر بأشكال عدة وأبعاد رمزية من خلال أسلوب وسطيّ بين حزام المصارع (subliculium) في المنحوتة عند باب «القديسة سابين»، والثوب الطويل (colobium) لمصلوب رابولا.
‏انصرف رهبان الأديرة المنتشرة في الغرب إلى كتابة المخطوطات الدينية المزدانة بالرسوم وأشكال الزينة المتنوعة. وتجدر العودة إليها لتقصّي تطور رسم المسيح المصلوب بين القرنين التاسع والحادي عشر. ثمة شكلان في تلك المرحلة لرسم وجه المصلوب: الأول المسيح بلحية توحي ملامحه ظفراً ومجداً كأنّه متعالٍ ومحلّق فوق الصليب، عيناه مفتوحتان على وسعهما، وملامحه نضرة، ورأسه مكلّل بهالة المجد. كل ما فيه يُظهر المسيح المنتصر على الموت والممجّد. أمّا الشكل الثاني، فيتطابق مع مسيح رابولا، فالوجه تغطّيه لحية كثّة والشعر طويل يتدلى قسم منه على الكتف اليسرى. أمّا العينان، فالبعض يرسمهما مفتوحتين على اتساعهما، والبعض الآخر نصف ‫مفتوحتين. تلك كانت بدايات رسم المسيح ميتاً على الصليب، المسامير في راحتَي المصلوب، والرجلان متوازيتان أحياناً، والقدمان تستندان إلى مسند خشبي مسمّرتين، أو مضمومتين، ومسمّرتين بمسمار واحد غليظ. وحول الصليب يتحلّق أحباب المصلوب، مريم أمّه، يوحنا، لونجينوس (حامل الحربة)، استيفانون (حامل الإسفنجة)، وفي حالات نادرة يظهر اللصان إلى يمينه ويساره.


أثمرت الخبرة الروحية الصوفية في القرن الثاني عشر أجمل الرسوم للمصلوب وأكثرها إبداعاً. «المسيح العجيب»، «الشافي»، «ملك السلام»، الذي أفصح عن انتصار الحياة على الموت، ملاقياً المؤمن بعينيه الواسعتين اللتين تخترقان أعماق قلبه، فتهدّئه وتسكّنه وتدعوه إلى اللوذ بجروحه مثلما تلوذ الحمامة بشقوق الصخر… أو نرى المصلوب نائماً على صليبه كأنّه فوق سرير العرس. تتضافر وضعية الجسد والثوب الذي يغطّيه لعقد الصلة بين السماء والأرض و«التصالح مع الله».
‏هذا المسيح المصلوب نظر إليه القديس فرنسوا الأسيزي صارخاً: «الحب ليس محبوباً»، سائلاً إيّاه أن يرعى كنيسته التي كانت قد بدأت تنهار. بدأ ‏إكليل الشوك يظهر على رأس المسيح، بدلاً من حالة المجد في رسوم القرن الثالث عشر، وبرزت علامات التعذيب على الجسد، فلم تبقَ الذراعان في الوضعية الأفقية، بل معلّقتين (متعبتين متألمتين) على الصليب، وهبطت الكتفان بفعل ثقل الجسد. أضحى المسيح «حامل خطايا العالم». نرى القديس دومينيك باكياً على درجات الهيكل يعصر الألم قلبه، متضرّعاً إلى المسيح الفقير المتألّم لينقذ الكنيسة وأبناءها من الضياع، فالألم والفقر والمجاعة والضياع وسمت القرنين الرابع عشر والخامس عشر. جروح المسيح «الشافي الوحيد»، فـ «الدينونة الأخيرة» اقتربت (في المعتقد الشعبي عهد ذاك). أمّا الراهب، هنري سوزو (Henri Suso) فكان أوّل من شرع بتقديم مراحل درب الصليب داخل الكنيسة، ومذّاك بدأت ممارسة طقوس درب الصليب التي أسهم الفن في إبرازها رسماً ونحتاً، لتكون محطات صلاة خلال الصوم الكبير الذي يسبق عيد الفصح.


‏إلى منطقتنا الحضاريّة وإرثها الديني والليتورجي، مع إنجيل رابولا الذي قد لا يكون معروفاً ومنتشراً عالمياً بقدر «أناجيل القديسين الأربعة». تكمن أهمية هذا الإنجيل الدينية والثقافية في كونه تراثاً سريانياً ومارونيّاً ومن أقدم المخطوطات الدينية التي تتضمن الأناجيل الأربعة باللغة السريانية، نسخها الراهب رابولا عام 586 بمعاونة رفاقه الرهبان في «دير مار يوحنا» في بيت زغبا التي تقع بين إنطاكية وحلب (شمال سوريا). كُتبت هذه النسخة بالخط «الإسطرنجيلي» وتحتوي على نسخة قديمة جداً من نصّ الأناجيل المعروفة بـ «البسيطة» (pessito). وهي كذلك أقدم مخطوطة دينية مسيحية في العالم تشتمل على صور تبرز التاريخ بوضوح، وتتضمّن صفحاتها الثلاثون الأولى مجموعة رسوم بأيدٍ مارونية تجسّد أبرز المحطّات في حياة المسيح.

 

تعتبر رسمة المصلوب في «إنجيل رابولا» الأولى من نوعها في العالم

وتعتبر رسمة المصلوب في هذا الإنجيل الأولى من نوعها في العالم، ومنه انطلقت لتُرفع فوق المذبح الكنسيّ، شرقاً وغرباً، ولتزيّن البيوت والمؤسسات المسيحية أينما كان في العالم. كما يحتوي إنجيل رابولا على أوّل رسم للعذراء «الهادية حاملة الطفل»، على ما يؤكد الأب بطرس ضو في كتابه «التصوير الكنسي الماروني ـــ إنجيل رابولا وصوره» وهو الجزء السابع من مجموعة «تاريخ الموارنة الديني والسياسي و الحضاري».
يلفت جول لورا في كتابه «المخطوطات السريانية ذات الصور» إلى أنّ هذه المخطوطة ـــ إنجيل رابولا ــــ هي الأقدم في العالم لناحية تضمّنها رسوماً ذات تاريخ مدوّن وواضح على نحو أكيد وثابت، في حين أنّ باقي المخطوطات التي تحمل رسوماً، سواء كانت سريانية أو لاتينية أو بيزنطيّة أو يونانية، أو سواها، لا يُعرف تاريخها إلّا بطريقة افتراضية محض تقديرية، استناداً إلى شكل الخط أو سواه من الدلائل التي لا توصل إلى اليقين.
‏انتقل «إنجيل رابولا» بين أيد وكنائس متفرقة، من «دير مار يوحنا» في بيت زغبا، إلى زائر إنطاكية الكاهن رومانوس، ثم بعد وفاته إلى «كنيسة مار جرجس» في إنطاكية، ليحطّ لاحقاً لدى بطاركة الموارنة في «دير ميفوق» في وادي إيليج، ومن ثمّ أخذوه معهم زمن انتقالهم إلى «دير سيدة قنوبين» عام 1440 حيث بقي هناك حتى عام 1652… قبل أن ينتقل إلى أوروبا ويصبح في حوزة أسرة كوازلان. ظلّ يتنقّل من يد إلى يد لغاية وصوله إلى «مكتبة باريس الوطنية»، فالمكتبة اللورنسية في فلورنسا حيث اكتشفه المطران اسطفان عواد السمعاني، مبرزاً كنوزه للعالم في كتابه «المخطوطات الشرقية» الذي ضمّنه المخطوطات الموجودة في «مكتبة ميديسي» الفلورنسية وبينها الكلدانية والآرامية والسريانية والقبطية. طُبع «إنجيل رابولا» في فلورنسا عام 1742 وبقي في مكتبتها. منذ ذلك الحين، تناوله درساً وتمحيصاً وتحليلاً علماء الكتاب المقدس والليتورجيون والفنانون والمؤرخون.

تأتينا أول الرسوم والمنحوتات من سوريا حيث انتشرت الكنائس والأديرة في شمالها وفي بلاد ما بين النهرين

‏يعتبر الخبراء «إنجيل رابولا» رائداً في فنّ الرسم المسيحي، وهو متأثر بالفن الفينيقي الذي ترك بدوره بصماته على الفنّين السريانيّ والبيزنطيّ. في هذا الإنجيل، هناك 26 لوحة صغيرة ملوّنة تمثّل حوادث ومواقف في حياة المسيح وفق الكنيسة: «بشارة زكريا، بشارة العذراء، ميلاد المسيح وعماده، قتل أطفال بيت لحم، عرس قانا الجليل، شفاء النازفة، شفاء المرأة الحدباء، الصلب والقيامة، الصعود، المسيح الملك»…
في مناسبة مرور 1600 سنة على وفاة «‏القديس مارون»، شاء الاختصاصي في الاقتصاد والاجتماع فؤاد الشمالي الاحتفال بهذه الذكرى وبالتراث السرياني الماروني، بطريقة خاصة عبر إعادة رسم لوحات «إنجيل رابولا» للمرة الأولى بالحجم الكبير، بغية إظهار مدى تأثير هذا الإنجيل وأثره في الفنون. استند في عمله إلى كتاب «المخطوطات الشرقية» الضخم والنادر الموجود في مكتبته الذي يتضمن لوحات «إنجيل رابولا» التي نقلها المطران السمعاني بالأبيض والأسود بحجم صغير (30 x 20 سنتيمتراً).


معرض يقام قريباً يرمي إلى إطلاع اللبنانيين على إرثهم المشرقي المتجذر عميقاً في هذه البقعة الحضارية من العالم
لكن الأب بطرس ضو قصد فلورنسا أثناء تحضير كتابه «إنجيل رابولا وصوره» ونسخ ميكروفيلماً ملوناً عن اللوحات ونشرها في الكتاب، واستخدم تلك النسخة الملونة في إعادة رسم لوحة («الصلب والقيامة») كبيرة وفريدة بمقاس ‫50‏×40‬ سنتمتراً. وكل لوحة مزينة بالورود والأزهار وأوراق النبات، كما تظهر الجديلة أو السلسلة والخطّ المتعرّج، والمربّعات ضمن الدوائر، وتغلب الألوان الفاتحة والمضيئة كأنّها تعكس نور المسيح وقوة الإيمان. استغرق العمل سنتين متناولاً أدقّ التفاصيل في كل لوحة، من الحرف إلى الصورة فاللون ونوع الخشب والحفر عليه، وستقدَّم قريباً في معرض يقيمه الشمالي لإطلاع اللبنانيين على إرثهم المشرقي المتجذّر عميقاً في هذه البقعة الحضارية القديمة من العالم.