مجلة وفاء wafaamagazine
في هذا اليوم، 25 تموز 2022، ستكون تونس محطّ أنظار كلّ المحلّلين والسياسيين في العالم، وخاصة في العالم العربي وأوروبا. والأسباب كثيرة: أهمّها أن تونس – وهي تكاد تكون البلد العربي الوحيد الذي استطاع أن يحقّق بطريقة سلمية بعض ما أراده من ثورته في سنة 2010/ 2011 – تقف اليوم على مفترق طرق غاية في التعقيد: الاتجاه الأوّل يُرفع فيه شعار مواصلة السير على درب تفكيك إرث الاستبداد واللاعدالة والتهميش والتبعية وبناء مستقبل الأجيال القادمة، ولكن بطريقة هشّة دستورياً، وفي وضعية يغيب فيها التحالف السياسي المتين المناصر للمسار، وفوق ما تَقدّم، بمواصفات مفتوحة على احتمال تجربة استبدادية جديدة خطيرة بحسب بعض بنود الدستور المطروح على الاستفتاء. الاتجاه الثاني قد تستمرّ فيه حالة الاستثناء مع كلّ مخاطرها، أو تحصل عودة إلى ما قبل 25 تموز 2021، لكن من دون أفق سياسي واضح، أو ربّما يتشكّل كيان (كيانات) سياسي لا يحظى بشرعية داخلية كافية فيطلبها من الخارج، وذلك لأن تشتُّت القوى السياسية المعارضة لمسار 25 تموز، وصراعاتها الأيديولوجية وضغائن قادتها، والضحالة التاريخية لقسم كبير منها، إمّا ستمنعهم من العمل جبهة واحدة، وإمّا – وهذا في أفضل الأحوال – ستجعلهم ينتهون إلى الترميم القانوني الشكلي لِما اعتبروه خروجاً عن المسار الدستوري الصحيح مضحّين بالجوهر الذي هو تحقيق أهداف الثورة، وأهمّها حصول المهمّشين والمغلوبين والمقهورين الذين أنتجتهم منظومة الاستبداد، وهم الغالبية، على ما طالبوا به في 2010 – 2011 ولم ينالوا منه شيئاً حتى اليوم.
مجالات الفهم والفعل
تضع هذه المقدّمة المختزَلة الإصبع على مجالات الفهم والفعل واحتمالات المستقبل المخفيّة في وضعية مفترق الطرق الذي تجد تونس اليوم نفسها فيه.
في مجال الفهم، هناك ما هو داخلي وما هو خارجي. بالنسبة للمجال الداخلي، ونعني به العمليات الاجتماعية والفكرية والمطلبية ذات الثقل الداخلي الحاسم، يمكن القول إن تجارب الانتخابات الثلاث التي عرفتها تونس منذ الثورة، أي في 2011 و2014 و2019، تختزل أهم مفاتيح الفهم (أنظر دراستنا المنشورة في المجلة التونسية للعلوم السياسية، ع3 سنة 2020). ومن خلال دراسة هذه الانتخابات يمكن أن نخرج باستنتاجات أربعة:
1- إذا استثنينا تجربة الحزب الذي أسّسه الحبيب بورقيبة سنة 1934 وقاد به تونس – بالتحالف مع «الاتحاد العام التونسي للشغل» – نحو الاستقلال، لم تَعرف الساحة التونسية أحزاباً بالمعنى الحديث والديموقراطي للكلمة، وقد كان المتسبّب الأساسي في هذه الظاهرة الاستبداد السياسي، خلافاً لمجتمعات عربية أخرى تشقّها صراعات أفقية تعطّل تَشكّل أطر حديثة للفعل السياسي. وفي الحقيقة، تسمح لنا هذه الملاحظة بالتشكيك حتى في الصفة الحزبية للتنظيم السياسي الذي حَكم تونس منذ الاستقلال، لأنه لم يكن حزباً ديموقراطياً في داخله، ومنَع الأحزاب الأخرى من التشكّل والنشاط بحرية. ولهذا السبب، فإن النُخب الحزبية التي وصلت بعد الثورة إلى البرلمان لم تكن متدرّبة لا فكراً ولا ممارسة على العمل الديموقراطي. وبينما كان بعضها على حافّة الأمّية السياسية، كان البعض الآخر يتصرّف كصاحب أصل تجاري للبيع، ينتقل من حزب إلى حزب ومن كتلة برلمانية إلى أخرى حسب العرض والطلب (بين سنتَي 2014 و2019، غيّر 87 نائباً انتماءاتهم، أي 40% من مجمل النواب في الدورتَين). أمّا القادة ودوائرهم (صحابتهم)، فقد مارسوا السياسة من منظور تكتيكي نفعي، وهم «زعماء» صنعوا كياناتهم السياسية واستمرّوا في قيادتها بشكل لا ديموقراطي عشرات السنين.
2- إن التجربة الاستبدادية التي عرفتها تونس، والتي قامت على احتكار الزعامة، وتفكيك كلّ ديناميكية اجتماعية منتجة لزعامة منافسة (استطاع «الاتحاد العام التونسي للشغل» الإفلات نسبياً من هذا الطوق ولكن من دون تشكيل تهديد جدّي لمركز الزعيم الأوحد)، وعلى احتكار أتباعها للموارد والفرص والمنافع والاعتبارات، أنتجت فساداً في الاقتصاد الذي غاب فيه منطق السوق، وترك هامشاً واسعاً (حوالى 45% من المبادلات) للاقتصاد الموازي المتحرّر من الضرائب، وفساداً في مفاصل الإدارة بما يخدم الفساد الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، أنتج فراغاً قيادياً كبيراً في البلاد جعل الثورة تنطلق خارج كلّ إطار له قيادة شعبية مُدبّرة، ولم يسعفها إلّا كون أهمّ ناشطيها منضوين تحت لواء «الاتحاد العام التونسي للشغل»، إمّا كنقابيين أو كناشطين سياسيين «ضعاف الحال» أمام قوّة الاستبداد واستظلّوا بالمنظّمة (في المناطق التي انطلقت منها الثورة، 7,5% فقط من جميع المنخرطين في أحزاب كانوا من المعارضة، بما في ذلك الأحزاب السرّية والإسلاميون، بينما شارك في التظاهرات 94% من المنخرطين في اتحاد الشغل). والنتيجة أنه حينما سقط النظام تحوَّل كلّ رئيس حزب – أحياناً قد لا يتجاوز منخرطوه المئة شخص – إلى «زعيم» لا يمكنه الانصهار في أيّ كيان أوسع، وهذا حال أحزاب الوسط واليسار بشكل خاص، بعدما سيطرت على نشاطهم ورؤيتهم للواقع هوية المثقفين.
3- إن تجربة التحديث القوية التي عرفتها تونس، وهي تجربة بدأت حتى قبل الاستعمار، قد خلقت أجيالاً لا ترى للعقيدة أيّ دور في إدارة الشأن العام والقضايا السياسية، ولا ترى فيها مرجعية أولى لترتيب العلاقات الاجتماعية، ومن أهمّها علاقات الرجل والمرأة. هذا لا يعني البتّة أن التونسيين غير متديّنين، لكن أغلبهم لا يعطي قيمة للتأويل الأصولي التقليدي للعقيدة في غير العبادات. والنتيجة التي حصلت بعد الثورة هي أن التيارات الدينية الدعوية، التي واجهت النظام الاستبدادي لبن علي بالدعوة الدينية وبالمظلومية، اصطدمت بأقسام واسعة من المجتمع المدني الحداثي التي رفضت إعطاء الثورة بُعداً دينياً أو استخدام المعتقد الديني للحصول على مكاسب سياسية تتعلّق بإدارة الشأن العام. وهكذا، حدث شرخ أيديولوجي كبير بين التيارات السياسية المتصارعة على السلطة، مع مفارقة كبيرة وهي أن قسماً كبيراً من قواعدها الاجتماعية مشترك.
4- إن الصراع السياسي الذي انخرطت فيه الأحزاب بعد الثورة، أيديولوجيا وزعاماتياً، همّش المطالب الحقيقية للذين كانوا «حطب الثورة»، بينما حوّل كثير من السياسيين شعارات هؤلاء إلى تجارة دعائية. و«حطب الثورة» هم مهمَّشو الأحياء الشعبية في المدن، والعاطلون عن العمل خاصة من حاملي الشهادات الجامعية، وسكّان المناطق الداخلية الذين يعتبرون أن السياسيين في تونس (يقصدون نُخب الأحزاب في العاصمة وفي المدن الساحلية) كانوا دائماً يُحمّلونهم الجمر بأيديهم، أي يطلبون منهم التصويت لهم في الانتخابات داخل الأحزاب على المستوى المحلّي ليحصلوا على المسؤوليات الأولى في التنظيم، فإن نجحت العملية ربحوا هم، وإن فشلت خسر «حاملو الجمر»، وهذا هو مختصر ظاهرة الفساد السياسي وتبعاته. وبما أن جميع السياسيين لا يملكون حلولاً سحرية لهؤلاء، فإن كلّ مَن حاول استجلابهم إلى جانبه، بالمال أو عن طريق الوعود البرّاقة، يتّهمه خصومه بالشعبوية.
في المشهد الخلفي للإجراءات التي قام بها قيس سعيد يوم 25 تموز 2021، وكذلك للاستفتاء المعروض على التونسيين، هناك كلّ هذه القضايا، وبالتحديد الفشل الذريع في حلّها، والذي تجلّى في تدحرُج تونس نحو أزمة اقتصادية حادّة تسبّبت في تدايُن لم يسبق له مثيل، قد يكون جزء من أسبابه من عمل القوى التي بدأت تخسر مواقعها واحتكاراتها ولا تعترف بالثورة. وفي المشهد أيضاً، أزمة ثقة في الأحزاب التي قضت وقتها في الصراع على المواقع والاعتبارات، وأزمة إدارة نخرها الفساد، وأزمة صحّية نتيجة تفشّي وباء «كورونا» أودت، في بلد تعداد سكّانه 11,5 مليون نسمة، بحياة أكثر من 25 ألف ضحية.
في المجال الخارجي، هناك تاريخ تونس البشري والاقتصادي والثقافي والديبلوماسي والجيوستراتيجي، وهناك أيضاً السياق العالمي والإقليمي الجديد الذي يحاول الفاعلون فيه التعامل بنفعية قصوى مع المسار العام لما يُسمّى «الربيع العربي». أوّلاً، هناك الدائرة المغاربية، وفيها تونس في وضعية غير مستقرّة، وليبيا في وضعية حرب أهلية. والبَلدان يفتحان على مصر الخائفة على أمنها والتي تبحث عن مكاسب في ليبيا، وعلى الجزائر «المرعوبة» من تدهور الحالة التونسية في الوقت الذي تشهد فيه علاقاتها مع المغرب وحدودها مع مالي وليبيا توتّراً كبيراً. ومن هذا المنظور، الاستقرار هو المطلب الأوّل للجارَين الشرقي والغربي، وهناك مراقبة ومسايرة حثيثة للوضع من طرفهما، مع تدخّل مصري فعلي في الحالة الليبية ومساندة جزائرية تبدو ثابتة للقيادة التونسية.
في الدائرة الأوروبية، هناك الإرث الفرنسي المركّب من مصالح اقتصادية واعتبارية قديمة، بعضها مضمّن حتى في وثائق الاستقلال، وبعضها الآخر إرث ديناميكي محايث، يتعلّق بصناعة عقل جزء من النُخب التونسية الفاعلة وتَمثّلها الاستراتيجي لمصالح بلادها، وهي نُخب وطنية، لكنها تفكّر في بلادها من منظور خارجي بحُكم ما تعلّمته خلال تكوينها وتدريبها. وهذا الإرث يُستخدم من الداخل ومن الخارج من أجل متابعة مسار الثورة التونسية، ومحاولة توجيهه بما يعيد إنتاج المكاسب الفرنسية، أحياناً بالمساعدة وتغليب الاتجاه الاقتصادي والثقافي الذي يُبقي تونس ضمن النطاق الاستراتيجي الأوروبي، وأحياناً ربّما بتدخلات جراحية استباقية دقيقة، والشواهد التاريخية كثيرة. وبطبيعة الحال، هناك الولايات المتحدة الأميركية التي لا تريد التمدّد بشكل مفرط في ساحة تَعتبرها أوروبا حديقتها الخلفية، لكنها حريصة على ألّا تَخرج تونس من دائرة نفوذها الجيوستراتيجي.
أمّا في الدائرة الإقليمية الأوسع، والتي تضمّ المشرق العربي وتخومه الشمالية والشرقية، فإن حضور دول هذه المنطقة في المسار التونسي، شديد التعقيد. فهناك الموقف الأصلي لبعض الدول من كلّ ثورة، وهو يترجَم عملياً في تونس بمساندة المنظومة القديمة. وهناك الموقف المساند للثورة إذا كانت تخدم مصالح محدّدة، أهمّها مرتبط بمستقبل الاستثمار المالي (ضمن سياسة ما بعد البترول والغاز) في بلدان «الربيع العربي»، ومرتبط كذلك بالصراعات المحلّية بين هذه البلدان على النفوذ الخارجي، وتحصين الذات من الاعتداء من جيران مغامرين (وهو ما حدث سابقاً مع الكويت). وهذا الموقف يبحث عن سند سياسي ثقافي محلّي مناسب يضمن سياقاً استثمارياً مستقرّاً ورابحاً. وهناك قوى صاعدة مطلّة على المتوسّط أو لها مصالح حيوية في الخليج (مثل تركيا وإيران) ويهمّها «الربيع العربي» بما يجلبه من فُرص في مجال التوسّع السياسي أو التجاري، وتلك القوى تصطدم في تونس وليبيا بسطوة أوروبا الاقتصادية والسياسية والثقافية، وربّما لا يطلب بعضها (تركيا) في هذه المرحلة سوى الشراكة مع أوروبا الغربية في الغنيمة.
وانطلاقاً من كلّ الأسباب المعقّدة المذكورة أعلاه، فإن مسار الحالة التونسية مثير للقلق بالنسبة لجميع الدوائر، وربّما الأكثر إقلاقاً هو قيس سعيد نفسه؛ فهو يبدو متديّناً ولكنه غير قابل لبعض التيّارات الدينية التي تساندها بعض الدول المشرقية؛ ويبدو علمانياً لكنه غير مضمون الجانب من المنظور اللاييكي الأوروبي؛ ويبدو قابلاً باقتصاد السوق، وما يفرضه من انفتاح، لكنه يطوّر خطاباً يخوّن قسماً من المستثمرين المرتبطين بمصالح القوى المؤثّرة في تونس وهي أوروبية بالأساس. وعليه، تَنظر كلّ القوى المعنيّة، إلى الاستفتاء بشيء من الريبة، لأن توجّهاته الحقيقية ما زالت غير واضحة. وهي لا تهتمّ على الإطلاق بالجانب الديموقراطي من المسألة إلّا من باب الدعاية والخطابة والضغط في هذا الاتجاه أو ذاك، لأن الأصل في كلّ القضية هو الاستقرار «المناسب»، وما هي المخاطر والمكاسب، حتى وإن كانت صغيرة، من المنظور الاقتصادي؟
المجال العملي
يشكّل الاستفتاء تحدّياّ حقيقياً لكلّ القوى الداخلية والخارجية التي عرضنا مواقعها ومصالحها، ويشكّل تحدّياُ أكبر لرئيس الجمهورية نفسه.
بالنسبة للقوى الداخلية: أوّلاً، على رغم أن الفصل 80 من دستور 2014 الذي اعتمده رئيس الدولة في تجميد البرلمان (قبل أن يقوم بحلّه لاحقاً) لتبدأ حالة الوضع الاستثنائي، لا يعطي للرئيس، بأيّ حال، الحق في ما أَقدم عليه (جرى نقده بشدّة من طرف بعض المختصّين في القانون الدستوري)، إلّا أن أغلب القوى المعارضة له اليوم كانت قد قبِلته علناً ولو على مضض، بل إن قياديين من حزب «النهضة»، القوّة الأولى في البرلمان المُجمّد، خرجوا عن مراقبة قيادتهم وأعلنوا مساندتهم الكاملة للعملية. وإلى اليوم، ما زالت أغلب القوى السياسية المعارضة تقول إنه لا رجوع إلى ما قبل 25 تموز 2021، أي أنها تعترف بقوّة حجة قيس سعيد في القول بأن النظام السياسي البرلماني المتّبع يمنع السلطة التنفيذية من العمل بانسجام والأخذ بزمام الأمور في مثل الحالة التي كانت عليها البلاد. هذا الموقف – الذي اضطرّت تقريباً قوى المعارضة للسير فيه تحت الضغط الشعبي – أضعفَ من قوّة منطقها المناهض لتجميد عمل مجلس النواب. ثانياً، مع تطوّر الحالة السياسية في اتّجاه استخدام الرئيس لصلاحياته الجديدة للتدخّل تقريباً في كلّ شيء، وفي غياب محكمة دستورية تحدّ من سلطاته، بدأ الانقسام الواضح يسري في كلّ مفاصل المجتمع السياسي التونسي: بين مؤيّد للمسار لأنه يضع – حسب رأيه – حدّاً للفساد والتلاعب بمقدّرات الدولة واحتكار المناصب والفرص والكراسي، أحياناً لصالح القوى الدولية المهيمنة؛ ومعارض له يَعتبره انقلاباً ضدّ الدستور والمسار الديموقراطي برمّته وممهّداً لديكتاتورية شعبوية جديدة مقيتة، بل إن البعض ممّن ساند في البداية مبادرة الرئيس، تراجَع عن ذلك، وأصبحت حُجج المعارضين تركّز على لا دستورية العملية وعلى استفراد الرئيس بالحُكم والمبادرة، بينما اتّهمهم هو بأنهم يبحثون فقط عن المواقع المناسبة في الدولة لغايات نفعية، خاصة وأنهم لم يكونوا ديموقراطيين طيلة سنوات حُكمهم بعد الثورة ولم يحترموا بنود الدستور.
اقترح المعارضون، ومعهم «الاتحاد العام التونسي للشغل»، حواراً وطنياً تشكّل نتائجه مخرجاً من الأزمة وتعود بموجبها مؤسسات الدولة إلى العمل، على رغم عدم الاتفاق بينهم على مسألة عودة البرلمان إلى العمل. لكن الرئيس رفض هذا الحلّ، وتَعلّل بأن الحوار مع هذه القوى سيكون على اقتسام المناصب والتموقع في الدولة كما حدث في مناسبتَين في السابق، واستحدث في الوقت ذاته طريقة أخرى في إنجاز الحوار، وهي الاستشارة الإلكترونية المباشرة للشعب. فكان ردّ فعل القوى الأغلبية في البرلمان تنظيم جلسة افتراضية للمجلس، استغلّها الرئيس ليحلّ تلك المؤسّسة بحجّة أن الاجتماع كان خارج القانون الذي ينظّم الوضع الاستثنائي، متحدّثاً عن أنه تمّ بمساعدة خارجية. ثمّ تَعقّد الوضع السياسي أكثر عندما بادر أحد المناضلين القدامى لنظام زين العابدين بن علي (أحمد نجيب الشابي)، بمساعدة حزب «النهضة»، في تكوين ما أسماه «جبهة الخلاص الوطني» التي بدأت القوى الدولية بالاتصال بها، ما أثار شكوك ومخاوف كثير من المواطنين، فيما رفضت الانضمام إليها خمسة أحزاب على الأقلّ محسوبة على اليسار والوسط، وتجاهَلها تقريباً «الحزب الحرّ الدستوري» الذي تأسّس من بقايا «التجمع الدستوري الديموقراطي»، وتقوده إحدى مساعدات بن علي زمن حُكمه. بعد ذلك، أعلن قيس سعيد برنامجاً سياسياً تضمّن كتابة دستور جديد للبلاد يعيد – حسب قوله – للرئيس صلاحياته، يَعقبه استفتاء شعبي عليه في 25 تموز الحالي، ثمّ انتخابات تشريعية مبكرة آخر السنة الحالية.
هذا المسار الذي اتّبعه الرئيس جعل الوضع الدستوري والتطبيقي لمشروعه أكثر تعقيداً، وذلك بسبب استفراده بالقرار وبسبب الأخطاء الكبيرة التي رافقت إنجاز العملية. المشكلة الأولى التي واجهته، هي أن محاولة تعويض الحوار الوطني بين الأحزاب والمنظّمات المدنية الكبرى في البلاد، بحوار إلكتروني مع «الشعب»، خلَق غموضاً كبيراً: فهل هو حوار من قبيل سبْر الآراء، وفي هذه الحالة يجب أن يخضع للمواصفات العلمية لمثل هكذا عملية، أم أنه حوار يستهدف أخذ مواقف أفراد «الشعب» التونسي، وهنا لم تُمكّن نسبة المشاركين فيه، والتي لم تتجاوز 7% من مجموع مَن لهم الحق في الانتخاب، من إكساب العملية قيمة سياسية معتبَرة. وعليه، يمكن القول بأن الرئيس خسر تلك الجولة ولم تكن للاستشارة القِيمة التي أرادها لها. وللتعويض عن الخسارة، وفي ظلّ توجّسه ممّا اعتبره مخاتلة من معارضيه، والمقصود هنا شكل الحوار الوطني الذي يطالب به خصومه والذي قد يُفقده القدرة على المناورة، شكّل لجنة استشارية تقوم بصياغة دستور جديد للبلاد يحقّق – بحسب قوله – أهداف الثورة التي لم يجِد هو، كرئيس منتخَب بنسبة عالية من المقترعين، سبيلاً لتحقيقها لأن المنظومة القائمة تحدّ – وفق رأيه – من سلطاته (، وينخرها الفساد السياسي، وتخضع للتأثير الخارجي. لكن الهيئة وُلدت هشّة قانونياً ومعيارياً لأنها لم تتشكّل بموافقة القوى السياسية في البلاد، وهجرها بعض مَن اختيروا ليكونوا أعضاء فيها، وبالتالي جرى القدح في تركيبتها بقوة.
ظهرت النتائج السلبية لهذا التمشّي الهشّ عندما أنهت اللجنة أعمالها بِمَن قبل بالمشاركة فيها (وعلى رأسهم أحد أهمّ فقهاء القانون الدستوري في تونس وهو الصادق بلعيد)، وقدّمت نسختها لرئيس الدولة، الذي أدخل عليها تغييرات كبيرة تعطيه صلاحيات، تقريباً غير محدودة، للتدخّل في سيْر دواليب الدولة، وبادر بطرحها على الاستفتاء. لكن ما قام به أدّى إلى انقلاب رئيس اللجنة عليه، بأن نَشر النص الأصلي للمقترح الذي قدّمه له، متنصّلاً من النصّ الذي عرضه الرئيس على الشعب، فتلقّفت المعارضة الخلاف بينهما لتقدح بشكل جذري في العملية برمّتها. ولم تتوقّف المشاكل عند الحدّ المذكور، بل تعقّدت عندما سحب الرئيس نسخته الأولى وقدّم نسخة منقّحة استجاب فيها – في الحقيقة – لكثير من الانتقادات التي وُجّهت إلى نسخته الأولى، ومن أهمّها قضايا الهوية والتنصيص على الاقتراع العام لأعضاء مجلس النواب، والنتاسب في التحكيم، مع تعديل طفيف في كيفية اختيار أعضاء المحكمة الدستورية، وموضوع الحريات الفردية. لكنه تمسّك بسلطاته الواسعة التي يصعب الحدّ من سطوتها دستورياً، ومن بينها الإفلات من المحاسبة واستحالة عزله تقريباً على المستوى العملي، كما احتفظ بالكيان السياسي الجديد الذي استحدثه، وهو المجلس الوطني للجهات، الذي يَعتبره أداة تمثيل ناجعة للجهات التي همّشتها آلية انتخاب مجلس النواب، الذي كان دائماً – بحسب رأيه – ألعوبة في يد اللوبيات والمصالح الخاصة (ومن هنا، جاء نقده للديموقراطية القائمة على التمثيلية البرلمانية). وفي المقابل، اعتبر خصومه المجلس المُشار إليه طريقة ملتوية للبدء بتطبيق أيديولوجيا الديموقراطية القاعدية التي يؤمن بها سعيد، وهو توجّه يمكن – وفق رأيهم – أن يعيد بعْث النعرات الجهوية والهويات المحلّية المهدِّدة لكيان الدولة، كما اعتبره البعض «حيلة» مؤسّساتية يقلّص بها الرئيس من سلطات مجلس النواب القادم، الذي يتوقّع الرئيس أن تكون الأغلبية فيه ضدّ سياسته.
الأجوبة المفقودة على رهانات «نعم» و«لا»
أغلب التونسيين اليوم في حيرة سياسية كبيرة: ماذا سيترتّب على التصويت بنعم؟ وماذا سينجم عن الإجابة بلا؟ وكيف يمكن تحمّل نتائج عدم المشاركة في التصويت إذا رجحت كفّة هذا الخيار أو ذاك؟ كثير من التونسيين يفكرون بالطريقة التالية: مسار 25 تموز 2021 كان ضرورياً وصحيحاً، والرئيس قيس سعيد رجل نظيف اليد ونزيه، على رغم عدم خبرته السياسية وافتقاده كتلة سياسية متينة مسانِدة لمشروعه. وإلى حدّ ما، هو يحاول التفكير من خارج نماذج الديموقراطية المستهلَكة من منظور أنها لم تقدّم حلولاً للمهمَّشين والفقراء والمغلوبين، الذين عادة ما يكونون وقود الثورات. ومشروع الدستور الذي يقدّمه، على رغم العثرات القانونية والشكلية وحتى بعض صياغاته اللغوية غير المستساغة، يضْمن بصفة عامة الحرّيات الفردية، ويرسّخ فكرة الانتماء إلى الثقافة العربية – الإسلامية التي اعترفت بها كلّ الدساتير السابقة ولها شرعية ومقبولية شعبية، وهي فكرة يمكن أن تخدم علاقات البلاد الخارجية الإقليمية. كما أنه يحدّ من أي نشاط سياسي يستخدم العقيدة الإسلامية بتأويل خاص من أجل تحقيق مكاسب سياسية، ويكْفل تجانساً في قرارات وعمل الحكومات ومراقبتها بما يسمح باستقرار الخيارات وتنفيذها. لكنه في الوقت ذاته يطلق يدَي الرئيس ليتحكّم في كلّ آليات عمل الدولة تقريباً من دون محاسبة (نظرياً، يمكن لمجلس النواب والمجلس الوطني للجهات إذا ما اتفقا أن يعزلا الرئيس، لكن هذا عملياً بعيد الاحتمال)، ما يفتح الباب مرّة أخرى للاستبداد الذي ثار ضدّه التونسيون، وهو سيناريو مخيف، لكن ميزته أنه معروف مسبقاً.
الصراع السياسي الذي انخرطت فيه الأحزاب بعد الثورة، همّش المطالب الحقيقية للذين كانوا «حطب الثورة»
أمّا النقطة الغامضة والتي لا جواب شافياً عليها، فهي موضوع المجلس الوطني للجهات: ما هي مرجعياته؟ وما الرهانات الجهوية والمحلّية التي سيثيرها؟ وما تأثيرها على مفهوم المواطنة؟ وما هي تحديداً علاقته بمجلس النواب؟ وعليه، فإن التصويت بنعم سيعني القبول – ولو بكثير من التوجّس – بصلاحيات الرئيس غير المحدودة تقريباً، وبمؤسسة المجلس الوطني للجهات من دون معرفة وظيفتها الدقيقة وكيفية عملها.
وفي المقابل، كثير من التونسيين أيضاً يفكّرون بالطريقة التالية، وهم ينقسمون إلى ثلاث فرق: شقّ راديكالي متمسّك بالمقتضيات الشكلية للقانون، ويَعتبر أن ما أَقدم عليه الرئيس في 25 تموز 2021 باطل دستورياً، وما بُني على باطل فهو باطل، ويطالب بالعودة إلى الحالة الأصلية السابقة، ومع ذلك، فإن بعضهم يعلن – من موقع علماني – أنه ليس ضدّ فكرة إخراج الإسلاميين من الحكم. وفريق ثانٍ وافق سعيد على مبادرته في البداية، بل شجّعه على القيام بها، لكنه تخلّى عن مساندته له عندما لم يَقبل بإشراكه معه في الخطوات الموالية، وتفرّد بالقرارات والمبادرات، ما جعل أطراف هذا الفريق يشعرون بالتهميش وعدم الاعتبار، بل ويَعتبرون العملية تأسيساً جديداً للديكتاتورية، وهؤلاء هم بعض اليسار والوسط الديموقراطي. أمّا الفريق الثالث فهو مكوّن من قوّتَين متضادتَين: الإسلاميون بمختلف أطيافهم (ما عدا بعض الحالات الفردية أو المجموعات قليلة العدد)، وسليلو حزب بن علي المنحلّ والعائد تحت اسم «الحزب الحر الدستوري» (وهو اسم الحزب الذي أسّسه بورقيبة خلال مرحلة الكفاح ضدّ المستعمر). هاتان الكتلتان رافضتان لمسار سعيد، كلّ لأسبابه: الإسلاميون لأنهم يريديون الحفاظ على موقعهم في البرلمان بصفتهم القوة الأولى فيه قبل حلّه، ويدافعون عن موقفهم هذا من منظور دستوري، على رغم اعترافهم بفشل المنظومة التي كانوا جزءاً منها في التعامل مع قضايا البلاد المصيرية.
المسار الذي اتّبعه الرئيس جعل الوضع الدستوري والتطبيقي لمشروعه أكثر تعقيداً
أمّا أعداؤهم الألدّاء من «الدستوري الحر»، فيعارضون وجود الإسلاميين في السلطة تحت أيّ ظرف، وهم سعداء باستهدافهم من طرف رئيس الجمهورية، لكنهم في الوقت نفسه ضدّ سعيد، لأنه يعتبرهم مناهضين للثورة، ويقاومون توجّهاته التي قد تَسحب منهم مكاسبهم التي حصلوا عليها في عهد النظام السابق. وكما هو واضح، فإن القاسم المشترك بين كلّ هؤلاء هو معارضتهم للاستفتاء في المبدأ وفي الشكل والمضمون، وفي المقابل عدم اتّفاقهم على مشروع بديل مقنع. وهنا، يبرز ثقل الأسئلة التي ليست لها إجابة في حالة التصويت بالرفض على الدستور المقترح: فإذا سقط الدستور الجديد، هل يمكن للبرلمان المنحلّ العودة إلى عمله؟ وإذا جرى تفعيل عمل «جبهة الخلاص الوطني» غير المتّفَق بشأنها فهل ستنبثق عنها حكومة؟ وفي هذه الحالة، من أين ستستمدّ الحكومة شرعيتها؟ وإذا حدث فراغ في السلطة، مَن يضمن أن لا يغري ذلك أحداً؟ وإذا لم يستقِل الرئيس بسبب فشل الاستفتاء، هل سيواصل الحُكم بمنظومة حالة الاستثناء حتى 2024 مع كلّ المخاطر التي تحفّ بهذه الوضعية غير العادية وغير المألوفة في تونس؟
من سيتحكّم بنتائج مفترق الطرق العسير هذا؟ إنها نسبة المشاركين في التصويت، وهو ما سنعرفه مساء الإثنين: فإمّا رئيس منفلت من كلّ قيود الرقابة وغير واضح ماذا سيفعل بهامش الحرية الضخم ذاك، والأخطر من ذلك كيف سيتصرّف مَن سيأتي بَعده بهذه الحرية؛ وإمّا عدد غير قليل من اللاأجوبة على كثير من الأسئلة المصيرية، في ظلّ غياب تحالف متين يترجم الرفض إلى مشروع مقبول.
الأخبار