الثلاثاء 02 نيسان 2019
مجلة وفاء wafaamagazine
كتبت الإعلامية الشاعرة دينا خياط
ديوان” أنثى تشاكس العتمة ” للشاعرة الإعلامية وفاء بيضون والصادرعن دار الفارابي، ملفتٌ بأجزائه الأربعة : سفر الانتظار _ رنين الهمس والمطر – عند منعطفات الصمت و بوح الياسمين .. عناوين أربعة تسافر بنا بين انتظار وهمس .. ومن ثم صمت وبوح.
تبدأ وفاء ديوانها بأولى القصائد ” حضن أمي ” .. وكأنما بها تترجم عنوان الديوان ألا وهو الخروجُ من العتمة إلى الضوء .. إلى الحياة من رحم هذه الأم الحنون التي وإن غابت عن الدنيا إلا أنها ما زالت تسامرها وتعيش على ذكراها .. فهي رفيقةُ دربها حاضرة بروحها .. يرنُّ صوتُ دعائها في أذن شاعرتنا البنت المُحبة وفاء تسمعها تردد “الله يحنن خلقو فيك ” …
وتستمر الشاعرة في استذكار هذه الأم بشوقٍ كبير لها .. والتي هي بسمةُ الروح والمعطاءةُ دون حدود .. فتجاعيدُ وجهها ما هي إلا لآلئُ ماءٍ رُسمَت بنهر العطاء .. فعبدَّت لها ولإخوتها سبيل الحياة .
وبالرغم من عظمةِ هذه الأم .. إلا أنها لم تغفل عمن كان سبباً في وجودها ودعمها .. ذاك الأبُ الذي تترقبُ عودته .. هي والتلال الخضراء ليحققَ لها أحلامها .. وكأنما هو بطلها الذي بيده عصىً سحرية يُطرز لها من الطيور المغرّدة أشرعةَ الأقحوان .
ولا تنسى وفاء في خضم مشاعرها أنها أم .. فتقفُ إلى جانب ابنها .. تدعمه في أزمته .. تدعوه ألا يأبه لشدة الرياح عندما تأتي العاصفة .. تجبرُه بحنان أن يكونَ شُهُباً يخترق الشمسَ ويجاور نجوم العتم .. ولا تغفل أن تُسَلحَهُ بدعائها لأن عينَ الله لا تنام ..
ثم بعدها تعود إلى الأنثى داخلها .. تطالبُ الحبيبَ أن يردَّها إليه .. فمن روحِ البيلسان أينعت مواسمُ قصائدها رسائلَ مضاءةً علَّ خُطاها تُوصلُها إلى مزار أسفارها .
في القسم الثاني من الديوان “رنين الهمس والمطر” .. مجموعة من القصائد الوجدانية التي تحاكي الحبيب الحلم ….. حتى لنُحار بين الواقع والحلم، فنسترسل معها على وقع دندنات نوتاتِ الشاعرة مع ارتشافنا فنجانَ قهوةٍ وقصيدة ..
أما المطر فهو حياة أُخرى ومن نُبواءته تتسلل خفيةً عنها إليها .. حتى لوهلةٍ تسألُ نفسَها أَحُلُمٌ هي أم يقظة .. ؟!! فتتحول إلى جنيةٍ خفيةٍ .. فراشةٍ تُساهرُ الوصلَ حينَ يضُمُها .. وفي جيبه الصغير تختبئ ناحيةَ القلبِ متلصصةً حيناً .. وحيناً أسيرةً له .. قصيدةً في فنجانِ قهوته .. تدعوه لترك العناد فهو ما زال لها .. وهو في كفها ” نُبوءةُ المطر “..
والذاكرة حُبلى بالنقوش التي لن تمحوَها أزاميلُ الروزنامات العتيقة .. فالنبضُ يدقُ بابَ الذاكرة مع كل خفقة قلبٓ على أوتارِ وردة .. في وصالٍ ملعونٍ ومناجاةٍ فوق ضريحِ الأسلاف المنفيين ..
طفلةٌ هي أمامَهُ .. تستودعُ ملامحَها روحَهُ .. كيف لا؟ .. ومن معطَفِه تُشرقُ قُمصانُ يوسفَ … طفلةٌ تُسدلُ جدائلَها على كتفِ المساء .. أصدرَت عليه حُكمها بالسجن بينَ قُضبان القلب والعين وأزهار قصائدها .. فالحبُّ – كما هي – لا يتكرر .. تقاسيمٌ على وترِ بسمتِه المزروعةِ في أعماقِ الوجد والبال .. ترشَحُ عطراً كلما اشتاقت إليه .. فلا خلاصَ من حبه .. هو من أغوتها لغةُ عينيه فجعلَها تُبحرُ في زُرقتهما وتغوصُ في الأعماقِ سَكرى بعطره .. مسلوبَةَ الفؤاد .. تُزهرُ فرحاً عند افتراشه شرايينَ قلبِها وبين مسامات الروح .. يُحييها كزهرةِ رُمانٍ لتجدلَ له حبَها قصائدَ عشقٍ وخلودٍ عبر الزمان ..
وفي المقابل هو أرادَ أن يُخفي اضطرامَ تلكَ الخلجات بابتسامة مائلة لكنه أخفقَ / تعثَّر … و كزُليخةَ افترشَ الناي وسادةَ غرام .. ولأجله لم تعُد تُبالي .. نزعت أسلحتَها .. قدّمت أشعارَها .. رسمتهُ على عين الشمس بسمةً تُشرقُ في قلبها وطناً .. خبأته في كوخٍ ريفي خاطت أزرارَ حيطانه شموعاً وردية وكللته ملكاً على عرش الوصال .. مع أنها تخشى رحيلَه بصمت .. وأن يتمرَّد عليها وفي الرحيل ألا يتردد .. فتُذكّره أنها جعلتهُ كلَّها وأنها جرحُهُ والبلسم / خارطةُ النبض / وَشمُ الروح والمعصم .. قد علّمتهُ طقوسَ العشق وجعلت قِبلَتَهُ محرابَ عينيها .. فلا مفرّ له منها وهي المُطرزةُ بخيوطِ أنفاسه الموغلة في حنايا المسامات كموج البحر .. ومن حبِّها الضارب في الأعماق كالأوتاد في ميناء عمره .
أما في القسم الثالث ” عند منعطفات الصمت ” .. نجد أن الصمت هو لغةُ تعبيرٍ عند الشاعرة وفاء بيضون.. فالصمت أضواءٌ خافتة تستيقظُ على صوتِ مزمارِ فجر صباحاتٍ ناعمة كنبضِ قيثارةٍ .. ترسمُ بالعين على وجهِ السماءِ حكايةً عبر الأثير.
لكن الصمت لم يعُد مجدياً .. ونحنُ نزحفُ ثكالى في ظُلمة الجُلجُلة .. سنواتٌ تُعاني لسعاتِ الزمن .. خافَ الليلُ من لونها الحالك .. فأضاءَ نجومَه بانتظار ولادة تغزلُ النورَ ياقوتاً .. يتلألأُ في عينِ المستحيل.
وعلى جدار الزمن .. يُباغتُها عصفُ السنين وأوراقُ الصحف .. أنصابٌ تذكارية تسيرُ على أهداب الزمن لتزهوَ ياسميناً سرمدياً على رمشِ السماء ..
وبصمتٍ تغادرُها أحلامُها دون موعد .. في وادي الفصول تنتظر همسَ المزمارِ في عيونِ الغيم .. حاملةً قمحاً وعطراً يتوسدُ الشذا على مفرق الحنين ..
والانتظار هذا .. والترحال .. ما زاداها إلا شغفاً وحباً .. ولو لم تسمح لها الأيام باللقاء فإنها وإن عجزَت .. فهي ما زال الأملُ يسكنُها .. لتطأ قارعةَ الحُجب في معراج الروح قبل أُفولِ جمرها ورمادها ..
ومع الأمل ينتابُها تناقضٌ في الشعور … الخوفُ من العمر الذي يمضي في صحراء الأماني .. وقطارُ العمر مسرعٌ لا ينتظرُنا ونحنُ غافلون ساهون ..
وفي لحظةِ مُشاكسة … يتحوّلُ صمتُها إلى حالةٍ صوفية روحانية لتعرُجَ على وقع الهوى ابتهاجاً كمشكاةٍ مُضاءة .. تُبدّدُ حلكةَ سُدُم النجوم في نعيم وسرور .. حين تتساءلُ ” أين السبيلُ والعمرُ يمضي .. بعضُ خطىً ويستريح.” …. أو حين تقول ” ماطرةٌ هي ألوانُ الشعر وثمةَ حروفٌ تسكنُ الضفافَ وتُربةُ حياة لتُورقَ ثمرةً وفكرةً في مواسم الخلود.”
وتختم الشاعرة وفاء بيضون ديوانها بالفصل الأخير بعنوان “بوح الياسمين” .. وهو بوحٌ من نوعٍ آخر … بوحٌ وطني بامتياز .. في حبِّ الوطن ومدينتها بنت جبيل .. مدينة الياسمين التي نزَفَت فنسجَت تسبيحاً عانقَ حدودَ السماء .. فجعلت مدينتها قمرَ المدائن .. تفرشُ البسمات على أهداب النجمات، كموسم حصاد يتراقصُ في خاصرة الندى والأمطار ..
أما ذاكرتها .. فتفيضُ حباً ووفاءً للأبطال الذين ذادوا ودافعوا عن أرضهم ووطنهم .. والذين من أضلعهم غزلوا الرصاصَ.. غرسوا العزَّ وتداً في قِمم الصوان .. لتتوحدَ الراياتُ على أسطح المآذن وأجراس الكنائس لقهر الألم .. مُبشرةً بيوم القيامة والخلاص ..
وفي الختام .. لا يسعُنا القول إلا أن الشاعرة وفاء بيضون هي إنسانةٌ قبل أن تكون شاعرة واعلامية .. وما مشاكستها للعتمة إلا لدحرِ الجهلِ والظلم والظلامية .. عسى أن يصلَ العالمُ يوماً إلى نور المحبة وينعمَ بالسلام والأمان .