مجلة وفاء wafaamagazine
شكّل إصرار الرئيس نبيه بري على تمثيل «التيار الوطني الحر» في الحكومة المقبلة علامة فارقة في المشهد السياسي، خلال الأيام الماضية. ليس هذا فقط، بل إنّه ربط مشاركة حركة «امل» في الحكومة بانضمام «التيار» اليها، الأمر الذي حظي بالتقدير في «ميرنا الشالوحي». هكذا، وحين قرّر الرئيس سعد الحريري ان يضع «فيتو» على باسيل، فتح له بري ذراعيه.. وإنّ «النبيه» من الإشارة يفهم!
مرّت العلاقة بين بري والوزير باسيل في محطات صعبة أثناء المرحلة الماضية، وهي وصلت مراراً الى حافة اللاعودة نتيجة تفاعل عوامل متراكمة من تباعد المصالح السياسية وتضارب الحسابات وانعدام الثقة وتعارض المقاربات للملفات الداخلية، وصولاً الى النقص في الكيمياء المتبادلة على المستوى الشخصي.
لم يكن بري يرتاح الى نمط سلوك باسيل وطريقة تعامله مع تعقيدات الواقع اللبناني، آخذاً عليه استسهال العبث بالتوازنات الداخلية والافراط في استخدام اللغة الطائفية تحت شعار استعادة الحقوق المسيحية، بل إنّ رئيس المجلس النيابي كان يمتعض احياناً من الدلال الذي يلقاه باسيل لدى قيادة «حزب الله»، ويدعوها الى الضغط عليه للتخفيف من اندفاعته.
أما نظرة باسيل الى بري فلم تكن بدورها افضل، بعدما صنّفه في النصف الاول من الولاية الرئاسية الحالية ضمن المنظومة الداخلية التي تعرقل مسيرة الإصلاح والتغيير، وتحاصر عهد الرئيس ميشال عون. كذلك، كان رئيس «التيار» يلوم «حزب الله» على مسايرته رئيس المجلس زيادة عن اللزوم، مطالباً إيّاه بالتحرّر من هذا الاعتبار والانخراط بشكل أعمق في مشروع إعادة بناء الدولة، ولو استدعى ذلك أن يقف على مسافة من حليفه الاستراتيجي في الطائفة الشيعية.
وواقع الأمر، أنّ «الحزب» كان ولا يزال حريصاً على حماية تحالفه مع كل من حركة «امل» و«التيار الحر» في آن واحد لأسباب جوهرية تتعلق بضرورات تحصين التوازن الداخلي، من جهة، وبمتطلبات حماية خيار المقاومة، من جهة أخرى، وبالتالي هو تحمّل كثيراً عبء نزاعاتهما وأخذ على عاتقه السعي الى معالجتها واحتواء تداعياتها، كلما دعت الحاجة، على قاعدة أنّه ليس في وارد ان يخسر أحدهما لحساب الآخر مهما اشتد الضغط عليه للمفاضلة بينهما.
لكن هذا الكرّ والفرّ بين «أمل» و«التيار» في دهاليز اللعبة السياسية تحوّل في الفترة الاخيرة الى شيء من «السمن والعسل»، بعدما شعر الطرفان بأنّ مرحلة ما بعد 17 تشرين الاول لم تعد تحتمل المناكفات التقليدية بينهما، وأنّ ما يفرّقهما أصبح ثانوياً قياساً بحجم المخاطر الداهمة التي عزّزت حاجة كل منهما الى الآخر.
وتحت سقف الاولويات المعدّلة، فإنّ بري المتخصص بالتقاط نبض اللحظات المفصلية والتعامل معها على طريقته، لم يتأخّر في توجيه رسالة سياسية بليغة الدلالات الى باسيل، عبر النائب سليم عون، فحواها التمسّك ببقاء «التيار» في الحكومة الجديدة بعد تلاحق الاشارات حول نيته الانتقال الى المعارضة.
وعندما زار وزير الخارجية في اليوم التالي رئيس المجلس في «عين التينة» سمع منه أكثر من ذلك، إذ اكّد له بري أنّ «أمل» ستمتنع عن المشاركة في الحكومة المقبلة، إن رفض «التيار» الانخراط فيها، محاولاً اقناعه بعدم إقفال أبواب العودة اليها، وهذا ما يفسّر أنّ باسيل ترك في مؤتمره الصحافي الاخير هامشاً، ولو ضيّقاً، أمام احتمال التراجع عن قرار المقاطعة ربطاً بشروط محدّدة.
والقريبون من بري استشعروا في الآونة الأخيرة انّه أصبح متفهماً أكثر من اي وقت مضى الشكوى التي كان يبديها أحياناً الرئيس ميشال عون حيال بعض تصرفات الرئيس سعد الحريري، بعدما اختبر بنفسه تقلّبات الحريري المتكرّرة، بدءاً من لحظة استقالته المباغتة، خلافاً للإشارات المعاكسة التي تبلّغتها «عين التينة» في حينه، وصولاً الى مناوراته اللاحقة التي تضمّنت انقلاباً على اسماء مرشحة للتكليف بعدما جرى التوافق عليها.
ومع ذلك، فإنّ بري المعروف بحساسيته المفرطة إزاء أي تجاوز للميثاقية، بقي مصراً على تسمية الحريري او من يختاره لرئاسة الحكومة، بمعزل عن «بارومتر» عواطفه الشخصية حيال رئيس «تيار المستقبل»، والتي انخفضت حرارتها خلال الاسابيع الماضية تحت وطأة الامتعاض من الخيارات التي اعتمدها الحريري في مقاربة تحدّيات ما بعد 17 تشرين.
والمعيار الميثاقي نفسه هو الذي دفع ببري الى تجميد خلافاته مع «التيار» و«التطوع» على نفقته السياسية للدفاع عن الحضور البرتقالي في التركيبة الوزارية، والذي ترتبط أهميته في رأي رئيس المجلس بمقتضيات حماية التوازن الوطني والتمثيل الصحيح، خصوصاً انّه سبق له أن عانى، الى جانب «حزب الله»، من مفاعيل الخلل في الحكومة «المبتورة» في ايام الرئيس فؤاد السنيورة.
بالنسبة الى بري، لا تستقيم الشراكة من دون ضمان حقوق حتى من هم خصوم له في السياسة، فكيف بمن يلتقي معه في الخطوط الاستراتيجية العريضة المتعلقة بالموقف من المقاومة والصراع مع اسرائيل وأطماعها، إضافة الى اقتناعه بأنّ التصدّي للأزمة الاقتصادية المالية الحادّة يتطلب أوسع مشاركة ممكنة في تحمّل المسؤولية وصنع القرارات التي قد تكون صعبة في جزء منها.
ويؤكّد العارفون، أنّ الحرص الذي أبداه بري على التمثيل البرتقالي في الحكومة ترك صدى ايجابياً واسعاً في صفوف «التيار» الذي خذله البعض، ممن كانوا شركاء له في تفاهمات وطنية او مسيحية، عندما تراءى لهم أنّ الضغط اشتد عليه، وأنّه بات محاصراً في زاوية ضيّقة، بينما تعامل معه رئيس المجلس بطريقة أخرى عكست تحسسه بالمسؤولية في المحطات الدقيقة، كما يؤكّد أحد مسؤولي «التيار».
الجمهورية – عماد مرمل